ملخص: لمَ يشعر البعض بفجوة كبيرة بين سنه المشار إليها في أوراقه الثبوتية وتلك التي يشعر بها في داخله؟ وكيف يمكن لمن بلغ الستين أن يؤكد أنه ما زال شاباً في الثلاثين؟ وما العوامل التي تحارب شيخوخة النفس؟ تشير بطاقة الأحوال المدنية إلى سن الشخص المقاسة باليوم والشهر والسنة؛ لكنها تختلف عن تلك التي يشعر بها في داخله أو ما تسمَّى "السن المدركة"، وغالباً ما تكون الاختلافات بينهما كبيرة جداً، فما الذي يجعلنا نشعر أننا أصغر كثيراً مما نحن عليه في الواقع؟
محتويات المقال
في سن العاشرة، كنتُ أشعر أنني بالغة، وفي الثانية والثلاثين كنت أمر بأزمة منتصف العمر؛ لكن عندما أصبحت في السادسة والثلاثين من عمري كنت أرى نفسي أصغر سناً من النواحي جميعها. وذات مرة، شعرت بإحباط شديد حينما قال لي شخص وقح بعد أن أخبرته بسني: "حقاً؟ ظننتك أكبر من ذلك!".
في سن الثانية والأربعين بدوت أصغر بكثير؛ وكأنني بالكاد أبلغ الخامسة والعشرين، وكنت أشعر بثقة كبيرة بنفسي؛ لكن بعد بضع سنوات شعرتُ أنني بلغت الخامسة والستين. يقول والدي الذي يتمتع بحالة نفسية وصحية سليمة بثقة إنه يبلغ السادسة والخمسين؛ في حين أنه كان على وشك استقبال عيد ميلاده الثامن والسبعين بكل سرور، وفي الحقيقة، أظن أن رؤيته للحياة واهتماماته تجعله أقرب إلى شاب في الثلاثين من عمره، فهل يُعقل أن يكون أبي أصغر سناً مني؟
بين سننا المشار إليها في أوراقنا الثبوتية وتلك التي نشعر بها في داخلنا فجوة مذهلة أغلب الأحيان، ولا عجب في ذلك بالنسبة إلى مدرسة التحليل النفسي الفرويدي التي ترى أن اللاوعي يتجاهل الزمن؛ وهذا ما يساعدنا على تذكر أحداث من مرحلة الطفولة وكأنها حدثت البارحة.
يقول المحاضر في الجامعة الكاثوليكية في الغرب (Catholic University of the West) بمدينة أونجيه وكما يسمي نفسه "عالم نفس المراحل العمرية"، كريستيان هيسلون (Christian Heslon): "تعيش رغبات الطفولة وعقدها النفسية في داخلنا". يحمل الإنسان الراشد في داخله دائماً ذلك الطفل المرح والمتمرد والأناني، ويتضح لدى المعالج النفسي أكثر أوهام الخلود الموجودة في ذهنه، فعلى الرغم من معرفتنا جميعاً أننا سنتقدم في السن ونموت في النهاية، يواصل جانب منا تجاهل هذه الحقيقة.
كيف تحافظ على شبابك رغم تقدمك في العمر؟
في خمسينيات القرن الماضي، أثبت علماء أميركيون هذه الظاهرة بعد أن أجروا مقابلات مع أشخاص طاعنين في السن. وللمفاجأة، فقد ظهر أن معظمهم يشعر بأنه أصغر سناً بكثير، وأن البعض ممن تجاوز الخامسة والثمانين كان يشعر بأنه يتمتع بالشباب الدائم. وفي عام 1972، ابتكر الباحث الأميركي روبرت كاستنباوم (Robert Kastenbaum) مقياساً لتحديد "السن الذاتية" آخذاً في الاعتبار 4 معايير: المشاعر، والمظهر الجسدي، والاهتمامات، والحيوية.
في عام 2001، طوّر الباحث وأستاذ التسويق بجامعة باريس دوفين (Paris-Dauphine University)، دوني غيو (Denis Guiot) من هذا المقياس طريقة لحساب السن الحقيقية التي يشعر المرء في داخله أنه وصل إليها، ويقول: "يرغب المراهقون في أن يكبروا ويحصلوا على مزيد من الاستقلالية والحرية ويتمكنوا من فرض أنفسهم".
ثمة فرق ضئيل بين السن المدركة والسن الزمنية لدى الشباب الذين يبلغون 22-34 عاماً، وهو نحو سنة وشهرين في المتوسط. من جهة أخرى، تكبر هذه الفجوة مع بلوغ الخامسة والثلاثين، فكلما تقدمنا في السن شعرنا أننا أصغر، وتستمر الفجوة في الاتساع لتتراوح بين 10 و15 عاماً بعد سن الأربعين، وقُرابة 20 عاماً بعد سن الستين، ويوضح دوني غيو إن بعض من يبلغون الستينيات من العمر وما زال مفعماً بالحيوية والمرح والرغبة في الاستمتاع بالحياة يشعر بأنه أصغر بثلاثين عاماً، فقد ترى رجلاً بلغ الخامسة والستين بالكاد يبدو في الخامسة والثلاثين، وهذا مذهل بحق!
وفقاً لكريستيان هيسلون؛ فإن هذه الفجوة بين السن الحقيقية والمدركة هي تدبير وقائي ضد عبثية الحياة، ويقول: "كلما كبر المرء ازداد شعوره بأن السن وهم، فمع التقدم في العمر تزداد سرعة الزمن بالنسبة إلينا أكثر فأكثر إلى درجة أننا لا نعود قادرين على استيعابه". تمثل سنة واحدة مدة طويلة جداً من العمر بالنسبة إلى الطفل الصغير، أما في الخمسينيات من العمر فلا ننتبه إلى أن الزمن يمضي إلا كل 10 سنوات؛ ولذلك فإننا نتعجب من السرعة التي يمضي بها. لكن العجوز البالغ من العمر 85 عاماً يشعر بأن 25 أو 30 سنة قد مرت حينما تمر 50 أو 60 سنة.
الحب: ترياق مضاد للشيخوخة
يوضح مختص علم النفس إن ثمة عواملَ تؤثر في تحديد السن الذاتية، ويقول: "الحب في أي سن هو ترياق مضاد للشيخوخة الداخلية". أما العامل الجوهري الآخر فهو تقدير الذات؛ الذي كلما ازداد صارت السن الذاتية أقل من السن الزمنية، ثم يأتي الوضع الاجتماعي والاقتصادي، والأهم من ذلك الاندماج الاجتماعي: "كلما زاد اندماج الفرد الاجتماعي شعر أنه أصغر سناً"، وأخيراً الحالة الصحية: يتسبب الاكتئاب والمرض والعجز بزيادة السن الذاتية.
إضافةً إلى ذلك، يجب تجنُّب الشكوك الوجودية وأزمات الهوية التي تسبب القلق والشيخوخة النفسية، ويضيف دوني غيو: "إذا لم يُعانِ الأفراد أمراضاً خطِرة وصدمات عاطفية وخسائر فادحة، فإنهم يشعرون عموماً بأنهم أصغر سناً". من جهة أخرى، يمكن أن يشعر المرء الذي تعرض إلى محن مثل الفصل من العمل أو خسارة عزيز أنه كبر 10 سنوات في غضون ساعات قليلة.
أحداث الحياة تسبب الشيخوخة الذاتية
بصورة عامة، تحدث الشيخوخة الذاتية على عدة مراحل، تبدأ بمغادرة الأبناء المنزل مثلاً، ثم الدخول في سن انقطاع الطمث، ثم ولادة الأحفاد، والجدير بالذكر هنا إن الناس لا يتفاعلون عاطفياً مع المواقف الصعبة بالشدة ذاتها، فأولئك الذين يواصلون التفكير في المستقبل ويتسمون بالتفاؤل يشعرون بأنهم أصغر سناً على الرغم من تعرضهم لهذه المواقف.
الزمن حقيقي وليس مجرد وهم: على الرغم مما سبق، فإن الاحتفال بأعياد ميلادنا، ولا سيّما تلك التي نُتمُّ بها عقداً من العمر (عيد الميلاد العاشر والعشرين والثلاثين، إلخ)، تذكّرنا بأن الزمن حقيقي وليس وهماً، فمهما كنا نتمتع بمخيلة قوية لن نتمكن من إخفاء سننا الزمنية. ينسى الطاعنون في السن ما بلغوه من العمر؛ لكن الأمر ليس بتلك السهولة بالنسبة إلينا إذ إننا نشعر بالحيرة ونتساءل: ما الذي يجب أن نصدقه؟ التقويم الذي لا يكذب؟ أم الطفل الذي ما زال قابعاً داخل كل منا والذي يشجعنا على عيش الحياة وكأننا سنحيا إلى الأبد؟ بالنسبة إليّ، لم أتمكن من اتخاذ قراري بعد.
كيف تحسب سنك الذاتية؟
- أشعر في أعماقي أنني أبلغ [...] عاماً.
- من ناحية المظهر الجسدي، أشعر أنني أبلغ [...] عاماً.
- لديّ الآن الاهتمامات ذاتها التي كانت لديّ حينما كنت في الـ [...] من عمري.
- عموماً، أتمتع بالحيوية ذاتها التي كانت لديّ عندما كنت في سن الـ [...].
اجمع الأرقام التي وضعتها وقسّم الناتج على 4، لتظهر لك سنّك الذاتية، وهذه الطريقة الحسابية هي وفق مقياس كاستنباوم الذي قدمه في كتابه "نبذة عن سيكولوجية ذكرى الميلاد" (Little Psychology of the birthday).
تجارب شخصية
نجوى: تبلغ من العمر 58 عاماً، وتعمل منظمة رحلات
السن الذاتية: 39 عاماً.
تقول نجوى: "نظرت في المرآة وقلت: "مَن هذه؟ لا يمكن لهذه المرأة الكهلة أن تكون أنا!"، وقد ولّدت هذه المواجهة الوحشية مع المرآة لديّ شعوراً بأنني شِخت كثيراً. كنت أرى نفسي شخصاً آخر؛ لكن الشباب الذين يفسحون لي الطريق والبائعة التي تكلمني بتهذيب شديد كانوا يذكرونني بسني دائماً.
أشعر غالباً بأنني مراهقة غير مدركة للتحولات التي أحدثها بها الزمن، وعندما أتحدث إلى شخص ستيني أو سبعيني، أشعر أنني فتاة صغيرة. أرغب في ارتداء بنطال جينز لكنني أمنع نفسي من ذلك خوفاً من أن أبدو متصابية؛ لكن ما الذي يمكنني ارتداؤه؟ لا أعرف. أشعر أنه ما زال لديّ الكثير من الأفكار، ومن المحتمل أن تتغير أذواقي وعواطفي تغيراً جذرياً؛ لذلك أنا أختلف تماماً مع أبناء جيلي حينما أسمعهم يقولون بنبرة جازمة: لن نتغير أبداً بعد أن بلغنا هذه السن، فأنا آمل أن أواصل التطور حتى آخر يوم في حياتي!".
سمية: تبلغ من العمر 30 عاماً، وتعمل مصممة
السن الذاتية: 28 عاماً.
تقول سمية: "مع بلوغي الرابعة من عمري، لم أعد أسمح لأمي بتحضير الإفطار لي؛ إذ كنت أنهض فجراً لتحضيره بنفسي ظناً مني أنني كبرت بما يكفي لأكون مسؤولة عن ذلك. فضّلت رفقة البالغين على رفقة الأطفال الذين كانوا يزعجونني، وكان من النادر أن أشعر بالرضا حين أمضي الوقت رفقة أشخاص في مثل سني، وكان أصدقائي معظمهم أكبر مني، والآن لا أشعر بفارق كبير في السن بيني وبين زوجي الذي يبلغ من العمر 44 عاماً، وبصراحة فإن فكرة أنني الأصغر في المجموعة جعلتني أشعر بالراحة، ولا سيّما أنني كنت شديدة الخجل.
كانت فكرة التقدم في العمر تُسعدني حتى بلغت سن الحادية والعشرين، فقد كان الأمر ذا رمزية كبيرة لأنني أصبحت راشدة، وبعد ذلك تغيّر كل شيء، فصار اقتراب عيد ميلادي سبباً للذعر والاكتئاب. بلغت الثلاثين لتوّي، ولم أتصور يوماً أنني سأصل هذه السن وأظن أنني سأتقبل الأمر بعد 10 سنوات حينما يقول لي الآخرون: "لا بد أنك في الثلاثين من عمرك، صحيح؟" في حين أنني أكبر من ذلك بكثير. أرى اليوم نفسي شخصاً يتقدم في السن ويضعف ويعاني مشكلات صحية وذلك لصالح الاستقرار المهني، قد يمثل التقدم في السن بالنسبة إلى البعض نضجاً أما أنا فأرى أنه بداية النهاية"!
رؤى: تبلغ من العمر 42 عاماً، وتعمل مدرّسة لغة إنجليزية
السن الذاتية: 31 عاماً.
تقول رؤى: "أنا مثل كثيرين ممن يشعرون بأنهم أصغر بـ 10 سنوات، وهذا يمنحني اطمئناناً، وينير ذهني. أنا أشعر بالفعل بأنني أصغر سناً من ناحية مظهري، فأنا أفضّل ارتداء الجينز والأحذية الرياضية على ارتداء التنانير والكعوب العالية. ومن ناحية حياتي الشخصية، فأنا لم أنشئ أسرة كما لم أدخل في علاقة عاطفية. أما في حياتي المهنية، فأشعر أنني أكبر سناً وأكثر نضجاً لأن ما تعلمته يعادل 70 عاماً ولأنني مستقلة منذ سن مبكرة. في السابعة من عمري، كنت أرتب سريري بنفسي وأذهب إلى المدرسة بمفردي كما كنت أتناول العشاء بمفردي أحياناً؛ ولذلك كنت أشعر أنني أكثر نضجاً من أقراني في الصف، كنت الطفلة الوحيدة بين والديّ اللذين تزوجا في سن مبكرة جداً.
بدأت العمل مبكراً جداً أيضاً وفي سن الثانية والعشرين كنت أكسب نفقات معيشتي؛ لكن حينما بلغت الثلاثين شعرت أنني تقدمت جداً في السن. أدركت بعد ذلك أن جسدي يحتاج إلى رعاية، وأن عليّ ألا أستنفذ طاقتي وأنني لن أعيش إلى الأبد؛ وكأنني، حتى ذلك الحين، عشت وسافرت وأحببت وعملت دون تفكير في الأمر، ولقد سبب لي هذا العقد من عمري الكثير من الكآبة. منذ كنت في الخامسة والثلاثين اعتدت أن أقول أنني أبلغ الأربعين؛ لذلك كنت مستعدة نفسياً لليوم الذي بلغت فيه الأربعين فعلاً، ولم يسبب لي الأمر أزمة؛ لكنني أنوي البقاء في هذه السن لفترة من الزمن!".