لا زلت أذكر بوضوح حادثة من أيام الدراسة؛ حينما استنزفت مسألة رياضية صعبة كل طاقتي وتركيزي. وبعد تفكير معمق ومحاولات لا تحصى للحل، قررت الاستسلام والانصراف إلى مهام أخرى. وبينما كنت أنظف الأطباق، لمع الحل في ذهني ببساطة هكذا دون سابق إنذار. وبالطبع، أثارت تلك اللحظات المفاجئة من الإلهام موجة من المشاعر الإيجابية واليقين وحفرت ذكراها عميقاً في ذاكرتي.
محتويات المقال
هذه اللحظات الغريبة من البصيرة التي تجعل الإنسان يصيح "وجدتها" أو "آها!" هي موضوع هذا المقال. فما الذي يحصل ضمن الدماغ في أثناء هذه اللحظات؟ وكيف يمكن تعزيز فرص حدوثها؟ إليك التفاصيل.
اقرأ أيضاً: كيف يمكن لأي شخص أن يصبح مبدعاً؟
ماذا يحدث في الدماغ خلال لحظات الإلهام؟ دراسة حديثة تجيب
بينت دراسة حديثة منشورة في مجلة نيتشر كومينيكيشن في مايو/أيار 2025 أن هذه الومضات من الإدراك، التي يمكن تسميها بالتبصر الإبداعي، لا تساعد على حل المشكلات فقط، بل تترك أثراً أكبر في الذاكرة.
حيث استخدم الباحثون فحوص الرنين المغناطيسي الوظيفي لمراقبة ما يحدث في الدماغ عند حل الأشخاص للألغاز البصرية، المعروفة باسم صور موني. تخفي هذه الصور عالية التباين بالأبيض والأسود أشياء تصبح فجأة قابلة للتمييز، ما يثير ذلك الشعور المميز: "آها!".
وتوصلوا إلى أن الدماغ يخضع خلال هذه اللحظات لما يسمى بتغيير التمثيل؛ وهي إعادة تنظيم سريعة لكيفية معالجة المعلومات ودمجها في مناطق دماغية محددة، ما يؤدي إلى ظهور مفاجئ للحل الذي يثير المشاعر الإيجابية واليقين ويترسخ في الذاكرة. أما المناطق الدماغية التي تفاعلت خلال هذه العملية، فهي:
- القشرة القذالية الصدغية البطنية: خصوصاً التلفيف المغزلي الخلفي والقشرة القذالية الجانبية السفلية، وهي مراكز المعالجة البصرية التي تساعد في التعرف على الأشياء، خاصة الوجوه والأشكال المعقدة. وقد كانت هذه المناطق نشطة بصورة خاصة في اللحظة التي تعرف فيها المشاركون إلى الصورة، ما يعني أن الدماغ أعاد تنظيم المعلومات البصرية فجأة إلى نمط ذي معنى؛ أي لم يكتف برؤية الصورة، بل أعاد تفسيرها.
- اللوزة الدماغية: وهي مسؤولة عن معالجة المشاعر. ويشير زيادة النشاط في هذه المنطقة خلال لحظة الإلهام إلى زيادة في الاستجابة العاطفية الإيجابية، وكأنها مكافأة صغيرة لحل اللغز.
- الحصين: وهو مركز الذاكرة في الدماغ، والمسؤول عن تكوين ذكريات جديدة وربطها بالمعرفة الموجودة. وقد زاد نشاط الحصين في تلك اللحظات، كما استجاب الجزء الأمامي منه بدرجة أقوى عندما شعر المشاركون باليقين تجاه حلولهم. ساعد تنشيط الحصين على ربط الرؤية الجديدة بشبكات الذاكرة، فدونه سيكون الإلهام مجرد لحظة عابرة. يبدو الأمر كما لو أن الحصين يأخذ الصورة التي أنشأها التلفيف المغزلي ويحفظها في مجلد الذاكرة طويلة الأمد.
الأهم من ذلك، وجد الباحثون أن هذه المناطق لا تعمل خلال لحظات الإلهام منفردةً، بل تكون شبكة مترابطة بإحكام فيما بينها، ما يجعل هذه اللحظات مؤثرة ولا تنسى.
كيف تؤثر لحظات الإلهام هذه في عملية التعلم؟
بخلاف التعلم التقليدي الذي يتطلب التكرار غالباً بهدف الحفظ، فإن أساليب التدريس البصرية التي تشجع على الوصول إلى هذه اللحظات من الإلهام يمكن أن تؤدي إلى تعلم أسرع وأكثر رسوخاً. فتجارب التعلم القائمة على الإلهام أو الاستبصار هي تجارب مجزية ومفاجئة ومرضية عاطفياً، وتعمل على تنشيط أنظمة متعددة في الدماغ التي تزيد رسوخ المعلومات في الذاكرة في نهاية المطاف. في الواقع، أظهرت الدراسة أنه كلما كان تغيير التمثيل في القشرة البصرية أقوى ونشاط الحصين أكبر، كان المشاركون أفضل في تذكر الصور بعد 5 أيام.
اقرأ أيضاً: كيف تستغل شرودك الذهني لتحسين صحتك النفسية وزيادة أفكارك الإبداعية؟
3 نصائح لتعزيز التبصر الإبداعي حتى عندما لا تمتلك وقتاً كافياً
لتعزيز العملية الإبداعية للبصيرة أو لحظات الإلهام، يمكن استخدام العديد من الاستراتيجيات، مثل:
1. مارس أنشطة قصيرة وممتعة
فهي تطلق العنان لإبداع الذهن ومرونته. لماذا؟ لأن اللعب يحسن المزاج والمرونة المعرفية؛ أي القدرة على تكوين روابط حديثة وتوليد أفكار جديدة. وقد وجدت دراسة منشورة في دورية هيليون عام 2023 أن المرح في أثناء العمل يرتبط إيجابياً بالسلوك الإبداعي للموظفين، وهو ما دفع الباحثين إلى التوصية بضرورة السماح بمزيد من المتعة في مكان العمل لما له من دور في تحقيق نتائج إيجابية وزيادة الإنتاجية.
لذا جرب الانخراط في ألعاب جماعية سريعة، أو جلسة عصف ذهني مرحة، أو جلسات فكاهية، أو خذ استراحة قصيرة لحل لغز ممتع أو قراءة نكات مضحكة. اجعل ذلك جزءاً من روتينك اليومي.
اقرأ أيضاً: تعرف إلى القوة العلاجية للإبداع الفني
2. انخرط في أحلام اليقظة
ألم تلاحظ سابقاً أنك حينما مررت بتلك اللحظة من الإلهام لم تكن مركزاً فيما تحتاج لإيجاد الحل له، وإنما كنت غالباً شارد الذهن، في أثناء المشي مثلاً أو الاستحمام أو غسيل الأطباق أو غير ذلك. هذا ليس صدفة، فقد بينت دراسة منشورة في دورية القشرة المخية أن الأفكار الإبداعية غالباً ما تظهر حينما تسمح لنفسك بالغرق في أحلام اليقظة بين الحين والآخر.
إذ بينت المسوحات الدماغية أن كلاً من الوظيفة التنفيذية المسؤولة عن حل المشكلات بتركيز، وشبكة الوضع الافتراضي التي تعمل خلال شرود الذهن تؤدي دوراً في التفكير الإبداعي، وأن الأفراد الذين شهدوا إعادة تنظيم وظيفي (استخدام كلا المنطقتين) بين هاتين الشبكتين كانوا أفضل في التوصل إلى حلول متنوعة للمشكلة الواحدة.
لذا لا بأس من تخصيص لحظات يومية قصيرة من 5-10 دقائق لشرود الذهن والحلم كيفما يشاء، فالإبداع يحتاج إلى الخيال والتركيز على السواء. لكن، تجنَّب استخدام الأجهزة الإلكترونية في أثناء الراحة هذه، لأن الإشعارات -أو التصفح- تقاطع أحلام اليقظة الحقيقية.
ومع ذلك، ينبغي أن يكون لأحلام اليقظة حدود، وألا تمتد وقتاً طويلاً، لأن الاستغراق فيها، وفقاً لاستشاري الطب النفسي محمد حمودة، يعوق التكيف مع الواقع، ويسبب خللاً وظيفياً واجتماعياً.
اقرأ أيضاً: أحلام اليقظة ممارسة ذهنية إيجابية وإليك الأسباب
3. اشغل يديك
تبين أن العمل باليدين يحسن الصحة النفسية والأداء الإدراكي بدرجة ملحوظة، ما يعزز القدرة على حل المشكلات بطريقة إبداعية. لذلك خصص بعض الوقت يومياً لأداء هذه الأنشطة، سواء الرسم أو التلوين أو الحياكة أو البستنة أو العزف على آلة موسيقية.