توصلت دراسة بحثية حديثة نشرتها المجلة العربية لبحوث الإعلام والاتصال في ديسمبر/كانون الأول 2024 حول صورة اضطراب التوحد في المنصات الرقمية العربية والأجنبية إلى نتيجة مفادها أن عدداً كبيراً من المسلسلات والأفلام المعروضة عليها تُظهر الأشخاص المصابين بالتوحد على نحو سلبي وغير واقعي، علاوة على ذلك، فإن تلك الأعمال الفنية تخلق صورة مضللة عن الواقع، فما هي أهم نتائج هذه الدراسة؟ وكيف يمكن تقليل وصمة مرضى اضطراب التوحد؟ الإجابة يقدمها هذا المقال.
محتويات المقال
النتائج تؤكد: الصورة التي تظهر في الأعمال الفنية لا تتطابق مع الواقع!
أكدت الدراسة البحثية السابق ذكرها أن منصات المشاهدة الرقمية تحاول في الآونة الأخيرة أن تسلك اتجاهاً مختلفاً حيال المرض النفسي واضطرابات الصحة النفسية والعلاج النفسي، وهو الأمر الذي تجسد بوضوح في المسلسل العربي "خلي بالك من زيزي" الذي رصد شخصية البطلة التي تعاني اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه (ADHD) وعلى الرغم من ذلك فإن هناك عدداً كبيراً من الأعمال الدرامية على منصات المشاهدة الرقمية ما زال يرسم شخصية المريض النفسي بوصفه شخصاً متأخراً ذهنياً وعنيفاً.
وبعد استعراض صورة المريض النفسي والاضطرابات النفسية في الأعمال الفنية للمنصات الرقمية، تنتقل الدراسة إلى التركيز على الصورة النمطية لاضطراب التوحد كما تُصورها منصات المشاهدة الرقمية، حيث تُظهر تلك المنصات مريض التوحد بأنه يتسم بالعنف، وهو ما ظهر جلياً في المسلسل الأميركي الشهير "الطبيب الجيد" (The Good Doctor) في حين أن أقل من 1 من كل 3 أشخاص مصابين بالتوحد يتسم بالعنف.
وفيما يخص الأعمال العربية، رصدت الدراسة مسلسل "حالة خاصة" الذي يحكي قصة نديم أبو سريع وهو محامٍ مُصاب بالتوحد يحاول أن يعيش حياة طبيعية، حيث يلتحق بأحد أكبر مكاتب المحاماة ويُظهر براعة فائقة في حل القضايا المختلفة، وعلى الرغم من أن هذا المسلسل لم يُظهر مريض التوحد على أنه شخص عنيف فإنه نقل صورة غير واقعية.
وقد أكدت الدراسة أن المنصات الرقمية تتناول اضطراب التوحد على نحو سلبي أو مثالي للغاية وغير واقعي، ما يخلق صورة مضللة تترسخ مع مرور الوقت في أذهان المشاهدين، خاصة أولئك الذين لم يصادفوا في محيطهم شخصاً مصاباً بالتوحد، ومن ثم يكوّنون صورتهم الذهنية من خلال الأعمال الفنية.
وفي النهاية، قدمت هذه الدراسة البحثية بعض التوصيات المهمة، أبرزها:
- اهتمام القائمين على الأعمال الفنية الدرامية بتحرّي الأصالة والدقة والبعد عن الأفكار النمطية التي تخص مرض التوحد وغيره من اضطرابات الصحة النفسية.
- مراجعة المعلومات جيداً والرجوع إلى مصادر متعددة وضرورة الاعتماد على معايشة شخص مصاب بالتوحد.
- تفعيل دور الأسرة والمؤسسات التربوية من أجل تعزيز الوعي والقدرة على دعم المصابين بالتوحد ودمجهم في المجتمع وتحفيزهم على الإنجاز والتطور في ظل بيئة آمنة.
اقرأ أيضاً: هل المصاب بالتوحد أذكى من غيره مثلما جاء في مسلسل حالة خاصة؟
ما هي التأثيرات الإيجابية والسلبية لتجسيد اضطراب التوحد في الأعمال الفنية؟
نشرت مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية التربوية (Journal of Education Humanities and Social Sciences) دراسة بحثية حديثة في يونيو/حزيران 2024 أوضحت من خلالها أن الأفلام والمسلسلات تُشكل تصورات المجتمع عن الأفراد المصابين بالتوحد، وأضافت الدراسة أن هناك بعض التأثيرات الإيجابية والسلبية تخص التناول الدرامي لاضطراب التوحد ومن أهم التأثيرات الإيجابية التي استعرضتها الدراسة:
- ساعدت الأعمال الفنية عامة الناس على فهم التوحد والصعوبات والتحديات التي تواجه الأشخاص المصابين بهذا الاضطراب.
- شجعت بعض الأعمال الفنية المزيد من الناس على قبول الأشخاص المصابين بالتوحد ودعمهم وإدماجهم.
- اكتساب بعض المشاهدين فهماً متعمقاً لأعراض التوحد وخصائصه.
فيما بعد، استعرضت الدراسة بعض السلبيات التي تخص التناول الدرامي للأشخاص المصابين بالتوحد، وأهم هذه التأثيرات:
- بعض الأعمال الفنية يمكن أن تترك انطباعاً سلبياً لدى الجمهور، مثل التركيز على عيوب الأشخاص المصابين بالتوحد ومعاناتهم وتجاهل شخصياتهم ونقاط قوتهم.
- إذا كان وصف التوحد في الأفلام والأعمال التلفزيونية غير دقيق أو مبالغاً فيه، سواء في أعراضه أم صعوباته، فقد يتسبب ذلك في سوء الفهم والتحيز لدى الجمهور.
- تبالغ الأعمال الفنية أحياناً في تصوير أعراض التوحد كما تبالغ أيضاً في تجسيد اختلافهم عن الأشخاص العاديين، ما يجعل الأفراد المصابين باضطراب التوحد يشعرون بالإهانة والخجل.
- الصور النمطية السلبية عن التوحد يمكن أن تؤدي إلى سلوك سلبي تجاه المصابين بالتوحد، إضافة إلى أنها تعزز الوصم ضد مرضى التوحد.
كيف يختلف اضطراب التوحد في الواقع عن صورته في الأعمال الفنية؟
هل لاحظت من قبل أن الأشخاص المصابين بالتوحد في الأعمال الفنية على المنصات الرقمية سواء العربية أو الأجنبية يشبهون بعضهم بعضاً؛ حيث يؤدي الممثل دور شخص مصاب بالتوحد يعيش حياته برأس منخفض ويولي اهتماماً جزئياً جداً للعالم الخارجي. وفي الوقت نفسه، يتمتع بمواهب فائقة ومثيرة للإعجاب، وقدرات معرفية متخصصة للغاية. في الحقيقة إن أغلب الأفلام والمسلسلات تختزل شخصية الشخص المصاب بالتوحد في بضعة مكونات نمطية ثم تكررها مثل التعويذة حتى تنتشر.
فيما يخص الأعمال الفنية الأجنبية، فإن أغلب الشخصيات المصابة بالتوحد تقريباً من الرجال البيض، وهذا لا يمثل الواقع أبداً، حيث يضم مجتمع المصابين بالتوحد مجموعة من الأشخاص من الأشكال والأحجام جميعها، فيمكن لأي شخص من أي عرق أو هوية أو أي سمة أخرى أن يكون مصاباً بالتوحد.
علاوة على ذلك، فإن فكرة تجسيد المصابين بالتوحد جميعهم، سواء في الأعمال الأجنبية أم العربية، على أنهم يملكون مواهب ومهارات استثنائية تعد غير واقعية، إضافة إلى أنها تضع عبئاً كبيراً على الأشخاص المصابين بالتوحد في الواقع، إذ يمكن القول إنه قد يمثل علاقة شرطية للقبول، يجب على المصاب بالتوحد أن يكون عبقرياً حتى يتقبله المجتمع أو يتسامح مع أعراضه.
كما تبالغ الأفلام والمسلسلات العربية والأجنبية على المنصات الرقمية في تصوير أعراض التوحد بطريقة متطرفة جداً، على سبيل المثال، قد تُظهر الشخص المصاب بالتوحد غير مرن وغير مُراعٍ للآخرين، إضافة إلى ذلك تبدو لديه حركات جسدية متيبسة، وتشنجات صوتية مبالغاً فيها، وعادة ما تُظهر افتقاره المفترض للمهارات الاجتماعية في أسوأ الأوقات، وهذا غير صحيح ومنافٍ تماماً للواقع.
اقرأ أيضاً: هل يتزوج مريض التوحد؟
3 إرشادات عملية لتقليل وصمة مرض التوحد
الوصمة هي شعور معظم أفراد المجتمع بالرفض الشديد لشيء ما أو شخص ما أو مجموعة محددة من الأشخاص، وعادة ما يكون هذا الشعور غير عادل. وفي هذا السياق، أكدت دراسة بحثية نشرتها المكتبة الوطنية الأميركية للطب (National Library of Medicine) في مارس/آذار 2022 أن الوصمة تجاه مرض التوحد يمكن أن تحدث بسبب قلة الوعي والافتقار إلى التعليم، علاوة على الاختلافات الثقافية.
وتضيف الدراسة أن الوصمة تؤثر تأثيراً سلبياً في مرضى التوحد حيث تؤدي إلى شعورهم بالوحدة والعزلة واللوم الذاتي، وهو ما يمكن أن يعزز إصابتهم بالقلق والاكتئاب فضلاً عن انخفاض مستوى الرضا عن الحياة، وهذه هي أهم الإرشادات من أجل تخفيف الوصمة عن مرضى التوحد:
1. إشراك الأشخاص المصابين بالتوحد في سرد قصصهم
ماذا لو شاهدت فيلماً عن شخص مصاب بالتوحد كتبه بالفعل مريض توحد أو جسد شخصيته؟ في الحقيقة إن الأشخاص المصابين بالتوحد لديهم كامل الحق في سرد قصصهم الخاصة، ونحن المشاهدين علينا رؤية الواقع الخاص بهم من خلال أعينهم.
2. زيادة الوعي والتعليم بشأن اضطراب التوحد
يمكن القول إن زيادة فرص الوعي والتعليم قد تقلل الوصمة، ويمكن أن يحدث ذلك الأمر عبر إقامة جلسات إرشادية يشرح من خلالها خبراء متخصصون أسباب التصرفات التي قد تصدر من مريض التوحد، على سبيل المثال، عدم تواصل مريض التوحد بصرياً مع الآخرين ليس دليلاً على الوقاحة ولكنه قد يحدث نتيجة تشتته، علاوة على ذلك فإن الافتقار إلى مهارات التواصل الاجتماعي لا تجعل من مريض التوحد شخصاً غريباً ولكنه شخص مختلف.
والحقيقة هي أن الكثير من الأشخاص يعتقدون أن إحساس الوصمة عادة ما يكون نابعاً من الخوف، ولهذا حين يُستكشف المنطق وراء أغلب سلوكيات مرضى التوحد، قد تنقشع غمامة الغرابة ويحل محلها شعور بالتعاطف والترابط، وفي هذا السياق، تؤكد المختصة النفسية، عبير علي، ضرورة محاولة رؤية العالم من قبل المصابين بالتوحد وذلك حتى تتعرف عن قرب على قدراته.
3. تعزيز الظهور الإعلامي الإيجابي
تعمل النماذج الإيجابية للأعمال الفنية التي تجسد التوحد على تحسين الفهم وتقليل المواقف السلبية، ما يقلل في النهاية وصمة العار المرتبطة بالتوحد، بالإضافة إلى ذلك، قد يشجع ظهور الأشخاص المصابين بالتوحد في وسائل الإعلام للتعبير عن أنفسهم في نقل صورة حقيقية عنهم تجعل من السهل عليهم الاندماج في المجتمع والتفاعل مع أفراده.