الاكتئاب لمن يعانيه ليس فقط انغماساً في الحزن، أو انخفاضاً في المزاج العام، بل يتضمن أيضاً نظرة غير واقعية أو مشوهة عن الواقع، وهو ما يُعرف بالتشوهات المعرفية. تتضمن التشوهات المعرفية أنماط تفكير وأفكاراً ومعتقدات تؤثر في الطريقة التي يرى الفرد فيها ذاته والآخرين والعالم من حوله، وبالنسبة للمرضى المصابين بالاكتئاب، يمكن أن تتجلى هذه التشوهات في شكل أفكار سلبية مستمرة حول أنفسهم وظروفهم والمستقبل، ما يرسخ بقاءهم في حلقة من اليأس.
محتويات المقال
تكمن الطبيعة الخادعة للاكتئاب في قدرته على إقناع الفرد بأن هذه التصورات المشوهة هي انعكاسات دقيقة للواقع. على سبيل المثال، قد يعتقد الشخص أنه بلا قيمة أو أن جهوده عبثية، حتى عندما تشير الأدلة إلى عكس ذلك. وهذا يخلق حلقة مفرغة؛ فكلما زاد انخراط الفرد في أنماط التفكير السلبية هذه، أصبح أكثر رسوخاً في اكتئابه، ما يجعل من الصعب التحرر منه.
ومع ذلك، يمكن من خلال معالجة التشوهات المعرفية وإعادة صياغة الأفكار السلبية، أن يبدأ المصاب بالاكتئاب رؤية انعكاس أدقّ لواقعه، وبالتالي كسر الدائرة والمضي قدماً نحو التعافي. فكيف يشوه الاكتئاب حياة المصاب بالاكتئاب؟ وما هي الوسيلة لكسر تلك الحلقة المفرغة من الأفكار السلبية؟ إليك ما ينبغي معرفته.
كيف يشوه الاكتئاب واقع المصاب به؟
وفقاً لدراسة نشرتها المجلة الأوروبية لعلم النفس (European Journal of Psychology)، تشمل التشوهات المعرفية الأكثر شيوعاً، والتي يمكن أن تتجلى في الاكتئاب ما يلي:
قراءة العقول
قد يعتقد من يعاني الاكتئاب أنه يستطيع معرفة ما يدور في ذهن الشخص الآخر، وهو غالباً ما يكون سلبياً، مثل الاعتقاد بأن الناس يحكمون علينا بقسوة.
وفقاً للمختص النفسي عبد الله آل دربا، تُعتبر قراءة العقول (Maid Reading) من أخطاء التفكير، حيث يخمّن الفرد أن الآخر يقصد شيئاً ما دون أن يوجد لديه دليل واحد، وهذا قد يؤثر عليه على نحو دائم حيث تنتابه أعراض القلق والتفكير وقلة النوم.
على سبيل المثال، عندما تقدم نفسك لمجموعة من الأشخاص، قد تخشى أن يفحصك الجميع باهتمام شديد، وتعتقد أنهم يقيّمونك، ويفكرون بك بطريقة سلبية. ومع ذلك، فإن الواقع هو أن معظم الناس منشغلون في الواقع بمخاوفهم وأفكارهم ومشاعرهم.
التهويل
بالنسبة لمن يعاني الاكتئاب، قد تقوده نظرته التشاؤمية إلى رؤية غير واقعية ومشوهة حول موقف معين. حيث يقوم بتهويل الأمر وتضخيمه، ويفترض أكثر السيناريوهات المحتملة سوءاً، وذلك على الرغم من وجود القليل من الأدلة أو حتى انعدامها تماماً. على سبيل المثال، قد يفكر: "إذا لم أنجح في هذا الاختبار فلن أتخرج أبداً ولن أتمكن من الحصول على وظيفة".
التفكير بطريقة كل شيء أو لا شيء
يتضمن نمط التفكير بطريقة "كل شيء أو لا شيء"، والمعروف أيضاً بالتفكير بالأبيض والأسود أو التفكير القطبي أو التفكير الثنائي، إدراك المواقف على نحو متطرف، دون الاعتراف بالحلول الوسط، على سبيل المثال إما أن يكون صديقك لك لوحدك أو لا صداقة معه على الإطلاق، أو أنت تجيد إنجاز المهمة كاملها دون مساعدة أو أنت شخص فاشل.
يمكن أن يؤدي هذا النمط من التفكير إلى الإحباط. فإذا التزمت بهدف يومي؛ مثل التوقف عن التدخين أو تخصيص ساعات محددة للدراسة، وفوّتَّ يوماً واحداً، فقد تشعر بأنك فشلت وتميل إلى الاستسلام.
الاستدلال العاطفي
عندما يسمح الفرد لنفسه برؤية الموضوع وفقاً لما تمليه عليه مشاعره، متجنباً التفكير الموضوعي القائم على الحقائق والمعطيات، فإنه يعرّض نفسه لخطر تشوه معرفي يسمى الاستدلال العاطفي، حيث يعتمد وجهة نظر بناءً على استجابته العاطفية. على سبيل المثال، "أشعر بالحزن، إذا لا بد أنني ضعيف".
التصنيف
التصنيف عموماً هو إطلاق الأحكام النهائية والسلبية على الآخرين، وبما يحدد هويتهم بصورة نهائية. على سبيل المثال، قد تلحظ أن الزميل الجديد في العمل يتجنب التعامل معك، فتصنّفه على أنه متعجرف، لكن الواقع قد يكون مختلفاً، إذ ربما يعاني الموظف الجديد صعوبة في الاندماج مع البيئة الجديدة، أو ربما هو شخص خجول بطبعه. وفي السياق ذاته، قد يطلق مريض الاكتئاب على نفسه أحكاماً وتصنيفاً سلبياً غير واقعي، مثل أن يعتقد بأنه غير كفء أو فاشل لأن الاختيار لم يقع عليه بعد مقابلة التوظيف.
التصفية الذهنية
التصفية الذهنية في مريض الاكتئاب تدفعه إلى التركيز على جانب سلبي واحد، والتغاضي عن كافة الجوانب الأخرى. على سبيل المثال، عندما يقدّم الفرد عرضه لفريق العمل، ويلقى استحسان الجميع، لكن المدير يريد إضافة بعض التعديلات أو لديه ملاحظات للعمل عليها، فإنه يركز على هذه الملاحظات فقط، ولا يرى ردود الفعل الإيجابية الأخرى، ما قد يوقعه في فخ التشاؤم وتدني القيمة الذاتية.
التعميم المفرط
يتغذى الاكتئاب على فكرة التعميم، بحيث قد يرى المريض جانباً واحداً للموضوع ويحوله إلى قاعدة عامة. في المثال السابق، ينتج عن الملاحظات الصغيرة للمدير، والتي دفعته للاعتقاد بأن مشروعه لا يرتقي للمستوى الكافي، اعتقاده بأنه غير كفء عموماً. لذا؛ غالباً ما يستخدم مريض الاكتئاب مصطلحات مثل "لن أنجح أبداً" أو "أنا دائماً غير محظوظ".
اقرأ أيضاً: هل تعتقد بأن الجميع سيئ حتى يثبت العكس؟ ربما تكون مصاباً بالإفراط في التعميم!
الشعور بالذنب: ما كان ينبغي أن تفعله
يدفع الاكتئاب المريض إلى النظر للماضي والبحث في أمور أخطأ في تقديرها أو إنجازها، ويصبح أكثر قابلية للحكم على نفسه بما لم يكن لديه أي وسيلة لمعرفته مسبقاً، فتسيطر على أفكاره عبارات مثل: "كان ينبغي عليّ" أو "لم يكن يجب أن"، ما يغذي شعوره بالذنب.
اقرأ أيضاً: التشوهات المعرفية: كيف نقع أحياناً ضحية أفكارنا؟
كسر الدائرة: 9 نصائح للتغلب على التشوهات المعرفية في الاكتئاب
يمكن أن تساعد بعض النصائح في منع التشوهات المعرفية وعلاج أعراض الاكتئاب، مثل:
- اكتشف التشوهات المعرفية لديك، وذلك من خلال:
- تحديد الأفكار السلبية: يمكنك استخدام دفتر يوميات أو تطبيق ملاحظات على هاتفك لتتبع هذه الأفكار وكيف تجعلك تشعر.
- ابحث عن الأنماط: واظب على كتابة يومياتك بانتظام، مرة واحدة على الأقل يومياً وعدة أيام، حتى تبدأ بملاحظة أنماط واضحة من التشوهات المعرفية تؤثر في تفكيرك أكثر من غيرها.
- تعامل مع أفكارك بوعي: افحصها بدقة دون إصدار أحكام عليها، أو لوم نفسك على امتلاكها.
- افحص التشوهات المعرفية لديك بعد تحديد التشوهات المعرفية التي تمتلكها، للتأكد من حقيقة هذه الأفكار السلبية، واسأل نفسك عما إذا كان هناك دليل يدعم هذه الأفكار أم أنك كنت تتجاهل الجوانب الإيجابية.
- مارس الامتنان: يساعد الامتنان على تحديد الأسباب التي تجعلك تشعر بالامتنان، حتى لو كانت صغيرة. إذ قد تساعدك هذه الوسيلة على ملاحظة الإيجابيات في الحياة.
اقرأ أيضاً: ما أهمية الشعور بالامتنان في حياتنا؟
- تخيل الاحتمالات البديلة: عندما تواجه حالة من عدم اليقين، استبدل بالأفكار السلبية أفكاراً إيجابية أو محايدة. على سبيل المثال، إن كنت تخاف حضور مناسبة اجتماعية تجنباً لما قد تتعرّض له من تقييم لشكلك فتخيل نفسك تتعرّف إلى شخص جديد وتكوّن صداقة معه، بدلاً من الخوف من مواجهة نظرات الحضور. وإذا كان من الصعب عليك تخيل البدائل المحتملة، حاول اتخاذ موقف حيادي، مثل أن تذهب للحفل وتستمتع ببعض الوجبات الخفيفة، وتغادر دون وقوع حوادث.
- أعد صياغة الإخفاقات: انظر إلى الإخفاقات المحتملة على أنها فرص للنمو وليست فشلاً. على سبيل المثال، إذا وجدت أنك غير مقبول في الوظيفة التي تتمناها، فحاول أن تبحث عن جوانب النقص لديك لتنميتها قبل التقديم على وظيفة أخرى.
- أعد النظر في الطريقة التي تتحدث بها مع ذاتك، فعندما تريد أن تقول لنفسك إنك غبي أو فاشل، تخيل أنك تقولها لشخص آخر مثل صديق أو زميل، غالباً ما ستكون أكثر تعاطفاً معه، فلم لا تكون متعاطفاً مع ذاتك أيضاً؟
- شارك في أنشطة ممتعة: يساعد الالتزام بالأنشطة البدنية التي تستمتع بها حقاً، مثل ركوب الدراجة أو السباحة، وحتى المشي نحو 10-30 دقيقة يومياً على تحسين المزاج وتقليل التوتر.
اقرأ أيضاً: كيف تجعلك ممارسة الرياضة سعيداً؟
- العناية بالنفس: أعطِ الأولوية للحصول على قسط كافٍ من النوم، واتبع نظاماً غذائياً صحياً، والعمل على ممارسات يومية تقلل التوتر.
- مارس تقنيات الاسترخاء: مثل التنفس العميق والتأمل واليوغا، وقلل مسببات التوتر غير الضرورية، مثل العلاقات مع الشخصيات السلبية والسامة.