هل يمكن الحفاظ على هويتنا من خلال الحفاظ على اللغة الأم؟

4 دقائق
اللغة الأم

بأصوات وهمهمات غير مفهومة، يبدأ الطفل في التعبير عن احتياجاته ومشاعره في عمر مبكر، إلى أن يتطور عقله ويكتسب الكلمات اللازمة للتعبير عن تلك الاحتياجات والمشاعر بلغة واضحة؛ اللغة التي يلتقطها مِن محادثات مَن حوله؛ والتي تصبح لغته الأم.
لا يمكن اختزال اللغة الأم في مفردات يرددها ويستخدمها الفرد يومياً في محادثاته، ودراسته، وعمله، فاللغة الأم لها أيضاً أهمية عاطفية تظهر من خلال استخدامها، وتلقّيها، والتعبير عن المشاعر وفهم العواطف، وكذلك، فهي تخلق هوية الأفراد.

اللغة الأم أكثر فعاليةً في التعبير عن المشاعر

في عبارة شهيرة لنيلسون مانديلا؛ رئيس جنوب إفريقيا الأسبق، يقول: "إذا تحدثت إلى رجل بلغة يفهمها، فهذا يذهب إلى رأسه. إذا تحدثت إليه بلغته الأم، فهذا يذهب إلى قلبه." ذلك ما توصّلت إليه أيضاً دراسة من جامعة بوسطن بالولايات المتحدة الأميركية.

في السابق؛ افترض الباحثون أن اللغة منفصلة عن المشاعر، بينما أوضحت تلك الدراسة الأميركية أن هناك ارتباطاً مهماً بين العاطفة واللغة؛ حيث يمكن أن يتأثر رد الفعل العاطفي باللغة المُستَخدَمة، ويختلف ذلك الأمر سواء كانت تلك اللغة هي اللغة الأم أم لغة أخرى.

تشير الدراسة إلى أن الأفراد الذين يتحدثون أكثر من لغة يشعرون باختلاف عند استخدام اللغة الأم مقارنةً باللغة الأجنبية في التعبير عن المشاعر المختلفة.

وفي دراسة أوروبية سابقة منشورة بمجلة أبحاث المستهلك (Journal of Consumer Research)، أبلغ المشاركون أن  الشعارات الإعلانية تكون أكثر عاطفيةً عند كتابة الرسائل باللغة الأم بدلاً عن اللغات الأجنبية.

بالإضافة إلى ذلك، فتلقّي المعلومات باللغة الأم يزيد من قدرة الأفراد على تجاهل مُشتتات الانتباه بسهولة أكبر.

أيضاً؛ هناك رابط مهم بين سن اكتساب اللغة ومدى الكفاءة؛ حيث يرتبط سن الاكتساب المبكر للغة بالكفاءة العالية، ويكون الصدى العاطفي أقوى عندما يتم تعلم اللغة عن طريق الانغماس، بدلاً عن التعلم في المدرسة. فعادة ما يؤدي سن الاكتساب المبكر إلى كفاءة عالية؛ الكفاءة العالية عادة ما تؤدي بدورها إلى الاستخدام المتكرر؛ تكرار الاستخدام يحسِّن الكفاءة والإتقان.

اللغات الأقوى على مستوى العالم

في عالم يحكمه العولمة وانفتاح الثقافات على بعضها البعض، والسعي لفرص العمل والتعليم خارج البلاد، أصبح أمر ثنائية اللغة أمراً شائعاً؛ بل ومهماً في كثير من الأحيان لتسهيل الاتصال، والانخراط في المجتمعات بالمشاركة في الأنشطة الثقافية، والاقتصادية، والاجتماعية، وخلق فرص العمل، بالإضافة إلى تفادي صعوبات قد يواجهها الفرد نتيجة تحدّثه لغة واحدة.

عالمياً، فهناك أكثر من 6,000 لغة يتم التحدث بها اليوم؛ من بينها 15 لغة فقط تمثِّل نصف اللغات المستَخدَمة في العالم. بحسب موقع المنتدى الاقتصادي العالمي (World Economic Forum)، فهناك عدد من العوامل التي بناءً عليها يتم تصنيف اللغات على حسب فعاليتها في المجالات المختلفة، وسعي الأفراد لتعلّمها؛ وهي: الجغرافيا (القدرة على السفر)، والاتصال (القدرة على الانخراط في الحوار)، والمعرفة والإعلام (القدرة على الاطلاع على وسائل الإعلام)، والاقتصاد (القدرة على المشاركة في الاقتصاد).

تحل اللغة الإنجليزية المرتبة الأولى كلغة العالم المشتركة، تليها اللغة الصينية من حيث عدد الأفراد المتحدثين بها، وتأتي اللغة الهندية في المرتبة الثالثة، ثم الإسبانية والعربية.

إتقان اللغة الأم يساعد على تعلّم لغات أجنبية

في دراسة سعودية من جامعة الملك سلمان بن عبد العزيز، يشير الباحث إلى أن إتقان اللغة الأم يساعد على تعلّم اللغات الأخرى، وأن تعلُّم لغة ثانية مثل الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية، لا يتأثر عندما تكون لغة المُتعلِّم الأم هي اللغة الأساسية للتعليم في جميع مراحل المدرسة الابتدائية، فالطلاقة ومعرفة القراءة والكتابة باللغة الأم يضعان أساساً معرفياً ولغوياً لتعلُّم لغات إضافية.

توضِّح الدراسة أيضاً أنه عندما يتلقى الأطفال المعلومات بلغتهم الأولى خلال المدرسة الابتدائية، ثم ينتقلون تدريجياً إلى التعلم الأكاديمي باللغة الثانية، فإنهم يتعلمون اللغة الثانية بسرعة. بينما إذا اضطر الأطفال إلى التحول فجأة أو الانتقال في وقت مبكر جداً من التعلُّم بلغتهم الأم إلى التعلُّم بلغة ثانية، فقد يُضعف ذلك اكتسابهم للغة الأولى.

والأهم من ذلك، فإن ثقتهم بأنفسهم كمتعلمين، واهتمامهم بما يتعلمونه، قد ينخفضان؛ ما يؤدي إلى نقص الحافز والفشل المدرسي والتسرب المبكِّر من المدرسة.

يشير الباحث إلى أن الفوائد التعليمية للتدريس باللغة الأم تشمل أداءً عامّاً أفضل، وكذلك تحقيق نسبة نجاح مرتفعة.

تجاهل اللغة الأم في التعليم من أشكال التمييز

للّغة الأم دور حيوي في تأطير تفكير وعواطف الناس، فتعلّم التحدث باللغة الأم ضروري جداً لنمو الطفل. كذلك، فإتقان اللغة الأم يساعد الفرد على الارتباط بثقافته، ويضمن التطور المعرفي الجيد، بالإضافة إلى إمكانية دعم تعلُّم اللغات الأخرى.

وفقاً لدراسة من جامعة بهاراتيداسان بالهند؛ يتعلم الكثير من الأطفال في جميع أنحاء العالم النامي، القليل جداً في المدرسة، وهي حقيقة يمكن ربطها بالتدريس بلغة لا يفهمونها تماماً؛ ما يَنتج عنه تعليم محدود، وافتقار للمعرفة، وصعوبة في اكتساب المهارات المختلفة، بالإضافة إلى ارتفاع معدلات الانقطاع عن الدراسة.

يشير مؤلف الدراسة إلى أن تجاهل اللغة الأم في السنوات الأولى هو أمر غير فعّال، وذو تأثير سلبي على تعلُّم الأطفال. كذلك، فللأمر أبعاد اجتماعية يجب وضعها بعين الاعتبار، فغالباً ما تعكس اللغة التي يُدرس بها الأطفال تفاوتات اجتماعية وطبقية أوسع.

لذلك؛ إن الإخفاق في توفير تعليم جيد باللغة الأم هو شكل من أشكال التمييز الذي يزيد من حالات عدم المساواة.

كيفية دعم اللغة الأم في التعليم

يقترح باحث الدراسة المذكورة؛ راجاثوراي نيشانتي، لتحسين تعلُّم اللغة الأم، ضرورة البدء في تعليم القراءة والكتابة باللغة الأم المتجذّرة في ثقافة الفرد وبيئته، مع وجود مناهج مناسبة مُطوَّرّة محلياً؛ ما يساعد على نجاح التعلُّم المبكِّر.

فذلك يخلق انتقالاً سلساً بين بيئة المنزل والمدرسة؛ حيث يبدأ الطفل بما هو مألوف، ثم يبني معرفة جديدة؛ ما يحفز الاهتمام ويضمن مشاركة أكبر. وذلك يهيئ الأطفال لاكتساب المعرفة ويشجع على الثقة في كل من اللغة الأم، ولاحقاً في اللغات الأخرى عندما يكون ذلك ضرورياً.

علاوةً على ذلك، فضمان توافر المواد اللازمة باللغة الأم، يزيد من حماس الأطفال بشأن القراءة والتعلم، ولا يمكن القيام بذلك إلا إذا كانت المواد قابلة للفهم و ممتعة لهم.

من ناحية أخرى، فهو يشدد على ضرورة استخدام المعلمين لاستراتيجيات تعليمية جذّابة؛ ما يحثُّ الأطفال على المشاركة بشكل تفاعلي.

وأخيراً، فعلى الرغم من أن تعلُّم لغات أجنبية قد يمنحك فرصاً أفضل في الدراسة والعمل وغيرها من المجالات؛ فإن ذلك لا يعني استبدال اللغة الأم بأخرى، فللّغة الأم أدوار لا يمكن للغة أخرى أن تعوّضها. كذلك؛ في عالم اليوم المنفتح على الثقافات المختلفة، فإن ضرورة التمسُّك باللغة الأم تزداد لتأسيس انتماء الفرد والمحافظة عليه؛ الأمر الذي لا يجب المساومة عليه.

المحتوى محمي