الجاذبية، تلك السمة التي تتفاوت من شخص إلى آخر، فما سبب هذا التفاوت؟ لمَ يسرنا النظر إلى بعض الأشخاص في حين لا يلفت انتباهنا آخرون؟ توضح لنا هذا الموضوع مختصة التحليل النفسي ومؤلفة كتاب "نهاية أسطورة الجاذبية" (Séduction, la fin d’un mythe)، جيزيل هاروس ريفيدي (Gisèle Harrus-Révidi).
هل التمتع بالجاذبية فطري؟
لا، على الرغم من أن جاذبية المرء تظهر في سن مبكرة جداً ولربما لا حظت أن الناس قد يميلون إلى طفل رضيع ويجدون شكله ألطف من آخر لكن جاذبيته لا ترتبط بشكله في الحقيقة بقدر ما ترتبط بقدرته على التواصل، فهو يعرف كيف يجذب الأنظار وسر ذلك هو انجذاب والدته إليه (إلى جسده ورائحته) في المقام الأول فنظرة الأم إلى طفلها تغذي لديه حبه لذاته، ومن ثم فإن جذب الآخرين يتطلب شعور الفرد في وقت من الأوقات أنه "مركز الكون"؛ إذ يرسخ هذا الاعتقاد يقينه بأنه شخص لا يمكن الاستغناء عنه ومن المهم أيضاً أن يلقى تعبيره عن مشاعر الحب استحسان من حوله وقبولهم.
إذاً ما الذي يجعل شخصاً ما أقل جاذبيةً من غيره؟
في أغلب الأحيان يكون ترتيب هذا الشخص الأوسط بين إخوته؛ إذ لا يمنحه الوالدان الاهتمام الكافي بسبب انشغالهما بالولدين الأكبر والأصغر سناً، أو بالولد الذكر الذي أنجباه بعد إنجاب فتاتين أو العكس. ومن جهة أخرى فإن الشخص الذي لا يتسم بالجاذبية الكبيرة لم يُشعره والداه بتميزه، فلِيَشعر الشخص أنه جذاب يحتاج إلى أن تشجعه نظرة من حوله على الاعتقاد بتفرده. وعلى العكس من ذلك إذا كانت العلاقة بين الأم والطفل تنمّي حبه لذاته؛ كأن تبدي الأم إعجابها بكل ما يفعله، سيصبح في سن الرشد واثقاً بنفسه وبنظرة الآخرين إليه.
ما الذي يمكن للأشخاص الذين يشعرون بأنهم أقل جاذبية من غيرهم فعله؟
يمكنهم تعويض شعورهم بالافتقار إلى الجاذبية الفطرية من خلال بناء جاذبيتهم بأنفسهم. خذ مثلاً عالم الوراثة ألبرت جاكارد فهو يتحدث عن قبحه بطريقة ساحرة للغاية! يحتاج الشخص "غير المحبوب" دائماً إلى إثبات قيمته وإقناع نفسه بذلك، ويُقال إنه بإمكاننا اليوم تعلم كيفية جذب الأنظار باستخدام تقنيات معينة والاستعانة بمساعدة المحترفين. لكن هل يمكننا تسمية ذلك "جاذبية حقيقيةً"؟ في الواقع لا أعرف؛ لكن لمَ لا؟ فتعلم كيفية الاهتمام بمحاورك مثلاً والاستماع إليه استماعاً فعالاً يعزز جاذبيتك بالفعل.
هل تعتقدين أن ثمة صلة بين ضعف القدرة على جذب الآخرين والأمراض العصابية؟
من النادر أن يُربط هذا الموضوع بعلم الأمراض وعلى الرغم من ذلك فأنا أرى ضرورة فهم هذا الجانب، طالما أن عدم القدرة على جذب الآخرين يرتبط بوجود عوائق تحول دون القدرة على إنشاء العلاقات. فالشخص الذي يعاني هذه المشكلة يشعر أنه على الهامش ويرجع هذا إلى نظرة والدته إليه في مرحلة الطفولة؛ إذ لم يحظَ بنظرات التقدير والإعجاب منها في المقام الأول. وقد يهمل هذا الشخص الاهتمام بمظهره وثيابه بسبب اقتناعه ألا أحداً سيلاحظه أساساً كما أنه يعاني غالباً مشكلات نفسية جسدية ويتملكه شعور قوي بالذنب وبأنه لا يستحق العيش، وتراه قليل الكلام خوفاً من أن يثير ملل الآخرين وينظر بأسىً إلى الأشخاص الذين يتمتعون بالجاذبية ويشعر أنه الوحيد المحروم منها في هذا العالم، ويقول له اللاوعي: "أنت لا تعني شيئاً لوالدتك ومن ثم لا تعني شيئاً للآخرين"، وقد ترافقه هذه الأفكار حتى لو تمتع بحياة اجتماعية ناجحة في مرحلة الرشد.
في المقابل؛ كيف كانت طفولة الشخص الذي يعاني ميلاً قهرياً لجذب انتباه الآخرين؟
أعتقد إنه عانى تناقضاً بين النشاط الجنسي الطفولي المبكر والفاضح، وتوجيهات الوالدين التي تذكره بالمحظورات، فطغى عليه شعور غضب غير مفهوم لا يمكنه السيطرة عليه نتيجة كبت والديه له؛ إذ إن "المحظورات" قد حالت دون نمو رغبته الجنسية وشكلت عائقاً أمامها فأصبح جذب الآخرين بالنسبة إليه رد فعل عدائياً واستراتيجية ينكر من خلالها خطاب والده ووالدته.
استحضرتِ في مقالك الشخص متعدد العلاقات والمتلاعب الذي يحاول جذب الآخرين بغية الحصول على غرض ما والسحر الغامض للأنوثة، ما القاسم المشترك بين هذه المفاهيم الثلاثة؟
يمثل جذب الآخرين طريقة خداعٍ بشكل أو بآخر حتى لو كان ذلك دون وعي، فالشخص الذي يحترف استمالة الآخرين ينحرف عن النوايا الصادقة والشخص الذي يدأب على الظهور بمظهرٍ جذاب في أعين الناس لن يفي بوعده التي يقطعها.
لقد كتبتِ: "سر جاذبية المرأة صمتُها"، فهل الصمت وسيلة لجذب الآخرين؟
في معظم الحالات لا تكون النساء اللواتي يجذبن أزواجهن حتى بعد عقود من العيش معاً متحدثات بارعات أو مثقفات لامعات يسعَين إلى جذب الناس بأفكارهن وخطاباتهن؛ بل يلتزمن الصمت معظم الأوقات. المرأة ذات الجاذبية المطلقة لا تتكلم، فالصمت يضفي عليها سحراً وغموضاً يفسح المجال للطرف الآخر لإطلاق العنان لمخيلته وفق ما يهوى. من جهة أخرى فإن اختفاءنا وظهورنا في الوقت المناسب يمثلان عاملَين مهمَّين في مدى انجذاب الآخرين إلينا.
هل تمثل الكاريزما ذروة الجاذبية أم أنها ذات طبيعة أخرى؟
إنها مسالة مختلفة، فهي تتعلق بطريقة الكلام واختيار الكلمات ويمكن أن تكون الشخصية الكاريزمية وحشاً مثل هتلر، أو محللاً نفسياً رائعاً مثل جاك لاكان أو فرانسواز دولتو، والقاسم المشترك بين الشخصيات الكاريزمية هو القدرة على حب الذات التي تولّد الثقة بالنفس، فتراهم ينشرون تأثيرهم على من حولهم وكأنهم ينومونهم مغناطيسياً؛ إذ ينقلُ خطابهم إلى جمهورهم طاقةً محفزةً تعطي كل شخص انطباعاً بالانتماء إلى النخبة، وهنا تكمن خطورتهم فهم يتمكنون من إحداث انقسام بين الناس وتصنيفهم ضمن مجموعة الأخيار أو الأشرار. أما نيكولا ساركوزي مثلاً الذي لا يتمتع بشخصية كاريزمية فقد يحاول جذب جميع الفرنسيين ويسعى جاهداً لإرضائهم دون أن يكون واثقاً من قدرته على تحقيق ذلك، وجدير بالذكر أن ساركوزي هو الأوسط بين إخوته.
رموز الجاذبية بين الماضي والحاضر
يتناول أحدث مقالات جيزيل هاروس ريفيدي حالةً من الحنين إلى الماضي فتتساءل: "أين أولئك الفتيات المحتشمات ذوات المظهر الطبيعي اللواتي كنّ رمزاً للجاذبية فيما مضى؟". وتقول المختصة بأسى: "لقد اختلفت معايير الجاذبية الأنثوية كلياً اليوم فبتنا نرى صور العارضات بأجسادهن شبه العارية التي خضعت لعشرات عمليات التجميل منتشرةً على الجدران". ونتذكر هنا كيف كان ميشيل ويلبيك يعبر عن خوفه من فكرة اختزال الجسد بالجنس، وحتى اشمئزازه من كلمة "إغواء"، واليوم وفي عصر الإنترنت أصبحت العلاقات تتسم بالسطحية وأصبحنا ننظر إلى الآخر على أنه شيء وليس إنسان. إذاً هل يؤدي ذلك إلى القضاء على لغة الانجذاب الصادق بين البشر؟ لا ولكننا بحاجة إلى بذل المزيد من الجهود اليوم لنصل إلى أفضل صياغة ممكنة لهذه اللغة.