الثقة قبل الولاء: قاعدة نفسية ذهبية لكل مدير ناجح

1 دقيقة
الثقة قبل الولاء
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: عبد الله بليد)

غالباً ما يفهم الولاء على أنه الالتزام الأساسي للموظفين، لكن الدراسات تشير إلى أن الثقة هي الأساس الأقوى والأكثر استدامة للنجاح المؤسسي، إذ تعكس استعداد الموظفين لتحمل المخاطر بناءً على توقعات إيجابية، وهذا ما يفسر تركيز القادة الناجحين على كسب الثقة بدل المطالبة بالولا…

هل الأفضل في بيئات العمل أن تعطى الأولوية للثقة قبل الولاء؟ هذا السؤال المهم يذكرني بفيلم "الفصل الثاني"، الذي تجسد فيه الممثلة جينيفر لوبيز شخصية "مايا"، وهي امرأة مجتهدة تعمل في متجر كبير، كرست وقتها وجهدها سنوات في سبيل نجاحه. وعلى الرغم من تفانيها وكفاءتها، تحرم من الترقية التي تستحقها فقط لأنها لا تملك شهادة جامعية. 

هذا القرار لم يكن مجرد خيبة أمل مهنية، بل كان صفعة لثقتها في المؤسسة التي أعطتها كل ما تملك. لم يكن ينقص مايا الولاء، فقد كانت مخلصة ومتفانية، لكن ما غاب عن المؤسسة هو بناء الثقة المتبادلة والاعتراف الحقيقي بقيمتها.

تعكس حبكة الفيلم واقعاً تعيشه مؤسسات كثيرة اليوم، إذ لا يزال بعض القادة يعتبرون الولاء معياراً أساسياً، معتقدين أن "الولاء الصادق والراسخ" مطلوب من الموظف أو من الشركة. لكن في الواقع، الثقة لا الولاء هي الأساس الحقيقي لبناء ثقافات عمل ناجحة ومستدامة، فما هو سبب ذلك؟ إليك في هذا المقال الأسباب التي تدفع القادة والمؤسسات إلى الاهتمام ببناء ثقة الموظفين لا ولائهم.

كيف تختلف الثقة عن الولاء؟

للوهلة الأولى، قد يبدو أن الثقة والولاء مترادفان، فكلاهما يشير إلى علاقات إيجابية. ومع ذلك، فهما مفهومان نفسيان مختلفان جوهرياً.

الثقة في علم النفس التنظيمي هي حالة نفسية يشعر فيها الشخص بأنه مستعد لقبول الضعف أو المخاطرة، وذلك استناداً إلى توقعات إيجابية حول نوايا الآخرين أو سلوكياتهم. بمعنى آخر، يثق الموظفون عندما يشعرون بالأمان الكافي ليكونوا منفتحين وليقبلوا التحديات الشخصية، لأنهم يتوقعون معاملة عادلة وصادقة.

وفقاً لنموذج "ماير وديفيس وشورمان" الذي فسر الثقة في السياق المهني، فإن الثقة لا تمنح تلقائياً، بل تبنى عندما يرى الفرد أن الطرف الآخر يتمتع بثلاث صفات رئيسية:

  • الكفاءة: أن يكون الطرف الآخر قادراً على أداء المهام المطلوبة.
  • النية الطيبة: أن يظهر اهتماماً حقيقياً بمصلحة الآخرين.
  • النزاهة: أن يلتزم بالمبادئ الأخلاقية ويتصرف بثبات واتساق.

عندما تتوفر هذه الصفات، يكون الفرد مستعداً لتحمل المخاطر الناتجة عن الثقة، مثل مشاركة المعلومات أو قبول القرارات، حتى في غياب ضمانات.

من ناحية أخرى، غالباً ما ينظر إلى الولاء في مجال الموارد البشرية على أنه نوع من الالتزام التنظيمي، سواء كان نابعاً من ارتباط عاطفي أو شعور بالواجب أو قناعة بأن البقاء في الوظيفة أفضل من تركها.

وتوجد تجربة من المهم إلقاء الضوء عليها في هذا السياق؛ وهي نموذج "ماير وألين" لفهم دوافع بقاء الموظفين في المؤسسات، إذ غالباً ما يربط المدراء بين هذا النموذج ومفهوم "الولاء"، لكنه في الواقع يعكس أنماطاً مختلفة للموظفين:

  • العاطفي: يبقى الموظف لأنه يحب عمله ويشعر بالانتماء إلى الفريق والمؤسسة.
  • الاستمراري: يستمر في وظيفته لأنه يحتاج إليها أو يخشى فقدانها، أي إن البقاء خيار عملي أكثر منه عاطفي.
  • المعياري: يشعر بالالتزام الأخلاقي أو الشخصي تجاه المؤسسة، فيبقى لأنه يعتبر ذلك واجباً عليه.

هذا التمييز يساعد القادة على فهم دوافع موظفيهم على نحو أعمق، والتعامل معهم بذكاء لتعزيز التزام حقيقي بدل الاعتماد على الولاء الظاهري.

لماذا من الأفضل أن تهتم ببناء ثقة موظفيك لا ولائهم؟

يمنحك التركيز على الثقة عوائد أفضل بكثير على المدى الطويل من محاولة بناء ولاء الموظفين، إليك الأسباب:

الثقة تحسن الأداء والولاء لا يكفي

أظهر بحث أجراه باحثون في جامعة واشنطن استمر أربعين عاماً أن الثقة في القادة والمؤسسات تحسن أداء الموظفين وتزيد التعاون وتقلل السلوكيات السلبية. عندما يثق الموظفون، يصبحون أكثر استعداداً لقبول القرارات والعمل بروح الفريق.

وفقاً لنموذج "ماير وديفيس وشورمان"، تنشأ الثقة عندما ينظر الموظف إلى القائد على أنه كفء وطيب وملتزم بالمبادئ، ويكون الموظف مستعداً لتحمل المخاطر الناتجة عن هذه الثقة، ما يفتح المجال للتعلم والمرونة.

يدعم علم الأعصاب ذلك، حيث ترتبط سلوكيات الإدارة التي تعزز الثقة بإفراز هرمونات مثل الأوكسيتوسين "هرمون الترابط الاجتماعي"، ما يحفز التعاون والمشاركة. كما أن الأمان النفسي، أي شعور الفريق بأنه آمن للتعبير والمجازفة، يعد مكملاً للثقة، ويسهم في التعلم السريع وتصحيح الأخطاء والابتكار.

في المقابل، لا ينتج الولاء وحده بيئة عمل متعاونة أو محفزة، خاصة إذا كان عبر وسائل خارجية مثل الامتيازات أو الضغوط. إذ يمكن أن يأتي بنتائج عكسية من خلال تعزيز الامتثال بدلاً من الالتزام الحقيقي. كما أن الولاء من دون ثقة يمكن أن يجعل الموظفين عرضة للإرهاق وفقدان الانتماء بمجرد تغير المكافآت أو الظروف.

قد يكون الولاء محفوفاً بالمخاطر

تعطي مؤسسات عديدة، عن طريق الخطأ، الأولوية لبرامج الولاء أو المكافآت أو النداءات العاطفية، أملاً في كسب ولاء الموظفين. ومع ذلك، فإن الولاء دون ثقة يكون مشروطاً وهشاً، فهو يعتمد على محفزات إيجابية مستمرة؛ فإذا لم تتحقق الشروط، قد ينسحب الموظفون بسرعة.

على سبيل المثال، في أثناء التغييرات التنظيمية أو تسريح الموظفين أو التغييرات في القيادة، قد يشعر الموظفون المخلصون الذين يفتقرون إلى الثقة بالخيانة وينفصلون بسرعة. فالولاء المبني على الخوف أو الحوافز أو الضغط الاجتماعي يفتقر إلى المرونة التي توفرها الثقة. عموماً إليك أهم القيود التي تجعل الولاء محفوفاً بالمخاطر:

  • غالباً ما يكون الولاء مشروطاً وهشاً: حيث يبقى الموظفون بسبب المزايا أو نقص البدائل أو العادة، وليس لأنهم منخرطون أو مستعدون للتحدث بصراحة.
  • قد يسكت الأصوات المعارضة: بالنسبة للبعض يتنافى الولاء المطلق مع التقييم والمساءلة، وينتهي الأمر بالحد من الابتكار والضرر بالسلامة النفسية، ما يؤدي إلى ثقافات سامة وارتفاع معدل دوران الموظفين.
  • ضعف الثقة نتيجة استغلال الولاء: عندما تطالب المؤسسات أفرادها بالولاء دون أن تقدم لهم ما يستحقونه من تقدير أو دعم، فإنها بذلك تفتح الباب لانعدام الثقة، ما يؤدي إلى التشكيك في نوايا المؤسسة، وانعدام المشاركة في نهاية المطاف.
  • الخلط بين الاحتفاظ بالموظفين والأداء: يمكن أن يكون انخفاض معدل دوران الموظفين إشارة إلى ثقافة صحية، لكن قد تكون الفرق مستقرة وفي الوقت نفسه غير فعالة أو خائفة من التغيير.

الولاء يطلب أما الثقة تكتسب

تتعامل مؤسسات عديدة مع الولاء الوظيفي بوصفه مطلباً مفروضاً على الموظفين؛ إما عبر سلطة الإدارة وإما من خلال منظومات الحوافز. غير أن الثقة تظل أمراً مختلفاً تماماً؛ فهي لا تنتزع ولا تفرض، بل تكتسب عبر ممارسات أصيلة ومتسقة تعكس الموثوقية والنزاهة والاهتمام الحقيقي بالموظفين.

فالثقة، وفقاً لنموذج "ماير وديفيس وشورمان"، تبنى تدريجياً عبر التواصل الشفاف والوفاء بالعهود، وإظهار اهتمام حقيقي بسلامة أعضاء الفريق ورفاههم، فعندما يشعر الموظفون بأن مديرهم يعتمد قواعد ثابتة وعادلة، تتولد لديهم رغبة حقيقية في الإسهام نابعة من قناعة داخلية، لا مجرد التزام شكلي تجاه المؤسسة، وهو ما يجعل الثقة أكثر ثباتاً من الولاء.

في المقابل، تنتج المطالبة المباشرة بالولاء، دون أساس من الثقة، التزاماً سطحياً قد يتلاشى سريعاً مع تغير الظروف.

5 خطوات عملية لبناء الثقة بدلاً من الولاء

وفقاً لمؤشر إيدلمان للثقة في المؤسسات، فإن بناء الثقة داخل المؤسسات يبدأ من القادة أنفسهم؛ فحين يشعر الموظفون بأن الرئيس التنفيذي يثق بهم، تتعزز ثقتهم بالإدارة وبالمنظمة ككل. ومن هذا المنطلق، برزت مجموعة من الممارسات التي تعد أساسية لترسيخ الثقة في بيئة العمل، إليك أهمها:

  1. احترم الاستقلالية وحدد التوقعات: منح الموظف مساحة من الاستقلالية مع وضع توقعات واضحة يجعله قادراً على استثمار خبراته ومواجهة التحديات بمرونة، كما يعزز التواصل المفتوح والحوار البناء داخل الفريق.
  2. اعتمد مبدأ الشفافية: إبلاغ الموظفين بالتغييرات المهمة، سواء كانت إيجابية أم سلبية، يقلل التوتر والضبابية ويتيح لهم طرح الأسئلة وتقديم الحلول. الشفافية بحد ذاتها رسالة تقدير لرأي الموظف ودليل على الثقة في وعيه وقدرته على المشاركة.
  3. احرص على التحلي بالصدق: اتساق الأقوال مع الأفعال يعزز مصداقية القادة. أما التناقض بين قيم الشركة وسلوكها اليومي فيقوض الثقة، ويضعف ارتباط الموظفين بأهداف المؤسسة. 
  4. عزز قنوات التواصل: التواصل الواضح والمباشر يمنح الموظفين شعوراً بأن أصواتهم مسموعة، ما يرفع مستويات التفاعل والمبادرة ويحسن الروح العامة في مكان العمل.
  5. قلل المراقبة التقنية: المبالغة في تتبع الموظفين تبعث رسالة عدم ثقة، وتؤثر سلباً في صحتهم النفسية وشعورهم بالاستقلالية. وعلى الرغم من الحاجة أحياناً إلى قدر من المتابعة، فإن الاعتدال شرط للحفاظ على بيئة عمل إيجابية.
  6. طبق أسلوب الموظف أولاً: يشير مختص علم نفس العمل، مانع بن ناصر آل حيدر، أنه يمكن بناء الثقة لدى الموظف عندما يمنحه القائد الأولوية، بتوفير برامج دعم الموظفين أو جلسات صحية وورش عمل توعوية. مثل هذه الممارسات لا تساعد فقط على تراكم الثقة تدريجياً، وإنما تمتد إلى تحسين إنتاجية الموظف.

اقرأ أيضاً: ما هي الفوائد النفسية لمبدأ "الموظف أولاً"؟ وكيف تطبقه؟

المحتوى محمي