هل علينا البوح بكل ما نعرفه لأصدقائنا؟

التواصل مع الأصدقاء
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

زوجها يخونها، ابنها المراهق يدخن، وزنه ازداد كثيراً. نميل أحياناً إلى التواصل مع الأصدقاء و”قول الحقيقة” لأصدقائنا المقربين؛ وذلك من أجل مصلحتهم على حسب اعتقادنا، لأننا نحبهم. لكن بذريعة منحهم هذا الامتياز، هل نحن محبون للخير كما نعتقد؟
“ذات مساء، بادر خطيب “كولين” إحدى أعز صديقاتي بتلميحات واضحة اتجاهي. فما كان مني في اليوم التالي إلا أن حذرت “كولين” من ذلك. كان الأمر واضحاً بالنسبة لي، فلا بد أن تعرف ما حدث، ونحن لا نخفي الأسرار عن بعضنا. صُدمَت تماماً عندما أخبرتها، ثم شكرتني على إخلاصي. ثم عاودت الاتصال بي في اليوم التالي ومنعتني من الاقتراب من خطيبها في المستقبل. حلّ الليل، وبدأت أشعر بالضيق، وأنني أصبحت العدو الذي يجب أن يُعاقب على ذنبه.

استخلصت “مارين” ذات الـ 34 عاماً من هذه التجربة المريرة أنه حتى عندما يكون دافع المرء لقول كلمة ما هو الرغبة البحتة في قول الصدق، فإنها قد تدمر علاقته مع الآخرين.

بعيداً عن هذا المثال بالذات، يُطرَح السؤال: هل يمكننا البوح بكل شيء لأصدقائنا؟ والسؤال ليس من ناحية القاعدة المعنوية والعرف الذي سيقدم لنا الإجابة الجاهزة: هنا، يمكننا القول، لا، وإنما من زاوية سذاجتنا عند قول هذه الكلمة التي نريد التعبير عنها. ما الأمر المخفي وراء إحساننا الودود؟

نحن ننتحل صفة المحرِّرين

تقول المعالجة النفسية “كاترين إيموليه-بيريسول”: “حتى لو تحدثنا بكل إخلاص، فإن كلماتنا تهدف إلى تصفية حساباتنا. بالتأكيد يكون ذلك إلى جانب ما نقوله للآخر وما نُسر به عن أنفسنا”. إن كشفنا لصديقتنا عن خيانة شريكها لها، قد يكون استجابةً لحاجتنا إلى معرفة ماذا سيكون موقفنا لو كنا في مكانها.

وتتابع المعالجة النفسية بقولها: “من المحتمل أيضاً، واحتمال اعترافنا بذلك يكون أقل، أنها طريقة لادعاء المقدرة، وانتحال صفة المحرر”. وفي جميع الأحوال، يتحمل الشخص الذي يتحدث مسؤولية كلامه، وأولها مسؤولية أذية الذي يتحدث إليه.

تقول “شارلوت” ذات الـ 28 عاماً أن شريكتها في السكن؛ والتي كانت علاقتهما وطيدةً جداً، جعلتها تحلف أن تحذرها إذا زاد وزنها أكثر من اللازم. وهذا ما فعلته “شارلوت”، ظناً منها أنها بذلك تتبع توجيهات صديقتها “سيلين”، غير أن “سيلين” لم تتوقع أن تخبرها بذلك فعلاً.

تقول “شارلوت”: “منذ اليوم الذي زل لساني وأخبرتها أنها يجب أن تخفف من تناول شوكولا “نوتيلا”؛ لم تعد بعدها علاقتنا ببعضنا كما كانت سابقاً. لُمت نفسي، فلم أدرك حينها أن كلامي قد يؤلمها.

تؤكد الطبيبة النفسية “كارول أزولاي”: “أن تقول باسم الصداقة “أنت لا تعتني بنفسك” أو “زاد وزنك” أو “ينبغي أن تزور طبيب أمراض جلدية” ليس بالأمر الهين، ونادراً ما يُعبَّر عنه دون وجود دوافع خفية. كما يُحتمَل أن تشير هذه الكلمات أيضاً إلى أسلوب حديث والدتنا معنا؛ والذي كان يفترَض أنه لصالحنا”. من الضروري أن نتمهل قبل أن نتفوّه بهذه الكلمات، وأن نسأل أنفسنا عما إذا كان الآخر قادراً على تقبل “الحقيقة” التي نحن على وشك إخباره بها.

تقول الكاتبة “جاكلين كيلين”؛ مؤلفة كتاب “أن تحب الصداقة” (To love friendship): “يجب أن تحترم الصداقة أيضاً حرية الجميع”، الحرية التي قد تتمثل بتجاهل خيانة الزوج أو أكاذيب الأولاد أو زيادة الوزن. وتحذر “كارول أزولاي” أن العزم على كشف الحقائق للصديق هو تصرف “تطفلي جداً ونادراً ما يكون مواسياً له”.

نحن نفرض الحقيقة التي نعرفها

تتساءل “جاكلين كيلين”: “ألا تُعرَّف الصداقة قبل كل شيء بسِمَة الراحة التي تشعرنا بها؟ عندئذ يكون واجبنا الأساسي اتجاه الآخر حمايته بدلاً عن أن نفرض عليه واقعاً اختار أن يتجاهله”.

توضح “كارول أزولاي” الفارق البسيط بين الأمرين: “يمكننا مساعدة صديقنا على العثور على الحقيقة من خلال سؤاله والإصغاء إليه. فمثلاً سؤال صديقتها إذا ما كان زوجها غائباً قليلاً مؤخراً لن يكون له نفس وَقع إخبارها أنه يخونها”. كما يمكننا أن نترك بعض المسافة في العلاقة، وذلك كي نجعل الآخر يتساءل عن أسباب قطيعتنا. تلك طريقة تزيح عن كاهلنا عبء معرفة أمور معينة يتجاهلها الآخر دون أن نضطره إلى البوح بها.

توجد طريقة أخرى لنرشد صديقنا إلى الطريق الصحيح ونجعله طرفاً فاعلاً في رحلة البحث عن الحقيقة تلك. لم يستطع “مارك” تحمل رؤية “أوليفييه” يتورط في قصة محكوم عليها بالفشل مع امرأة لم تحبه.

يقول “مارك”: “سمعت من الآخرين أنها ستبحث عن شخص آخر. لكن في المقام الأول لم أتحمل سماعه يحدثني عنها كلما التقينا.

عندما أدركت أنه لن يستمع لأي شيء أقوله، غادرت ولم أجب بعدها على أي من مكالماته، وما لبثَت نتيجة تصرفاتي هذه بالظهور”. زار “أوليفييه” “مارك” في إحدى الأمسيات زيارةً مفاجئةً ليسأله ما هي مشكلته. في تلك المرحلة؛ كان من السهل على “مارك” تبرير تصرفه: “بدلاً عن انتقاد صديقة “أوليفييه”؛ أخبرته أنني لم أعد أتعرف عليه، وأنني لم أعد مسروراً برؤيته على هذه الحال، حزيناً طوال الوقت ومهووساً بهذه الفتاة”. بعد بضعة أيام؛ التقى الصديقان تماماً كالأيام الخوالي. لم يضع “أوليفييه” حداً لعلاقته الرومانسية التي عدّها “مارك” علاقةً سامةً؛ لكنه تمكن من التحدث عن شيء آخر عندما يقضيان الأمسية معاً.

نتحدث عن أنفسنا

تعلق “كارول أزولاي” قائلةً: “يمكن أن يكون الكلام مباحاً إذا افترض المتحدث أنه يفعل ذلك لنفسه أيضاً. هذا لا يغير قسوة ذاك الحديث؛ لكن حقيقة تحمل مسؤولية كلماته تتيح للمتلقي ألا يُلزَم على تحملها بمفرده.

بتعبير آخر؛ ربما كان من الأفضل أن تشرح “مارين” لـ “كولين” أن عبء كتم هذا السر كان أكثر مما تتحمله، وأنها لم تكن لتتحمل أن تنظر في عينيها إذا أخفته عنها، بدلاً من أن تعلن لها بفظاظة أن خطيبها قد يكون غير مخلص لها.

أن نكون أصدقاء لا يعني أن نحتفظ لأنفسنا بكل ما يزعجنا خشية أن نؤلم صديقنا؛ لكن “أبقِ في ذهنك أن احترام الآخرين هو شرط للصداقة”، هذه الفكرة التي تشدد “جاكلين كيلين” عليها. وتضيف أنه في بعض الأحيان “الحضور الصامت يحمل في طياته من المواساة ما لا تحمله الأحاديث المطوّلة”.

وتؤكد “كارول أزولاي”: “نتوقع بيأس أن تترك الكلمات أثراً لا يمكنها دوماً تحقيقه، فهي لا تشفي العلل إلا إذا بقيت ضمن إطار إنساني”. ادعُ الآخرين ليُسائلوا أنفسهم، ويحسبوا كلماتهم، ويتساءلوا عن الأسباب الحقيقية التي دفعتنا إلى البوح لهم بما قد يؤلمهم، أو اللجوء أحياناً إلى الصمت الوقائي.

توجد الكثير من الاحتياطات التي يمكننا باتخاذها أن نتجنب قطع الرابط بيننا وبينهم. تختتم “جاكلين كيلين” بقولها: “إن الكياسة والمسافة الصحيحة هما محور الأمر”. تزوجت “كولين” في النهاية من خطيبها، وعاودت الاتصال بـ “مارين” بعد عام لتطلب منها أن تكون عرّابة ابنتها. هذا دليل أيضاً على أن الصداقة قد تنهض أحياناً من الإفراط في الصراحة.

جعل الآخر رهينةً لمشاعرنا

تُبنى العديد من علاقات الصداقة على أساس الثرثرة والبوح بما يجب وما لا يجب قوله. وبحجة أنه من صفات الصديق الصدوق أن يحفظ أسرار صديقه، ينجرف البعض إلى إفشاء أسرارهم بدون حساب. “فلورنس” و”إيزابيل” البالغتان من العمر  40 عاماً، صديقتان منذ سن المراهقة. تخبران بعضهما كل شيء، فعلياً كل شيء؛ من الأسئلة المتعلقة بالأمومة إلى مشاكلهما في العلاقات الحميمة، لدرجة جعلت “فلورنس” تشعر مؤخراً “بالاختناق” من أسرار “إيزابيل”؛ إذ تشهد بقولها: “وجدت بحوزتي معلومات حميمية جداً كنت أفضّل تجاهلها، وقد سئمت من ذلك نوعاً ما”.

تحلل المعالجة النفسية “كاترين إيموليه-بيريسول” ذلك بقولها: “أحياناً نبحث في الصداقة عن شيء فقدناه في طفولتنا”. تجعل هذه الرغبة في الاندماج البعض يخلط بين الصديق والمعالج النفسي، وهذا أمر قد يصعب التعامل معه بالنسبة للذي يؤدي دور الصديق المقرب كاتم الأسرار.

توضح “كاترين إيموليه-بيريسول” هذا بقولها: “إن استخدامنا للآخرين وعاءً لأسرارنا يؤدي بطريقة ما إلى جعلهم رهائن لمشاعرنا”، وتنصحنا أن نسأل أنفسنا ما الذي نتوقعه حقاً من الصداقة و”أن نفكر في توقعاتنا من الآخر، وهذا يتضمن  الصفات المشتركة التي تجمع بين الأصدقاء وتسهل العلاقات بينهم وليس الانجرار إلى إفشاء الأسرار.

المحتوى محمي !!