هل لعلم النفس دور في تقديم رسائل صحية فعّالة؟

4 دقائق
التواصل الصحي

يحظى تصميم الرسائل الصحية المُقنعة باهتمام العديد من الباحثين والممارسين في مجالات صحية عِدَّة، وذلك لإيصال معلومات مهمة تتعلق بسلوكيات الأفراد أو المجتمعات مثل تدخين التبغ ومنتجاته، أو السلوكيات الغذائية الخاطئة، أو قلة النشاط البدني، أو تناول المشروبات الكحولية.
لذا بَرَزَ دور علم النفس وبعض نظرياته التي ساهمت في زيادة تأثير الرسائل الصحية (Influence) والامتثال لها (Compliance) وما تطلبه من الأفراد والمجتمعات.

كُل ذلك، بطبيعة الحال، ظَهرَ بعد تزايد الحاجة إلى رسائل صحية توعوية إما تحث على تبنّي سلوك معيّن، أو التخلي عنه. دعونا نتعرف معاً أكثر على دور علم النفس في تقديم رسائل صحية فعّالة.

التواصل الصحي وعلم النفس

يُمثّل التواصل الصحي جميع أنشطة التواصل مع الأفراد أو الجموع البشرية -المجتمع ككل- والتي تركز على تحسين الصحة.

ويُشترط لنجاح وزيادة فعالية التواصل الصحي أن يتم نشر الرسائل الصحية من خلال مصادر موثوقة، إلى جانب إشراك المجتمع والتركيز على زيادة الوعي عن طريق مشاركة معلومات مبسّطة وخرائط معلوماتية بشكل مستمر.

بالمثل؛ يُشترط أن تكون رسائل التواصل الصحي مقبولة حسب السياق الاجتماعي، وأن تزيد أيضاً من فهم تصورات التهديد الصحي وقابلية الإصابة به.

وتُعد برامج الصحة العامة الحالية مثالاً يُحتذى به في الدمج بين علم السلوكيات وعلوم الاتصال التي تهتم بصياغة ونشر وقياس أثر تلك الرسائل؛ ما جعل منها أمراً حيوياً ومهماً ومُجرّباً لمكافحة الأمراض، أو حتى الوقاية منها.

وجدير بالذكر أن الكثير من علماء النفس الذين درسوا الرسائل الصحية والسلوكيات المترتبة عليها والمتأثرة بها وسعوا لتطبيقها، قد ساهموا في صياغة وتقديم تلك الرسائل الصحية الفعّالة؛ حيث ظهرت أهمية دورهم بعد قياس وتحليل نسب الاستجابة لها.

ارتباط علم النفس والتواصل الصحي

يرتبط التواصل الصحي مع علم النفس بشكل وثيق ومن أكثر من جهة؛ بحيث يؤثر كُلٌّ منهما في الآخر بشكل مباشر وغير مباشر.

ففي دراسة بريطانية حديثة أُجريت خلال فترة تفشّي كوفيد-19، ونشرها فريق بحثي بالتعاون بين إمبريال كوليج لندن وجامعة كامبريدج وجامعة ساسكس في 2020، تبيَّنَ أن التواصل الصحي الذي يبدأ من خلال تعزيز الرفاه والاحتياجات النفسية الأساسية للإنسان، أظهر قدرته العالية على دفع الأفراد والمجتمعات لتجاوز المشكلات الصحية وتعزيز التغيير السلوكي الفعّال والمستدام.

ويضيف الفريق البحثي أيضاً أن التعرّض المتكرر لوسائل التواصل الاجتماعي وما تنشره من رسائل غير دقيقة، ارتبط بشكل إيجابي مع الانتشار الكبير لمشاكل الصحة النفسية والعقلية، خاصة القلق والاكتئاب.

مثال آخر: في دراسة نُشِرَت نهاية عام 2020 أجراها باحثون من المعاهد الوطنية الأميركية للصحة (NIH)، وعندما حلل العلماء الرسائل الصحية المتعلقة بالتطعيمات الخاصة بفيروس كوفيد-19، وجدوا أن الحملات التي ركّزت على الأمل والإيثار والعواطف الإيجابية الأخرى كانت أكثر فعالية من الرسائل التي أثارت الخوف والقلق.

ومعنى ما سبق أن الرسائل الصحية غير الدقيقة قد تدهور الصحة النفسية والعقلية، وحتى الجسدية. في المقابل، فالرسائل الصحية المبنية بعناية على بعض نظريات علم النفس قد تؤتي ثمارها وتغير سلوكيات الأفراد والمجتمعات.

التواصل الصحي في وقت الجائحة

بعد عامين وأكثر من الحالة الأولى لكوفيد-19، أظهرت الدروس المستفادة خلال الاستجابة المستمرة للمتغيرات التي صاحبت تلك الجائحة، قيمة علم النفس العالية مقارنةً مع أي وقت مضى، بعد إدراك عالميّ متزايد لدور الأساليب السلوكية الأساسية في التواصل الصحي، بحسب الجمعية الأميركية لعلم النفس (APA).

لذا ظهرت خلال فترة الجائحة حاجة ماسّة لدى الجهات الصحية والحكومات، تتمثّل في نشر رسائل توعوية تتعلق بأهمية ارتداء الكمامات والالتزام بالتباعد الجسدي وغسل أو تعقيم اليدين لمدة كافية حتى يتفادى الأفراد والمجتمعات الخطر الذي قد يحمله التعرّض للفيروس.

وعلى سبيل المثال، ففي فترة الجائحة، اتّضح أنّ الشائعات والرسائل المضلِّلة باستطاعتها التأثير بشكل أساسي على صحة الإنسان الجسدية والنفسية والعقلية، نظير تحديها ونقضها للرسائل الموازية التي تَصدُر عن جهات صحية موثوقة، أو حتى عن الحكومات نفسها.

إطار الرسائل الصحية

يُظِهر الإطار الاستراتيجي للتواصل الصحي المُقدَّم من منظمة الصحة العالمية (WHO)، الذي يستهدف توفير المعلومات والنصائح والإرشادات لاتخاذ إجراءات فورية من شأنها حماية صحة الأفراد والأسر والمجتمعات والأمم، عدداً من الأركان الرئيسية؛ منها:

  1. سهولة الوصول للمعلومات والنصائح والإرشادات.
  2. الدعوة إلى تبنّي سلوك معيّن أو تجنبه.
  3. مصداقية الجهة التي تنشر هذه الرسائل الصحية.
  4. ملاءمة الرسائل الصحية للفئة المستهدفة.
  5. اختيار التوقيت المناسب.
  6. صياغة رسائل مفهومة للجميع.

إجمالاً؛ يجب على جميع أصحاب المصلحة من الأفراد والمجتمعات ومقدمي الرعاية الصحية والحكومات العمل معاً.

مثال من الدول العربية على الرسائل الصحية

على الرغم من اختلاف التجارب العربية في التعامل مع كوفيد-19؛ إلا أن التركيز هنا سيكون من واقع تجربتي الشخصية مع الرسائل الصحية التي تم نشرها وقت الجائحة.

شَهِدَ المجتمع السعودي إطلاق حملات مستمرة بعناوين جذابة ومطمْئِنة تستهدف توعية المواطنين والمقيمين، وتحميلهم قدراً من المسؤولية؛ ما يحثهم على تبنّي سلوكيات صحية من شأنها التقليل من انتشار جائحة كوفيد-19 وآثارها.

وعلى سبيل المثال لا الحصر؛ حملة "كلنا مسؤول" التي ظهرت في بداية انتشار حالات الإصابة بفيروس كوفيد-19 في السعودية. وقد تمحورت حول التوعية بمخاطر البقاء خارج المنزل لغير الضرورة، ومخالطة الآخرين؛ ما قد يزيد احتمالية انتقال الفيروس وانتشاره على مدىً أوسع.

وفي نفس السياق؛ استمرت وزارة الصحة السعودية والجهات المعنية بإطلاق حملات نوعية مثل "عيونك تكفي" و"بدون يمناك لا عدمناك"، ثم الانتقال بحملة رئيسية بعد تخفيف الإجراءات الاحترازية بمسمى "نعود بحذر" للتذكير بأهمية الامتثال للإجراءات الاحترازية.

وكان ختام الحملات الرئيسية يحمل اسم "مناعتنا حياة"؛ والتي تتحقق بإكمال أفراد المجتمع للجرعات التي ترفع نسبة المناعة، وكون اللقاح هو الأمل في عودة الحياة إلى طبيعتها.

وتميّزت جهود التواصل الصحي في السعودية بتسخير جميع منصات التواصل الاجتماعي في سبيل إيصال تلك الحملات والرسائل التي تحملها إلى الأفراد والمجتمع ككل. كما تُرجِمت العديد منها إلى لغات أخرى، حسب دراسة نشرتها مراكز بحثية وجامعات سعودية عام 2020.

ومن يُحلِّل هذه المشاهدات، يلاحظ إشراك المجتمع، والتركيز على زيادة الوعي، وتفعيل دور علم النفس في جعل تلك الحملات مؤثرة ويسهل الامتثال لها من خلال شعارات ملائمة ومفهومة للسياق المجتمعي واللهجات المحلية، مع الحرص على استخدام أشخاص يمثّلون جميع شرائح المجتمع.

في الختام؛ سوف يتزايد التركيز مستقبلاً على دور علم النفس في جعلنا أكثر قدرة على صُنع وتقديم رسائل صحية فعّالة للأفراد والمجتمعات العامة. كما سيشهد العالم ثورة في ذلك المجال، نظير التركيز على مواجهة أمراض نمط الحياة حتى قبل حصولها!

المحتوى محمي