مَن منا لم يسمع عن فلسفة "كُلما قَلْ، كَثُر"؟ لقد أصبحت أقرب إلى عبارة رنانة وشائعة تصف أسلوباً حياتياً يتميّز بالتركيز على الزُهد فيما قد يسمى علمياً "التبسيطية" أو "التقليلية" (Minimalism).
وتكاد رفوف المكتبات لا تخلو من الكتب التي تتحدث عن هذه الفلسفة المغايرة في التعاطي مع الحياة بعيداً عن الماديات؛ إلّا أن العالم لا يزال رهينةً لفلسفة الاستهلاك العالي لأجل الاستهلاك فقط.
بالإضافة إلى ما سبق؛ تمتلئ منصات التواصل الاجتماعية بالوسوم التي تدعو لتبنّي التقليلية والتي يقودها أناس متفانون في توثيق نمط حياتهم المختلف.
ولعل من أشهر التجارب التي ينادي بها المهتمون بهذه الفلسفة، تلك التي تتمحور حول تجربة شراء عدد من الأقمصة والبناطيل المتشابهة بهدف التغلّب على معضلة الاختيار وتوفير الوقت إلى جانب عدد من الفوائد الأخرى الصحية والبيئية والمالية.
وعموماً؛ جديرٌ بالذكر أن التقليلية تتميّز بمرونة لا تجعل منها حكراً على مجال دون غيره، فمن الملاحظ أنها تتشكل بصور مختلفة تتناسب مع خطط من يتبناها، حتى أنه قد تطورت منها تطبيقات عديدة تلامس عدة من جوانب حياتنا.
على الرغم من ذلك، فما يهمنا هو دور هذا الأسلوب الفلسفي الحياتي المحتمل في تعزيز الصحة النفسية والعقلية وتحسين مستوى صحة الإنسان وجودة حياته.
ما هي التقليلية؟ وهل تؤثر في صحتنا النفسية والعقلية؟ وما الذي يمكننا تعلّمه منها؟
فلسفة التقليلية
تُعرِّف التقليلية بالاستهلاك المتوازن للأشياء المادية مع بناء خبرات أكثر روحانية ومعنىً، إلى جانب وضع القيم الشخصية كأولوية عند تقييم العلاقات والصحة والبيئة والاستدامة، حسب أطروحة الماجستير للباحثة بجامعة هارفارد "دون هيكس" (Dawn Hicks).
وتبدو في إحدى أشكالها المتعددة أقرب إلى التخلص من الفوضى وتكدّس الأشياء المادية من حولنا أو حتى التخلص من مصادر الإلهاء التي قد تسلب الانتباه أو تشتت التركيز؛ ما يجعلنا أكثر تركيزاً على الأشياء التي تحمل قيمة أعلى بالنسبة لنا.
وتعطي هيكس بالإضافة لذلك مفهوماً آخرَ يُسمى "التبسيطية الطوعية" (Voluntary Simplicity)؛ وفيها يتبنّى الممارسون للتقليلية تبسيط السلوكيات بناءً على منظومة القيم الشخصية مع إيلاء التخلّص من الفوضى المادية والنفسية والعقلية قدراً كبيراً من الاهتمام.
هل تؤثر في صحتنا النفسية والعقلية؟
في دراسة نُشِرَت في "مجلة علم النفس الإيجابي" (The Journal of Positive Psychology) نهاية شهر أكتوبر/تشرين الأول 2021، حلل فريق بحثي بيانات نحو 23 دراسة سابقة تتعلق بالتقليلية وأثرها في الصحة والعافية النفسية.
وقد وجد الباحثون الذين مثّلوا جامعة شمال تكساس وكلية هوب وجامعة ولاية جورجيا في الولايات المتحدة الأميركية ارتباطاً إيجابياً ملحوظاً بين التبسيطية الطوعية والعافية النفسية .
ويتكهّن العلماء أن العلاقة بين التقليلية (Minimalism) والعافية النفسية مرتبطة بحقيقة أن ممارسة التبسيطية الطوعية تعطي بعض الأشخاص قدرة على التحكم في الرغبات أو النزعات الاستهلاكية.
بصورة مشابهة؛ يتوقع العلماء أن التقليلية أيضاً قد تُشجِّع الناس على التركيز على الاحتياجات النفسية الأساسية كالاستقلالية والكفاءة والترابط التي تُعرَف بتعزيزها للنمو النفسي (Psychological Growth).
إضافة لما سبق؛ وجد الباحثون أيضاً دليلاً على أن العلاقة بين التقليلية والعافية النفسية كانت أقوى لدى المشاركين ذوي الدخل المنخفض والمشاركين الأكبر سناً.
ما الذي يمكننا تعلّمه من التقليلية؟
تبعث التقليلية في مضمونها رسالة واضحة مفادها أن في الحياة أشياء أكثر قيمة من الاستهلاكية الحديثة.
ومن خلال إجبار الفرد على العيش بأسلوب متعمد وواعٍ من خلال التساؤل المستمر عما يهم حقاً، فإن ممارسات التقليلية تشجعنا على تجاهل تلبية شهوات النفس والتركيز على النمو الشخصي الذي تختلف معاييره وأهدافه من شخص لآخر؛ ما يساعد في تحقيق الذات.
ولعل هرم ماسلو للاحتياجات الإنسانية يساعدنا في تحديد مدى نجاحنا في إرضاء رغباتنا بصورة متوازنة من خلال فهم الاحتياجات الأساسية والنفسية واحتياجات تحقيق الذات.
كما تنبهنا التقليلية بصورة مستمرة للعمل بصفة جديّة على التخلص من المادية السلبية واقتناء الكماليات التي لا طائل من تكديسها سواءً في بيئة المنزل أو خارجها، إلى جانب أهمية تظافر الجهود فيما يخص الحفاظ على البيئة والذي يتحقق جزئياً بممارستها.
ختاماً؛ فلسفة "كُلما قَلْ، كَثُر" تستهدف أن يكون الجو العام مناسباً لحياة أكثر قيمة ومعنى معزِّزة للصحة والعافية النفسية ومساعِدة في تحقيق الذات وأعلى مستويات جودة الحياة.
فتقليل الاستهلاك المادي أو عدد القرارات أو الخيارات، أو التخلص من الفوضى النفسية والعقلية والمادية؛ إنما هما خطوات عملية لتحقيق الذات وتخليصها من بعض الأشياء التي لا قيمة لها!