ملخص: يُعد التقاعد أحد التحولات الرئيسية في حياة الأفراد، وقد يكون صعباً وذا تأثير نفسي سلبي بالنسبة إلى الكثيرين. وعلى الرغم من وجود أدلة متضاربة حول مدى تأثير التقاعد السلبي في الصحة النفسية واحتمالية تسبُّبه في الاكتئاب؛ لكنه قد يصبح فرصة للنمو حسب كيفية تعامل الأفراد معه وطريقة تعويض مكاسب العمل من الشعور بالمكانة الاجتماعية وامتلاك الأهداف، بأخرى تناسب فترة التقاعد وتسهم في تعزيز الصحة النفسية للأفراد. فكيف يمكن الاهتمام بالصحة النفسية والعاطفية خلال هذه المرحلة المهمة؟
يرسم إيقاع يومنا حياتنا، وعندما نستيقظ كل صباح منشغلين ذهنياً بمهام اليوم العملية والمنزلية لسنوات عديدة، يصبح من الصعب التخلي عن هذا النمط الذي اعتدنا عليه بين عشية وضحاها عند الانتقال إلى مرحلة التقاعد.
وبينما يظهر التقاعد عن العمل كفرصة للتخلص من ضغوط العمل ومسببات التوتر وقوائم المهام الطويلة والصعبة في كثير من الأحيان، يكون أيضاً مرحلة فقدان الهيكل اليومي الذي اعتاد عليه الفرد لسنوات، بالإضافة إلى علاقات العمل والأهداف كالنمو الشخصي وبناء القدرات؛ ما يضع الفرد وجهاً لوجه مع إيقاع يومي مختلف بدرجة كبيرة عليه التعامل معه جيداً.
التقاعد كأحد أبرز الأحداث المرهقة في الحياة
تشير الباحثتان الاجتماعيتان دورين روزنتال (Doreen Rosenthal) وسوزان مور (Susan Moore) في مقالهما حول تأثير التقاعد في الصحة النفسية، إلى أن التقاعد يحتل المرتبة العاشرة في قائمة الأحداث الأكثر إرهاقاً في الحياة، ويمكن أن يكون مضراً بالصحة البدنية والنفسية.
كذلك، يُعد التنبؤ بكيفية تأثير التقاعد في الصحة أمراً بالغ الصعوبة، لأن التقاعد يقترن بالشيخوخة فالمتقاعدون غالباً يكونون أكبر سناً من الذين ما زالوا يعملون، ومن ثم فإن ما يبدو أنه نتيجة للتقاعد يمكن أن يكون أيضاً جزءاً من التقدم في العمر.
وهذا ما أوضحته أيضاً دراسة من جامعة وهران بالجزائر أشارت فيها الباحثة حليمة قادري إلى ارتباط التقاعد بمرحلة الشيخوخة التي تحمل العديد من المعتقدات والآراء التي تصف أفراد هذه المرحلة بالعجز والاعتمادية والمرض والسلبية، بالإضافة إلى ضعف القدرات الإدراكية، لذا فهُم بحاجة ماسّة إلى الرعاية والاهتمام لما طرأ على حياتهم من تغيرات وظيفية وعضوية.
إلا أن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال أن الفرد يصبح غير قادر على تعويض الأدوار الاجتماعية التي فقدها بانتقاله إلى مرحلة التقاعد؛ بل يمكنه فعل ذلك وأن يكون أكثر إيجابية نحو ذاته وأسرته ومحيطه بشكل عام.
كيف يؤثر التقاعد في الصحة النفسية للأفراد؟
وفقاً لروزنتال ومور؛ تتأثر الصحة النفسية للأفراد في مرحلة التقاعد بعدة عوامل:
- عوامل خارجية مثل سوء صحة الشريك أو المطالبة بمسؤوليات أكبر في رعاية الأسرة، ومن المرجح أن تقضي النساء وقتاً أطول من الرجال في القيام بذلك؛ ما يزيد معدلات التوتر لديهن.
- فقدان الهيكل اليومي حيث يشعر الفرد وكأنه يسقط سقوطاً حراً.
- بالنسبة إلى الأفراد الذين يرتبط إحساسهم بأنفسهم بهويتهم العملية، يمكن أن يكون التقاعد احتمالاً مخيفاً؛ حيث ينعكس عدم وجود التحديات التي يجلبها العمل اليومي لحياتهم على فقدان احترامهم لذواتهم وشعورهم بضعف أدوارهم وعدم إسهامهم في المجتمع.
- يمكن أن يمثل فقدان الموارد المالية مصدراً كبيراً للقلق ويؤثر سلباً في العديد من جوانب الرضا عن الحياة، فيدفع الفرد للحد من تكاليف السكن الآمن والرعاية الصحية المناسبة، وكذلك تقليل فرص المشاركة في أدوار وأنشطة جديدة بسبب تكلفتها.
فرصة للازدهار أم الذبول؟ سمة شخصية تحدد
لا شك في أن العمل يمنحنا تمريناً نفسياً يحافظ على لياقتنا العقلية؛ حيث تزخر بيئة العمل بالتحديات المختلفة بداية من الجوانب التخطيطية للمهام، يليها التنفيذ ومحاولة منع المشتتات والتركيز على المهمة في متناول اليد.
وهناك الجوانب الاجتماعية والعاطفية للعمل التي تجعلنا أيضاً يقظين عقلياً؛ مثل التعامل مع طلبات المدراء والسلوكيات المزعجة من زملاء العمل، وكل ذلك يتطلب مستوىً عالياً من الذكاء العاطفي بحسب أستاذ علم النفس في كلية جورجيا جوينيت الأميركية، ديفيد لودن (David Ludden).
على النقيض من ذلك، تُبنى حياتنا المنزلية مع شركائنا على مجموعة من العادات الراسخة التي من النادر أن تُرهقنا عقلياً. وعندما نتقاعد، فإننا نخاطر بفقدان الفرص لتحدي أنفسنا عقلياً والحفاظ على لياقتنا العقلية.
إلا أن الأمر ليس قاطعاً بأن التقاعد يؤثر سلباً في الصحة النفسية والقدرات الإدراكية، فبينما يصبح البعض ضحية للتدهور المعرفي والإدراكي؛ يزدهر آخرون.
ويحدث ذلك نتيجة توفر سمة شخصية حددها الباحثون في دراسة منشورة بدورية علم النفس والشيخوخة (Psychology and Aging)، ويُطلق على هذه السمة "القدرة على التراجع عن الأهداف الصعبة" (Goal Disengagement) وهي تشير إلى الميل إلى الاستسلام والانفصال عن المهام بسهولة عندما تصبح صعبة. وتُظهر العبارات التالية هذه السمة:
- عندما لا تتم تلبية توقعاتي؛ أخفضها.
- لا أضع أهدافاً كبيرة لتجنب خيبات الأمل.
- أشعر بالارتياح عندما أتخلى عن بعض مسؤولياتي.
يشير الباحثون إلى أن الاتفاق مع هذه العبارات يُعد مؤشراً قوياً لامتلاك هذه السمة؛ ومن ثم زيادة فرص المعاناة من التدهور المعرفي ومشكلات الصحة النفسية خلال مرحلة التقاعد. وبينما يمكن لهؤلاء الأشخاص الاستمرار في أداء المهام الصعبة عندما يتطلب الموقف ذلك -كما هي الحال في بيئة العمل- فهم يستسلمون بمجرد أن تصبح الأمور صعبة مع عدم وجود ضغوط خارجية لتنفيذها، فهُم الأشخاص الذين يتركون أحجية الكلمات المتقاطعة نصف منتهية أو لديهم عدد من المشروعات غير المكتملة.
في المقابل، يُعد عدم الاتفاق مع العبارات المذكورة آنفاً علامة جيدة على إمكانية الازدهار والنمو خلال مرحلة التقاعد، وسعي الفرد إلى وضع أهداف شخصية وتحقيقها حتى لو لم يكن لديه دافع خارجي كإلحاح شخص أو وجود مكافأة مقابل ذلك في النهاية، فإذا بدأ هذا الفرد مشروعاً أو مهمة لن يشعر بالرضا حتى إتمامها.
اقرأ أيضاً: دراسة استمرت نحو 70 عاماً تكشف أهم أسباب السعادة
كيف يمكن الاهتمام بالصحة النفسية بعد التقاعد؟
تشير الأستاذة المساعدة في علم النفس في كلية ويليام جيمس الأميركية، كاثرين كينغ (Katherine King) إلى أنه من الطبيعي أن نشعر بالحزن تجاه احتمالية التقاعد، فمن الصعب ترك روتين العمل اليومي والزملاء والدخل المادي دفعة واحدة، وقد يُصاب البعض بالصدمة لاكتشاف الاضطرابات النفسية والعاطفية التي تنشأ بعد بضع أشهر من التقاعد والناتجة من الشعور بالملل والوحدة وفقدان الأهداف الواضحة.
على الجانب الآخر، يدير البعض الأشهر القليلة الأولى من تقاعدهم بشكل دقيق وينغمسون في المشاركة في الأنشطة حتى يصبحوا أكثر انشغالاً مما كانوا عليه خلال فترة العمل، ويمكن أن يكون ذلك أيضاً مرهقاً فيتخلون عنه لاحقاً.
يتطلب الأمر خطة جيدة من أجل رعاية صحتك النفسية في مرحلة التقاعد، والإعدادُ لذلك يسبق هذه المرحلة بفترة كافية.
أولاً، عليك البدء بالتفكير وتدوين ما يجعلك تعيش مرتاحاً نفسياً في حياتك العملية. وبمجرد أن تتعرف إلى الطرائق التي أثرى بها العمل حياتك، ابدأ في طرح أفكار جديدة وبدائل مختلفة لتلبية احتياجاتك تلك بعد التقاعد.
على سبيل المثال؛ إذا كنت تستمتع بالتواصل الاجتماعي في العمل، فكيف ستضمن حصولك على مثل هذا التواصل بعد التقاعد؟
يخطط بعض الأشخاص للبقاء على اتصال مع الأصدقاء من العمل بينما يعرف آخرون أن علاقات العمل لن تستمر بالقوة ذاتها خلال هذه المرحلة الجديدة. يمكن أن يمثل قضاء المزيد من الوقت مع العائلة فرصة جيدة للتواصل الاجتماعي، وإذا لم تكن العائلة هي الشيء الذي تفضله ففكر في طريقة أخرى مثل المشاركة في أنشطة مجتمعية.
كذلك، لا تتجاهل الإحساس بوجود هدف تسعى إلى تحقيقه وأهمية الإسهام المجتمعي الذي يوفره العمل. حتى لو لم تحب وظيفتك أبداً، فقد تندهش من شعور الحياة الفارغة من دونها، لذلك عليك التفكير في الطريقة التي تريد أن تقضي بها أيامك.
قد تجد أن الترفيه يصبح مملاً بسرعة أو أن السفر محفز لفترة قصيرة وتريد أن تشعر بدورك الحقيقي في اللحظة الحالية، لا الاعتماد على ذكريات الماضي. يمكنك أن تفكّر في الطرائق والمهارات التي تحب أن تسهم بها، والموضوعات التي تهمك أكثر من غيرها.
قد تكتشف أيضاً خلال مرحلة التقاعد أن الأشياء الصغيرة أحياناً؛ مثل التنقلات من العمل وإليه، هي التي تفتقدها كثيراً. إذا أدركت أن تنقلاتك تسهم في تقليل شعورك بالعزلة، فقد تجد أنه من المفيد ممارسة التأمل أو الذهاب في رحلات قصيرة على الطريق للاستمتاع ببعض الوقت الهادئ بمفردك.
بالإضافة إلى ما سبق، ولتحقيق أقصى استفادة من فترة التقاعد والابتعاد عن شبح الشعور بالوحدة والملل؛ تشير اختصاصية علاج الزواج والأسرة أندريا برانت (Andrea Brandt) إلى أهمية الإجابة عن الأسئلة التالية:
1. ما الذي يجعلني متحمساً للاستيقاظ في الصباح؟
ابدأ بإعداد قائمة تشمل الأنشطة التي تستمتع بالقيام بها، وقم بتضمين الأنشطة التي لم تقم بها منذ سنوات ولكنك تذكر أنك تستمتع بها. على سبيل المثال؛ الكتابة أو زيارة المعارض أو الرسم، إلخ. إذا كنت تحب زيارة المعارض، فكر في التطوع في أحدها في منطقتك. إذا كنت تحب الرسم، تردَّد إلى دورات في الفنون. إذا كنت تحب الكتابة، فكر في كتابة مذكراتك على شكل سلسلة من الرسائل لأطفالك أو أحفادك.
2. ما التمرينات التي تجعلني أشعر بالرضا عن جسدي؟
يُعد الحفاظ على لياقتك البدنية بعد التقاعد أمراً حيوياً، لذلك اكتب قائمة بالأنشطة البدنية التي استمتعت بها طوال حياتك. إذا كنت لا تستطيع التفكير في أي شيء، فهذه هي الفرصة المثالية للتواصل مع جسدك.
3. ما الأنشطة التي تغذي روحي؟
فكر في التجارب السابقة التي مررت بها والتي جعلتك تشعر بالسكينة والهدوء ثم ضع خطة لدمج نشاط واحد على الأقل في الأسبوع الأول بعد التقاعد يجعلك تشعر بالسلام مع نفسك ومع محيطك.
اقرأ أيضاً: 5 نصائح لمحاربة الضغط النفسي في مرحلة التقاعد
وأخيراً، يمكن أن يكون التفكير فيما نجح معك خلال حياتك العملية دليلاً مفيداً على نوع التقاعد الذي قد تجده ممتعاً أيضاً؛ لكن لا تقيّد نفسك. ويمكن أن يكون التقاعد أيضاً فرصة للنمو واكتشاف نفسك وتلبية احتياجاتك التي أبعدك عنها العمل لسنوات طويلة.