تمثل الآثار الجسدية التي يخلفها "التغير المناخي" (Climate Change) الجزء الظاهر من جبل الجليد؛ إذ توجد العديد من الآثار الأخرى التي تخلفها هذه الظاهرة الطبيعية المدفوعة بالأفعال الإنسانية غير المسؤولة، على غرار الآثار السلبية في الصحة النفسية والعقلية للأفراد، وهذا حسب العديد من الدراسات والأبحاث الحديثة التي تناولته.
وبحسب الأمم المتحدة؛ يُعرّف التغير المناخي على أنه "التحولات طويلة الأجل في درجات الحرارة وأنماط الطقس"، لذا سنتعرف في هذا المقال عن قرب إلى تأثير التغير المناخي على صحتنا النفسية والعقلية.
كيف يؤثر التغير المناخي في الصحة النفسية؟
في مراجعة علمية حديثة نُشِرت بالتعاون بين جامعة بيرزيت الفلسطينية وكينغز كوليدج لندن وكلية لندن للصحة والطب الاستوائي البريطانيتَين في شهر يناير/كانون الثاني 2022، وبعد تحليل أكثر من 100 دراسة علمية تقيس العلاقة بين التغير المناخي وما يحمل في طياته من مجهول، وأثره في الصحة العقلية النفسية، وجد العلماء أن معظم الدراسات بنسبة 79%، ذكرت وجود ارتباط إيجابي بين حالة الغموض (عدم اليقين) ومشاكل الصحة النفسية والعقلية؛ إذ يرتبط عدم اليقين عادةً سلباً بظهور اضطرابات نفسية وعقلية مثل التوتر والقلق.
وبحسب أحدث إصدارات "المجلة الأيرلندية للطب النفسي" بعنوان "تغير المناخ والصحة النفسية: حان وقت العمل وجلب التأييد" (Climate change and mental health: time for action and advocacy)؛ وصف العلماء التغير المناخي على أنه من أحد أعظم التهديدات التي تواجه البشرية ككل فيما تبقى من القرن الواحد والعشرين.
ومن المهم التنويه إلى أن الأجيال القادمة ستواجه بلا شك تبعات تغيرات المناخ التي تشكّل تحدياً في أصلها للصحة العامة للأفراد والمجتمعات، مع التأكيد على ضررها الجسيم بسبب تصاعد وتيرتها عاماً بعد عام في صور متعددة.
ويؤثر التغير المناخي على البشر بأشكال كثيرة وملحوظة؛ مثل التهجير القسري، وتزايد أعداد اللاجئين، وانعدام الأمن الغذائي، وزيادة حدوث الكوارث الطبيعية في أماكن مختلفة، والظواهر الجوية القاسية التي تصيب بلدانَ لم تكن تشهدها، وانتشار الأمراض المعدية.
أشكال التغير المناخي وآثاره
عادةً ما يصاحب حوادث التغير المناخي القاسية عدد من الآثار التي يجب علينا وصفها حتى نستطيع التعرف عليها بسهولة.
ظواهر المناخ المتطرفة
تظهر آثار الكوارث الطبيعية على الصحة النفسية في شكل ارتفاع نسب ظهور مجموعة من مشاكل الصحة النفسية والعقلية. فعلى سبيل المثال؛ من جمهورية أيرلندا، ذكر العلماء ارتباط الفيضانات بزيادة احتمالية ظهور أمراض نفسية وعقلية مثل اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD).
وفي الحقيقة هذا المثال يمكن تعميمه بشكل منطقي أكثر عند إعطاء أمثلة أكثر على ظواهر المناخ المتطرفة التي عرّفنا عليها التغير المناخي مؤخراً؛ ومنها الظواهر الجوية المتطرفة أو الكوارث الطبيعية مثل الفيضانات، والعواصف المدارية والمطرية، والأعاصير، والجفاف، والأوبئة المرتبطة بتغير المناخ، والتصحر والتغيرات في درجة حرارة الهواء المحيط، وارتفاع مستوى سطح البحر.
بناءً على ما سبق، فقد يكون بالإمكان تخيّل حجم الضرر الناتج عن التحديات التي تخلقها هذه التغيرات المناخية، وتأثيرها في الحقيقة على صحتنا العقلية والنفسية.
مثال آخر؛ وجد العلماء ارتباطاً بين العواصف الشديدة، وزيادة مخاطر الصحة النفسية والعقلية بشكل ملحوظ، فبعد إعصار كاترينا، بحث نحو 16% من الناجين للحصول على علاج لمشاكل الصحة النفسية والعقلية في الأشهر الثمانية التي أعقبت حدوث الإعصار، بمعدل شخص واحد فقط من كل ثلاثة أشخاص أبلغوا في ذلك الوقت عن تعرضهم لأعراض نفسية أعلى من ذي قبل في نفس الفترة.
بالإضافة إلى ذلك؛ ذكر العلماء أن ما يقرب من واحد من كل أربعة ناجين من إعصار كاترينا من الأشخاص الذين كانوا يخضعون لعلاج يتعلق بصحتهم النفسية والعقلية قبل الإعصار، قللوا أو توقفوا عن العلاج بسبب جسامة الاضطرابات النفسية والعقلية التي عانوا منه جرّاء تعرضهم له.
تأثير ارتفاع موجات الحرارة
يرتبط التغير المناخي -حسب تعبير كثير من العلماء المتخصصين- بتزايد موجات الحرارة الشديدة والجفاف، حتى أصبحت هذه الموجات سمةً تصف العواقب الوخيمة المعروفة لتغير المناخ.
على سبيل المثال؛ قد تكون آثار التغير المناخي -على شكل فترات جفاف غير مسبوقة منذ بدء القرن الحالي- عاملاً محورياً زاد من معدلات الانتحار لدى الذكور في المناطق الريفية في أستراليا.
عموماً؛ تميل موجات الحرارة الشديدة إلى خلق تأثيرات مختلفة في شكل أحداث طارئة ووفيات متزايدة تؤثر في مؤشرات الصحة النفسية والعقلية في عدد من البلدان حول العالم؛ ما يجعل العلماء ينادون بالحاجة الماسّة لمختصي الصحة النفسية العقلية، لا سيما في تلك البلدان المعرضة لموجات الحر.
عدم المساواة والهجرة
من المتوقع أن يؤثر التغير المناخي بشكل أكبر على أولئك الذين يعانون من أنواع مختلفة من الحرمان؛ ما يرجّح أن يظهر لديهم معدل انتشار أعلى للاضطرابات النفسية والعقلية.
بالإضافة لذلك؛ يؤثر تغير المناخ على توفر الموارد، خصوصاً في المناطق التي تعاني مسبقاً، مع توقعات بزيادة عدد اللاجئين لما لا يقل عن 200 مليون شخص من المناطق ذات القابلية العالية لتغير المناخ، والقدرة المنخفضة على التكيف مع تغير المناخ؛ مثل دلتا الأنهار في أفريقيا وجنوب آسيا.
يجدر هنا أن نتطرق للحواجز الثقافية والاقتصادية واللغوية التي ستقلل من نسب تكيّف هؤلاء اللاجئين، وتخلق نوعاً من العزلة التي بدورها ستؤثر على صحتهم النفسية والعقلية.
فعلى سبيل المثال؛ في أيرلندا، يعاني طالبو اللجوء من 5 إلى 6 أضعاف مخاطر الإصابة باضطرابات الصحة النفسية والعقلية؛ مثل الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة، مقارنةً بعامة السكان، ويرتبط حال المهاجرين والعزلة الثقافية على وجه التحديد بزيادة مخاطر الاضطرابات الذهانية.
وعلى الرغم من المخاطر الصحية المعروفة المرتبطة بالهجرة، فقد طور عدد قليل من البلدان في العالم إجراءات وخدمات لاستقبال المهاجرين التي من شأنها أن تعزز الصحة والرفاه على النحو الأمثل.
البيئات من حولنا
تزيد البيئات الحضرية غير الصحية والملوثة، من حجم التأثيرات السلبية للتغير المناخي على الصحة النفسية والعقلية. وعلى العكس؛ يرتبط الوصول إلى المساحات الخضراء مراراً وتكراراً بتحسين الصحة النفسية والعقلية والبدنية، وتقليل الوفيات الناجمة عن جميع الأسباب.
بطبيعة الحال؛ باستطاعتنا تحسين الصحة النفسية والعقلية من خلال الاستثمار في إيجاد طرق آمنة وفعالة للسفر والنقل العام، وتعزيز ممارسة الرياضة البدنية؛ ما يقلل انبعاثات الكربون، والتعرض للمواد الجسيمية والسموم.
الأوبئة والتنوع البيولوجي
يستلزم الحديث عن التغير المناخي ألا نُغفل ازدواجية المشكلات التي من شأنها التأثير على التنوع البيولوجي؛ بحيث تتأثر أغلب المناطق المناخية، وتنوعها البيولوجي؛ ما قد يُنتج عدداً من الأوبئة التي لم يسبق لنا التعرّف عليها.
ونحن لا نواجه خطر الاحتباس الحراري فحسب؛ ولكن أيضاً خطر فقدان ذلك التنوع البيولوجي، نظراً لتوغّل البشر أكثر فأكثر في الأماكن النائية التي لم يمسّها الإنسان منذ قرون.
وعلى سبيل المثال؛ شهد العالم أجمع مؤخراً التأثيرات الجسيمة لجائحة كوفيد-19 على الحالة النفسية والعقلية للأفراد بشكل خاص، والمجتمعات ككل.
بناء القدرات والمرونة النفسية
يُعتبر تأطير أزمة المناخ على أنها أزمة صحية أمراً ضرورياً حتى تحظى بزيادة في المشاركة العامة؛ التي تعد ضرورية في بناء الزخم لتجنب الانهيار المناخي الكارثي، ويمكن التعامل بفعالية مع متطلبات المرحلة الحالية من خلال تغيير السلوك؛ والذي يمكن العمل عليه بشكل علمي من قِبل مختصي الصحة النفسية العقلية والصحة العامة.
ويجب أن يكون دورنا فعّالاً من خلال الحد من تأثير أنشطتنا على البيئة، وتوفير قيادة موثوقة ومفعمة بالأمل للاستعداد لتأثيرات تغير المناخ على الصحة العقلية للسكان.
من المهم أيضاً إعداد وتعزيز نظام الرعاية الصحية بحيث يصبح نموذجاً قائماً على تعزيز الصحة واستدامة العافية (Health-based Approach)، بدلاً عن التركيز على المرض (Illness-based Model)؛ بما في ذلك الوقاية من الأمراض، وتعزيز رأس المال الاجتماعي، ومرونة المجتمع والتمكين الشخصي.
يجب أيضاً أن تكون مناهجنا وتدريباتنا الطبية والنفسية مقاوِمةً للتغير المناخي. لقد شهد العالم تغيرات كثيرة بسبب جائحة "كوفيد-19"، وتطلّع الكثير من المختصين في الرعاية الصحية إلى القيادة الحكيمة، فيجب أن يكون أطباؤنا مجهزين لإدارة هذه التغيُّرات بفعالية.
في النهاية؛ من الواجب علينا جميعاً أن نسعى لفهم مسببات التغير المناخي، وأثره على الصحة النفسية والعقلية، حتى إن لم تكن هذه الاضطرابات ظاهرة كالألم الجسدي.
كما علينا أن نسعى للمساهمة في جهود تقليل مسببات التغيرات المناخية، ونمد يد العون متى أمكن حتى نضمن للجيل القادم صحة نفسية وعقلية أفضل في عالم أكثر استقراراً ومفعم بالحياة.