هل يجب أن ننفّس عن مشاعرنا المكبوتة أم لا؟

التعبير عن المشاعر
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: إيناس غانم)
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ملخص: تختلف معرفة كيفية التعبير عن مشاعرنا كلياً وجزئياً عن “تصريفها” بعد الشعور بالغضب؛ ولكن يُقصَد بها التعبير عنها عند ظهورها، مع مراعاة طبيعة الموقف ذاته والأشخاص الذين نتفاعل معهم. فهل يُنصح بكبت المشاعر أم التعبير عنها بطريقة انفجارية؟ هناك رأيان أحدهما مؤيد للتعبير عن المشاعر المكبوتة بحجة أن التعبير عن المشاعر يمنح الجسد القدرة على التعبير عمّا يجيش بالنفس من مشاعر وأحاسيس مكبوتة. أما الرأي المعارض فيستند إلى إحدى الدراسات الحديثة التي تقول: “أن هذا التنفيس العاطفي ليس مفيداً كما يُعتقَد”.

تجيبنا متخصصة في علم النفس قائلةً: “نعم، لأن البكاء والصراخ يمنحان الجسد القدرة على التعبير عمّا يجيش به من مشاعر وأحاسيس مكبوتة”، في حين يعترض طبيب نفسي قائلاً: “لا، لستَ بحاجة إلى أن تضرب وسادة لأن ذلك سيزيد الأمر سوءاً فيما بعد”. حالة جدلية معقدة!

الرأي المؤيِّد: إيزابيل فيليوزه (Isabelle Filliozat)

اختصاصية علم النفس السريري ومعالجة نفسية معتمدة في تحليل المعاملات والبرمجة اللغوية العصبية، بلغ عدد مؤلفاتها 7 كتب من ضمنها كتاب “ماذا يجري بداخلي؟” (Que se passe -t-il en moi?)، وكتاب “في صميم عواطف الطفل” (Au coeur des émotions de l’enfant)، وكتاب “ذكاء القلب” (L’intelligence du coeur).

انخرطت لاعبة الجمباز في بكاء مرير، فمنذ أن أُصيبت بحالة من الخوف أدّت إلى شل حركتها، لم تعد قادرة على أداء حركاتها المفضلة. حاولتُ أن أساعدها على التنفيس عن مشاعرها المكبوتة والسماح لجسدها بالتعبير عمّا يجيش به، وبعد أن تعافت قليلاً إثر ممارستها لأساليب التنفس العميق، استطاعت إيقاظ ردود فعلها الفيزيولوجية الطبيعية وعندئذٍ ندّت عنها 3 صرخات خرجت من أعماقها، ولم تكد تمضي بضع دقائق حتى استطاعت أداء حركاتها المفضلة في الجمباز دون أدنى مشكلة.

ومنذ أن استطاعت سارة استحضار مشاعرها وأحاسيسها المصاحبة لحادث الاغتصاب الأليم الذي تعرّضت له في طفولتها، اختفت أعراض داء الهربس التناسلي، فقد ظلت هذه الحادثة تمثل لها عقدة نفسية مكبوتة لأكثر من 20 سنة، ولكنها بقيت حاضرة في مخيلتها دون أن تغيب عنها سوى لحظات معدودة. وقد تتسبّب العُقَد النفسية المكبوتة في إصابة المرء بالذعر من مخاطبة الجمهور، وهي الحالة التي يمكن التخلُّص منها نهائياً من خلال بضع صرخات. ومن السهل جداً أن نمنح الجسد القدرة على التعبير عمّا يجيش به من مشاعر وأحاسيس مكبوتة، فلماذا تحرم نفسك من أداة علاجية كهذه يمكن أن تقوّم خللاً نفسياً مؤلماً؟ ولماذا تخاف من التعبير عن أحاسيسك المكبوتة؟ لا بأس أبداً بالصراخ وعمل الضوضاء والضحك ملء شدقيك والبكاء بأعلى صوتك! فما أجمل أن تشعر بأن عروقك تنبض بالحياة.

وتُعتبَر العاطفة عملية فيزيولوجية في الأساس، وقد رُزقنا العاطفة لسبب وجيه سيعود علينا قطعاً بالخير العميم؛ إذ تؤدي عواطفنا مهمة إعدادنا لمواجهة أحداث الحياة أو إصلاح نفوسنا من الداخل، ويشكّل تفريغ الشحنة الانفعالية جزءاً من عملية التحرُّر من العُقَد النفسية المكبوتة. وحينما نقمع التعبير عن المشاعر، فإننا بذلك نمنع الاستجابة الفيزيولوجية لنفوسنا ونسهم في استمرار التوتر.

هل يجب علينا إذاً أن نظل في حالة حزن دائم على أي محنة تصيبنا، ونصرخ بأعلى صوتنا كلما تعرَّضنا لشيء يثير فينا الخوف، ونُظهر غضبنا بكل ما أوتينا من قوة؟ لا، كل ما هنالك أنه يتعين علينا أن نعبّر عن مشاعرنا “الطبيعية” فقط. لكن 80% من ردود أفعالنا العاطفية هي مجرد مشاعر طفيلية؛ مجرد عواطف غير ناضجة وجروح لم تلتئم منذ الطفولة ومشاعر سطحية تختفي تحتها مشاعرنا الحقيقية.

وترجع معاناة الكثيرين منا إلى أسباب ترتبط في المقام الأول بطريقتنا في التعامل مع عواطفنا لأن المجتمع يطالبنا بقمعها منذ الصغر؛ وبالتالي ظلت مكبوتة فينا لفترة طويلة جداً من الزمن لدرجة أننا نخشى أن تدمر كل شيء في طريقها إذا سمحنا لها بالظهور، وما تلك إلا خيالات طفل صغير.

ولا أعني بكلامي هذا أن نعبّر عن أي شيء بأي طريقة تروق لنا؛ بل أقصد تفريغ الشحنة الانفعالية بطريقة تحررنا من العُقَد النفسية المكبوتة دون إلحاق الأذى بمشاعر الآخرين.

وهناك طرائق متعددة للعلاج النفسي في الوقت الحالي، وللجميع مطلق الحرية ليعبروا عن مشاعرهم بالطريقة التي تناسبهم. ومن ناحيتي، فإنني أحب تفريغ الشحنة الانفعالية لأنه أسلوب عفوي ويتسم بالبساطة والجمال، وأستخدمه مصحوباً بتقنيات وأدوات أخرى.

الرأي المعارض: فرانسوا ليلورد (François Lelord)

طبيب نفسي متخصص في استشارات الموارد البشرية، ومؤلف كتابيّ “الحرية للحمقى” Liberté pour les insensés) و”حكايات طبيب نفسي عادي” (Les contes d’un psychiatre ordinaire).

“قد تشعر بالعذاب بسبب المعاناة من مشاعر مكبوتة لا تستطيع التنفيس عنها. ربما كنت تتمنى لو حضرتَ علاجاً جماعياً الذي ينفّس المشاركون فيه عن غضبهم المكبوت بالصراخ وضرب الوسائد، أو ينفجرون في البكاء وهم يتذكرون آلام الماضي، و”يفرّغون” شحناتهم الانفعالية المؤلمة. ولطالما كان يُنظَر في علم النفس إلى العواطف باعتبارها تياراً هادراً يجب على المرء أن يعرف كيفية التنفيس عنه بطريقة انفجارية؛

لكن الدراسات الحديثة أثبتت أن هذا “التنفيس العاطفي” ليس مفيداً كما يُعتقَد. فعندما يُطلب من الإنسان أن يعبّر عن غضبه بصوت عالٍ عن طريق الصراخ والضرب، فإن شعوره بالغضب سيزداد حدة بعد الإقدام على هذا السلوك وسيكون أكثر تهيجاً؛ بل قد يُصاب بارتفاع ضغط الدم. وإذا طالبناه بالبكاء في أثناء الحديث عن حدث محزن فإن هذا سيحقق نتيجة مماثلة؛ أي أنه سيجعله أكثر حزناً وانزعاجاً من أولئك الذين طُلب منهم ببساطة إعادة سرد الحدث دون مطالبتهم بالبكاء.

وتُغفِل نظرية “تفريغ الشحنة الانفعالية” أن عواطفنا لها وظيفة حيوية تفيد في التواصل مع الآخرين، لأن التعبير عن المشاعر بطريقة مناسبة يساعدنا على حل النزاعات وتحسين علاقاتنا مع الآخرين.

وبدلاً من أن تحاول التنفيس عن مشاعرك المكبوتة بضرب وسادة، درّب نفسك على التعبير عن غضبك كلما شعرتَ بالانزعاج، وذلك بتوجيهه ضد الشخص الذي يسبّب الغضب. ولكن احرص على التروّي حتى لا يتسبّب غضبك في إهانة الآخرين أو توجيه أصابع الاتهام إليهم بطريقة غير لائقة، حتى تترك مجالاً لحل النزاع لاحقاً، ومن ثم تتجنّب استثارة المزيد من الغضب.

وبالمثل، فإن البكاء وحدك حتى تتورّم عيناك لن يسفر على الأرجح سوى عن إصابتك بمزيد من الإحباط. حاول بدلاً من ذلك التعبير عن حزنك في حضور شخص سليم الطوية قادر على التعبير عن تعاطفه. وتؤدي الدموع وظيفة مهمة تتمثّل في طلب المساعدة، ويمكنها أن تهدئ من روعنا بالمواساة. أمّا التنفيس عن مشاعرنا المكبوتة بمعزل عن الآخرين أو أمام أشخاص غير مبالين فلن يفيدك في شيء.

خلاصة القول: تختلف معرفة كيفية التعبير عن مشاعرنا كلياً وجزئياً عن “تصريفها” بعد الشعور بالغضب؛ ولكن يُقصَد بها التعبير عنها عند ظهورها، مع مراعاة طبيعة الموقف ذاته والأشخاص الذين نتفاعل معهم. ولا يُنصَح هنا بكبت المشاعر ولا التعبير عنها بطريقة انفجارية؛ بل لا بد من إيصالها بطريقة تساعدنا على الدفاع عن مواقفنا بشكل أفضل”.

المحتوى محمي !!