يعاني الكثير من الأشخاص من معضلة التفكير الزائد، وهو ليس مرضاً أو اضطراباً نفسياً في حدّ ذاته؛ ولكنه قد يرتبط بظروف نفسية وعقلية أخرى مثل الاكتئاب والقلق واضطرابات الأكل واضطرابات تعاطي المخدرات أيضاً.
فإذا كنت تعتقد أنك من بين القلة الذين يعانون؛ يجب أن تتأكد أنها مشكلة جدّ شائعة، ولا يعني ذلك أنها غير معقدة ومعالجتها سهلة، فأسباب الإفراط في التفكير ليست مفهومة تماماً؛ ولكن يُعتقد أنها قد تكون مرتبطة أكثر بالقلق أو الاكتئاب.
هناك العديد من الطرق المساعِدة للحد من هذه العادة السيئة؛ بما في ذلك العلاج السلوكي المعرفي وكتابة الأفكار، غير أن مقال اليوم يقدم ثلاث استراتيجيات فقط تعتمدها شخصياً معالِجة نفسية لإيقاف تفكيرها المفرط.
ما التفكير الزائد؟ وما الذي يسببه؟
يشير التفكير الزائد (Overthinking) إلى الميل المفرط لرصد وتقييم جميع أفكارك ومحاولة التحكم فيها بشتّى أنواعها، وفقاً للأستاذ في قسم علم النفس بجامعة نيو برونزويك (New Brunswick) بكندا وعالم النفس الإكلينيكي ديفيد كلارك (David A. Clark) الذي يرى بعد خبرة دامت أكثر من 30 عاماً في العلاج السلوكي المعرفي أن معظم الأشخاص مفرطي التفكير ليس لديهم إدراك واضح لأنماطهم الفكرية ويحاولون دائماً إعطاء معانٍ وأسباب لأفكارهم.
وبينما تكون ممارسة عدم التجاهل والانشغال بالأفكار التي تراودنا عادة مطلوبة ومفيدة إذا تعلّق الأمر بقرارت حاسمة يجب اتخاذها وتحليل وضع معين؛ لا يكون الإفراط في التفكير الحل الأنسب حينما نبالغ في تحليل الأفكار السلبية والهواجس في محاولة جاهدة للسيطرة عليها؛ إذ تسقطنا هذه العادة في دوامة اجترار الأفكار، ، فتؤدي بنا إلى القلق والاكتئاب والإحباط والشعور بالذنب.
ويمكن أن يضعنا التفكير الزائد في حلقات مفرغة لا حلّ لها، فنجد أنفسنا محاصرين بين اجترار الماضي والحاضر، والقلق بشأن المستقبل.
ويعتبر خبراء الصحة من معهد "بيركلي" للرفاه (Berkeley Well-being Institute) أن جذور التفكير الزائد تعود لكونه "آلية حماية ذاتية تلقائية" (Automatic self-protection mechanism)؛ إذ يمكن أن يمنح الإفراط في التفكير في مواضيع مثل الشؤون المالية والصحة والعمل والعلاقات، إحساساً بالتحكم بالرغم من أن تلك الأفكار غالباً ما تكون تلقائية واعتيادية لدى الشخص؛ أي أنه لا يقرّر بإرادته أنه سوف يمضي ساعتين متتاليتين مثلاً في اجترار أحداث الماضي أو التخيل والخوف من ما يمكن أن يحدث مستقبلاَ؛ بل يفعل ذلك مباشرة ودون نية مسبقة لأن هذا ما تعوّد عقله القيام به في الماضي!
العلامات التي تشير إلى أنك تعاني من التفكير الزائد
بالنسبة إلى أي شخص يعاني من التفكير الزائد؛ لا يكون التفكير في أسوأ ما يمكن أن يحصل له أو للمقربين ما يشغل باله فقط، فتجده يقلق ويجزع أيضاً إزاء تصوراته تلك، فيدخل في دوامة من الضيق ومشاعر الهلع التي تجعله في احتياجٍ دائمٍ إلى الحصول على دعم الآخرين حتى يطمئن.
يخلق ذلك المزيد من التوتر بسبب التركيز المفرط على السلبية، وعلى الماضي والقلق بشأن المستقبل، حسب ما توضّحه المعالجة النفسية الكندية نتاشا ديوك (Natacha Duke)؛ إذ تقول: "ما يحدث هو تأثير متسلسل".
وتضيف: "ستبدأ في القلق بشأن شيء واحد، وبعد ذلك ستكون قلقاً بشأن شيء مختلف تماماً. قد تبدأ في القلق بشأن العمل وبعد ذلك ستبدأ في القلق بشأن المال، وهذا يؤدي إلى القلق بشأن فقدان وظيفتك".
اختبر نفسك إن كنت تعاني من التفكير الزائد
أما أستاذ علم النفس ديفيد كلارك، فقد طوّر اختباراً نشره عام 2018 بعنوان: "كتاب الأفكار القلقة" (The Anxious Thoughts Workbook)، يمكن من خلال الإجابة عن الأسئلة التالية لتحديد ما إذا كان التفكير الزائد يمثّل بالفعل مشكلة حقيقية أو لا:
- هل تدرك بسهولة ما تفكر فيه في أي لحظة؟
- هل تتساءل كثيراً عن سبب وجود أفكار معينة لديك؟
- هل تبحث غالباً عن المعنى الأعمق أو الأهمية الشخصية لأفكارك؟
- عندما تشعر بالضيق، هل تركز غالباً على ما تفكر فيه؟
- هل لديك حاجة قوية لمعرفة أو فهم كيف يعمل عقلك؟
- هل تشعر أنه من المهم أن تكون لديك سيطرة صارمة على أفكارك؟
- هل لديك تسامح أقلّ مع الأفكار العفوية غير المرغوب فيها؟
- هل غالباً ما تكون في صراع للسيطرة على أفكارك؟
تشير إجابتك بنعم عن أغلب هذه الأسئلة إلى أنك تميل إلى التفكير الزائد الذي يدفع بك إلى التردد والمماطلة إذا ما كانت أغلب المواضيع التي تنشغل بها تتمحور حول قضايا مهمة في حياتك مثل العلاقات والوظيفة والصحة وهويتك الذاتية، لأنها قضايا تحتاج نوعاً من التفكير المدروس وليس التفكير التلقائي أو العشوائي.
اقرأ أيضاً: الإيجابية السامة: لابأس إن لم يكن هناك نور في نهاية النفق
3 ممارسات تستخدمها معالِجة نفسية للحد من تفكيرها الزائد
يمكن للإفراط بالتفكير أن يقلل من جودة العيش ويضعف طاقتك ويحد من ملكاتك الإبداعية، بالإضافة إلى التسبب في اضطرابات النوم، هذا ما تؤكده المعالجة النفسية الأميركية جيني مينبا (Jenny Maenpaa) التي عانت شخصياً من التفكير الزائد أثناء ممارستها للعلاج النفسي؛ ما قادها إلى اعتماد ثلاث استراتيجيات تستخدمها يوميّاً للتوقف عن التفكير الزائد، نلخصها كما يلي:
1. إعادة صياغة إيجابية
تشير إعادة الصياغة الإيجابية إلى الاعتراف أولاً بوجود جوانب سلبية، ومن ثمّ وضع تقييم لإيجاد طريقة أخرى للتفكير في الموقف، فقد تكتشف أنك مستفيد من الوضع أو هناك ما يمكن القيام به لتغيير الموقف لصالحك، وتختلف هذه الاستراتيجية وفقاً لجيني مينبا عما ينصح به في الإيجابية السامة؛ أي التفكير بشكل إيجابي بغض النظر عن مدى صعوبة الموقف.
2. كتابة الأفكار مرّة واحدة في اليوم
تنصح جيني بتدوين مشاعرك وأفكارك في مسودة منفصلة مرة واحدة في اليوم والعودة لمراجعتها بعد مرور 24 ساعة على الأقل؛ إذ يمنحك ذلك فرصة للتحكم في أي ردود فعل انفعالية إزاء المواقف التي من الممكن أن تغرقك في التفكير وتصيبك بالقلق الشديد حول ما حدث أو يمكن أن يحدث، كما يزيل وضع أفكارك على الورق الشحنة السلبية التي تتسم بها.
3. ممارسة "الامتنان المحدد"
يزيد التعبير عن الامتنان من سعادتك ويساعدك على تأطير تجاربك المحبِطة ضمن سياقاتها الصحيحة؛ ولكن عوضاً من التعبير عن امتنانك لوجود شخص أو حيوان أو ظرفٍ معين في حياتك؛ يمكنك ممارسة الامتنان بتحديد أمر مختلف كل يوم، لذلك أسمته جيني بـ "الامتنان المحدد"، لأنه يجنبك الوقوع في فخ تكرار الامتنان كأنه عمل روتيني لا معنى له بدلاً من ممارسة اليقظة خلاله.
التفكير الزائد والهوس بالقلق حيال الأمور يمنعك من الاستمتاع باللحظة الحاضرة، فدع الماضي للماضي، وعش الآن لأن ذلك ما يحدد طبيعة الغد القادم. بإمكانك وضع حدٍ اليوم وكسر نمطك السلبي من خلال استخدام 3 تمارين سهلة وغير مُجهدة لعقلك كما هو الحال عند المبالغة في تحليل واجترار الأفكار.