توصلت دراسة حديثة ستُنشر في العدد القادم في مجلة الاضطرابات العاطفية (Journal of Affective Disorders) في 1 ديسمبر/كانون الأول عام 2024، إلى أن أذهان المصابون باضطراب الاكتئاب الشديد تشرُد أكثر من أذهان الأصحاء بمقدار الضعف تقريباً، كما تختلف الأفكار التي يشردون فيها مقارنة بغير المكتئبين. فما أهمية النتائج التي توصلت إليها الدراسة؟ وكيف يمكن التعامل مع الشرود الذهني؟ إليك التفاصيل.
محتويات المقال
اقرأ أيضاً: كيف تهزم القلق والاكتئاب عندما يأتيان معاً؟
إلى أين تسرح عقول المكتئبين حينما يشردون؟
أظهرت نتائج الدراسة أن المصابين باضطراب الاكتئاب الشديد يعانون شروداً ذهنياً بمعدل أكبر بمرتين من معدل الشرود عند الأشخاص الأصحاء، وقد كان شرود المكتئبين ذا طابع سلبي في 42% من الحالات؛ أي يتميز بأفكار سلبية أو متشائمة أو منتقِدة للذات، في حين شرد المشاركون الأصحاء في أفكار إيجابية ومحايدة، ولم تتجاوز حالات الشرود ذات المنحى السلبي أكثر من 10%.
بكلمات أخرى، يميل الأفراد المكتئبون للشرود في أفكار سلبية مثل الندم أو المخاوف، ما يسبب انخفاض الحالة المزاجية على نحو مستمر والشعور باليأس. ومن المثير للاهتمام أن الدراسة لم تجد فرقاً كبيراً بين المجموعتين في الطابع الزمني للشرود، أيّ إن كان يركّز على أحداث الماضي أو الحاضر أو المستقبل، فلم يُظهِر المكتئبون ميلاً قوياً للتفكير في الأحداث الماضية أو المستقبلية، وهو ما يتناقض مع الأبحاث السابقة التي تربط الاكتئاب بالتركيز على الماضي.
علاوة على ذلك، تبين أن الحالة المزاجية للمكتئبين تؤثّر في شرود الذهن؛ إذ تفاقم الحالة المزاجية السلبية حالات الشرود، وهذا يعني أنه كلما شعر هؤلاء بالحزن أو القلق أو الإحباط كانت أفكارهم أكثر عرضة للتشتت بعيداً عن العمل الحالي التي ينفّذوه، في حين لم يلاحظ هذا الارتباط بين الحالة المزاجية وشرود الذهن عند الأشخاص الأصحاء.
اقرأ أيضاً: لماذا لا يستطيع مريض الاكتئاب الاستمتاع بحياته؟ دراسة حديثة تجيب
كيف توصل الباحثون إلى هذه النتائج؟
شملت هذه الدراسة 106 مشاركاً، 53 منهم شخصاً مشخصاً باضطراب الاكتئاب الشديد و53 شخصاً سليماً. وقد طُلب من كل مشارك أن يجيب 8 استبيانات يومياً، بحيث يحدّد الباحثون مواعيدها على فترات عشوائية، وذلك على مدار أسبوع واحد فقط.
وتعيّن على المشارك في كل مرة يجيب أسئلة الاستبيان أن يحدد إن كان ذهنه شارداً أم لا (يفكر في شيء لا علاقة له بما كان يفعله)، وما نوع الأفكار التي كانت تجول في باله (إيجابية، سلبية، أو محايدة) في حال كان شارداً، بالإضافة إلى تحديد حالته المزاجية. أي تمكّن الباحثون عبر جمع هذه المعلومات في الوقت الحقيقي على مدار اليوم تتبّع مدى تكرار شرود الذهن، والطابع العاطفي للشرود، وكيف أثّر مزاج المشاركين في شرودهم.
اقرأ أيضاً: هل يمكن أن يكون الاكتئاب وراثياً؟ دراسة حديثة تجيب
لماذا من المهم أن نفهم طبيعة العقول الشاردة عند المكتئبين؟
بما أن المكتئبين ينخرطون في شرود ذهني سلبي أو غير مفيد، وبما أنهم يدركون أفكارهم الشاردة تماماً مثل غير المصابين بالاكتئاب، لذا فإن العلاجات يمكن أن تساعدهم ليس فقط على إدراك وقت ظهور الأفكار السلبية؛ بل على تحليل محتوى هذه الأفكار وتغييرها أيضاً.
وهذا يعني أنه يمكن تعزيز الأساليب العلاجية، مثل العلاج المعرفي السلوكي (CBT)، من أجل مساعدة المرضى في التركيز على فهم المحتوى السلبي لأفكارهم الشاردة وتغييرها، وليس مجرد الاعتراف بوجودها، ما يؤدي في المحصلة إلى تحسين فعالية العلاج.
اقرأ أيضاً: ما العلاقة بين الاكتئاب واضطرابات الطعام؟ دراسة جديدة تجيب
9 نصائح لتقليل الشرود الذهني غير المفيد
الشرود الذهني هو تشتت الانتباه بعيداً عما تفعله حالياً وانتقاله نحو ذكرياتك أو تخيلاتك أو أفكارك المجردة، وذلك بصورة طبيعية ودون أن تدرك ذلك، وكثيراً ما يحدث في أثناء المهام المتكررة أو السهلة التي لا تتطلب الكثير من التركيز. وبالطبع، هو حالة شائعة؛ فالناس يقضون نحو 30-50% من ساعات يقظتهم شاردي الأذهان.
وعلى الرغم من أنه قد يعزز الإبداع وحل المشكلات من خلال السماح لذهنك باستكشاف الأفكار بحرية دون قيود واعية، فإن شرود الذهن المتكرر أو المفرط يؤثِّر سلباً في الصحة النفسية؛ إذ يتحول إلى حلقات مفرغة من التفكير السلبي (اجترار الأفكار) أو يرتبط بضعف التنظيم العاطفي، علاوة على أن الشرود المتكرر في أثناء المهام التي تتطلب التركيز قد يؤدي إلى انخفاض الأداء. فكيف يمكنك كبح لجام عقلك؟ إليك بعض النصائح:
- تدرّب على اليقظة الذهنية: تعلُّمك اليقظة الذهني التركيز على الحاضر، والتعرف إلى الوقت الذي يبدأ فيه عقلك بالشرود، وإعادة توجيهه بلطف إلى اللحظة الحالية. بالنسبة لاضطراب الاكتئاب الشديد، يمكن أن يساعد هذا على التخفيف من شرود الذهن السلبي الذي لوحظ في هذه الدراسة.
- تعرَّف إلى المحفّزات: وهذا يعني الانتباه إلى المشتتات والأفكار المسبِّبة للشرود دون إصدار أحكام (سواء كانت تخص العمل أو الحياة الشخصية أو الخطط المستقبلية)، ثم إعادة توجيه انتباهك بلطف إلى المهمة التي بين يديك. تساعدك هذه الممارسة على تقليل الاستجابة العاطفية للمشتتات وتعزيز الوعي بأنماط تفكيرك.
اقرأ أيضاً: دراسة حديثة: يمكن تشخيص الاكتئاب عن طريق العينين، فكيف يحدث ذلك؟
- دوّن يومياتك: يمكن للكتابة عن أفكارك أو مشاعرك أو مهامك اليومية أن تساعد على إزالة الفوضى من عقلك. أي ومن خلال نقل المخاوف أو قوائم المهام إلى الورق، يمكنك تحرير مساحة ذهنية وتقليل القلق وتعزيز قدرتك على التركيز في الحاضر.
- مارِس الرياضة: قد يساعدك المشي السريع أو تمارين التمدد أو غيرها من التمارين الرياضية على كسر دائرة التشتت وإنعاش عقلك وجسدك.
- تنفَّس: يمكن الزفير والشهيق متساويا العدد أو المدة (على سبيل المثال، 4 ثوانٍ لكل منهما) أن يهدِّئا الجهاز العصبي ويقلِّلا القلق والتوتر، إذ ووفقاً لاستشاري الطب النفسي أسامه النعيمي، فإن القلق والتوتر هما من أهم الأسباب التي تضعِف التركيز وتشتِّت الانتباه.
- انتقِل من المكان المحيط بك: في بعض الأحيان، قد يؤدي تغيير المشهد إلى تجديد نشاط ذهنك. لذا، انتقل إلى غرفة مختلفة أو اخرج أو أعد ترتيب مساحة عملك، فربما تساعدك البيئة الجديدة على تقليل عوامل التشتت وتحفيز قدرتك على الإبداع.
- اقضِ بعض الوقت في الطبيعة: للطبيعة تأثير مهدِّئ في الذهن، لذا فإن قضاء الوقت في الهواء الطلق، سواء في حديقة أو متنزه أو مكان طبيعي، يشجع على اليقظة ويقلل التوتر. يمكنك دمج ممارسة اليقظة مع هذا النشاط أيضاً، وذلك من خلال ملاحظة الألوان والأصوات والروائح المحيطة بك.
- نم جيداً: الحصول على قدر كافٍ من النوم بالغ الأهمية للوظائف الإدراكية والتركيز، فقلة النوم تضعف القدرة على التركيز وتزيد التشتت.
- خصِّص وقتاً محدداً يومياً للشرود الذهني: فذلك قد يرضي ميل عقلك الطبيعي للتجوال بحرية دون أن يقاطع أداء مهامك، وهو ما قد يعزز في المحصلة قدرتك على الإبداع والانتباه في أثناء المهام التي تتطلب التركيز.
من خلال دمج هذه الاستراتيجيات في روتينك اليومي، يمكنك إدارة الشرود الذهني بصورة فعالة، ما يؤدي إلى تحسين التركيز والرفاهية. وبالنسبة للمكتئبين، يمكن للعلاج السلوكي المعرفي، مثلما ذكرنا، أن يساعدهم على التعرف إلى هذه الأفكار العفوية وإعادة هيكلتها؛ أي يمكن للمعالجين توجيه الأفراد لتحدي نوبات تشتت الذهن السلبية وإعادة صياغتها، ما قد يقلل تكرارها ويحد من تأثيرها العاطفي.