ملخص: شاهدت في أحد الأيام البعيدة فيلم "الساعات" (The Hours) الذي يدور حول 3 نساء جمعتهن قسوة الحياة. ومن بين بطلات العمل، كانت الكاتبة الروائية الشهيرة فرجينيا وولف، والحقيقة أنني كنت أتساءل دائماً عن قدرة الأدباء على كتابة الأعمال الإبداعية: كيف يمكنهم القيام بذلك؟ وهل الإبداع موهبة فطرية أم يمكن تعلمه؟ وحاولت في هذا المقال الوصول إلى الإجابة.
محتويات المقال
عندما نفكر في الإبداع، قد تتبادر إلى أذهاننا فكرة النظر إليه على أنه قوة سحرية أو شرارة من النور، وربما هدية تمتلكها قلة محظوظة من كبار الفنانين والموسيقيين، ولا يمكن لبقيتنا أن يحظوا به؛ لهذا يتساءل الكثيرون: ما الذي يجعل الشخص مبدعاً؟ هل هي الجينات أم التربية أم إنها مزيج من الاثنين؟ وهل الإبداع فطري في إنسانيتنا، أم أنه موهبة محفوظة للقلة المحظوظة، أم إنه مهارة عملية يمكن للجميع تعلّمها وممارستها؟ الإجابة في هذا المقال.
ما الإبداع؟
تعّرف الجمعية الأميركية لعلم النفس (American Psychological Association APA) الإبداع بأنه القدرة على إنتاج أفكار أصيلة وتطويرها، ويشير التفكير الإبداعي إلى العمليات العقلية التي تهدف إلى حل المشكلات المعقدة أو إيجاد طرائق مثيرة للتعامل مع المهام، وإذا كنت مبدعاً فإنك تنظر إلى الأشياء من منظور فريد ومختلف.
وتشمل منتجات التفكير الإبداعي الاختراعات الجديدة والأفكار الاجتماعية والنظريات العلمية والأعمال الفنية، ويوضح المتخصص في علم النفس الإداري محمد العامري إن الإبداع يرتكز على التفكير خارج الصندوق وإيجاد أفكار بعيدة عن المألوف.
وفي سياق متصل، يوضح أستاذ علم النفس ميهالي كسيكسزنتميهالي (Mihaly Csikszentmihalyi) في كتابه "تدفق الإبداع: الاكتشاف والاختراع من منظور علم النفس" (Creativity: Flow and the Psychology of Discovery and Invention) إن الأشخاص المبدعين يملكون مجموعة متنوعة من السمات مثل:
- الطاقة: يملتك المبدعون قدراً كبيراً من الطاقة الجسدية والعقلية، ومع ذلك فإنهم يميلون إلى قضاء الكثير من الوقت في التفكير والتأمل بهدوء.
- الذكاء: يعتقد علماء النفس إن الذكاء يلعب دوراً حاسماً في الإبداع منذ مدة طويلة، وعلى الرغم من أن معدل الذكاء المرتفع ضروري للعملية الإبداعية فليس الأشخاص ذوو معدل الذكاء المرتفع كلهم مبدعين.
- الانضباط: الأشخاص المبدعون لا يجلسون في انتظار الإلهام؛ لكنهم منضبطون في متابعة عملهم وشغفهم.
- الانفتاح: ويُعد من أهم السمات المرتبطة بالإبداع؛ حيث إن الأشخاص الذين يتمتعون بدرجة عالية من الإبداع يكونون أكثر انفتاحاً على التجارب والأفكار الجديدة، فهم يميلون إلى البحث عن التجديد والاستمتاع بتجربة أشياء غير مسبوقة ومقابلة أشخاص بخلفيات متنوعة والنظر إلى الأمور على نحو مختلف.
تعرَّف إلى المراحل الأربع للعملية الإبداعية
يؤكد رئيس المركز الدولي لدراسات الإبداع في جامعة بوفالو ستيت بنيويورك (Buffalo State University)، جيرارد بوتشيو (Gerard Puccio) إن الإبداع يتكون من 4 مراحل؛ وهي: التوضيح، والتفكير، والتطوير، والتنفيذ.
التوضيح هو التأكد من أنك تطرح السؤال الصحيح؛ أما التفكير فيدور حول استكشاف أكبر عدد ممكن من الحلول؛ بينما التطوير والتنفيذ هما التأكد من أن الفكرة عملية ومقنعة للآخرين، ويشرح بوتشيو إن التفكير هو المرحلة الأكثر وضوحاً لأنها تتضمن إخراج الأفكار الجديدة.
اقرأ أيضاً: كيف يمكن لأي شخص أن يصبح مبدعاً؟
هل يمكن للعلم أن يخبرنا بما يحدث في دماغ المبدعين؟
لقد طرح العلماء منذ زمن طويل سؤالاً بسيطاً لا توجد له إجابة بسيطة: أين يوجد الإبداع في الدماغ؟ في الماضي، كان هناك افتراض مفاده أن الجانب الأيسر من الدماغ مسؤول عن التفكير المنطقي، والجانب الأيمن يقوم بالإبداع والإبتكار؛ لكن بفضل التقدم في تكنولوجيا تصوير الدماغ؛ مثل التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) وتكنولوجيا تخطيط كهربية الدماغ (EEG)، يرى العلماء أن الأمر أكثر تعقيداً؛ حيث وجدوا من خلال رسم خرائط لنشاط الدماغ لدى الأشخاص الذين يؤدون مجموعة من المهام الإبداعية أو الفنية المختلفة؛ مثل الكتابة والرسم والعزف على آلة موسيقية، أن الإبداع لا يتركز في منطقة واحدة من الدماغ؛ بل يبدو أنه نتيجة التزامن بين 3 شبكات دماغية لا تعمل معاً عادةً.
ويشرح أستاذ علم النفس الإدراكي بجامعة هارفارد، روجر بيتي (Roger Beaty)، إن تلك الشبكات الدماغية هي:
- الشبكة الافتراضية: هي نمط نشاط الدماغ الذي يحدث عندما لا يركز الناس على العالم الخارجي؛ إذ إنها الشبكة التي تصبح نشطة عندما يتحول العقل إلى الداخل؛ حيث يحلم الناس ويرتاحون ويتأملون الماضي أو يتخيلون المستقبل، ويمكن لشبكة الوضع الافتراضي أن تثير الروابط بين الأفكار المختلفة؛ ما يعزز التفكير الإبداعي.
- شبكة التحكم التنفيذية: عبارة عن مجموعة من المناطق في الدماغ التي تنشط عندما يحتاج الأشخاص إلى التركيز أو التحكم في عمليات تفكيرهم، وقد تلعب هذه الشبكة دوراً رئيساً في تقييم الأفكار وتحديد ما إذا كانت أفكار العصف الذهني مناسبة، وتعديلها لتناسب الهدف الإبداعي.
- الشبكة البارزة: هي نظام كبير داخل الدماغ يساعد على اكتشاف المعلومات المهمة وتصفيتها من البيئة، ثم تحديد كيفية الاستجابة إلى تلك المعلومات، وتلعب هذه الشبكة دوراً رئيساً في التناوب بين توليد الأفكار وتقييمها.
وعادة لا يحدث نشاط الدماغ كثيراً بين هذه الشبكات؛ لكن في الأدمغة العالية الإبداع تكون التفاعلات قوية؛ حيث تساعد شبكة الوضع الافتراضي على توليد الأفكار، وتختص شبكة التحكم التنفيذية بتقييمها ودفعها إلى الأمام، وتحدد الشبكة البارزة الأفكار المهمة.
هل الإبداع فطري أم يمكن تعلمه؟
كثيراً ما تُثار التساؤلات حول ما إذا كان الإبداع موروثاً بالفطرة أو مكتسباً ويمكن تعلمه، والحقيقة أن الإبداع يُعد موروثاً بالفطرة ولكنه أيضاً متاح للجميع؛ حيث إنه سمة إنسانية مشتركة أكثر من كونه هدية لبعض المحظوظين، فالأطفال كلهم مبدعون بطبيعتهم، وبخاصة بين سنَّي الثالثة والخامسة، وتتميز هذه المرحلة بالإبداع الذي يمكنهم الحفاظ عليه مدى الحياة في ظل بيئة معززة مناسبة، وهكذا يعتقد معظم الباحثين أن الإبداع فطري؛ لكن لسوء الحظ، يفقد الكثير من الناس هذه المهارة مع مرور السنين.
وتشرح المؤلفة وأستاذة ريادة الأعمال في جامعة ستانفورد (Stanford University)، تينا سيليغ (Tina Seelig) في كتابها "العبقرية: دورة تدريبية مكثفة حول الإبداع" (inGenius: A Crash Course on Creativity by Seelig)، إن الكثير من الناس يعتقدون أن القدرات الإبداعية ثابتة مثل لون العينين ولا يمكن تغييرها، ويعتقدون أنهم إذا لم يكونوا مبدعين في الوقت الحالي فلا توجد طريقة لزيادة قدراتهم الإبداعية؛ لكن سيليغ تؤكد إن الإبداع يمكن تعلمه إذا توفرت الظروف والعوامل البيئية الملائمة، ومن خلال تحسين المتغيرات، يمكن أن يزداد إبداعك على نحو طبيعي؛ لهذا فإن الإبداع ليس شيئاً سحرياً إنما مهارة تُمكن تنميتها.
اقرأ أيضاً: كيف يساهم الطبخ في تحسين إبداعك؟
ما الذي يجعل بعض الأشخاص مبدعين أكثر من غيرهم؟
أجرى الباحث في أكاديمية الأعمال العالمية (the World Business Academy)، جورج لاند (George Land)، دراسة بحثية خلال عام 1968 بهدف اختبار القدرات الإبداعية لدى الأطفال، وكان هذا اختبار الإبداع نفسه الذي ابتكره لوكالة ناسا للمساعدة على اختيار المهندسين والعلماء المبتكرين. وبسبب نجاحه على نحو كبير؛ قرر تجربته على الأطفال وأعاد اختبار الأطفال نفسهم في عمر 10 سنوات، ومرة أخرى في عمر 15 عاماً وكانت النتائج مذهلة:
- نتائج الاختبار بين الأطفال في سن 5 سنوات: 98%.
- نتائج الاختبار بين الأطفال في سن 10 سنوات: 30%.
- نتائج الاختبار بين الأطفال في سن 15 عاماً: 12%.
ما توصل إليه لاند في نهاية الدراسة هو أن الأطفال يولدون مبدعين لكنهم يفقدون قدراتهم الإبداعية في أثناء انتقالهم خلال الحياة إلى مرحلة البلوغ، وعادة ما يحدث هذا التآكل الإبداعي بسبب تجارب الحياة، أو التعليم، أو الخوف من الفشل، أو كل ما سبق؛ لكن الخبر السار هو أن الإبداع يمكن تشكيله وإعادة تعلمه، أما الخبر السيئ فهو أن السلوك غير الإبداعي يمكن تعلمه أيضاً.
وما يجعل بعض الأشخاص مبدعين أكثر من غيرهم هي البيئة المحفزة على الإبداع، وقدرة هؤلاء الأشخاص على التعلم من خلال التجربة والاستكشاف والتشكيك في الافتراضات واستخدام الخيال وتوليف المعلومات.
6 معوقات للعملية الإبداعية
إن الثورة الصناعية الرابعة التي حفزتها التكنولوجيا الرقمية، تضع الإبداع في مقدمة عوامل النجاح في المستقبل، وذلك بعد القدرة على حل المشكلات المعقدة والتفكير النقدي؛ حيث يأتي الإبداع في المرتبة الثالثة من حيث الأهمية، والحقيقة أن هناك الكثير من المعوقات التي يمكن أن تقف حاجزاً بيننا وبين الإبداع وهي:
- عدم وجود أهداف محددة: إذا كانت لديك أهداف محددة فستكون قادراً على أن تكون أكثر إبداعاً. إذا لم تكن لديك أي فكرة عن شكل مستقبلك، فقد يكون من الصعب عليك التفكير على نحو إبداعي.
- الحديث السلبي عن النفس: الذي يؤدي إلى الخوف من الفشل والمماطلة. ولذلك؛ عندما تشك في نفسك، فإن إبداعك يتعرض إلى الخطر، وحتى تتغلب على هذا الحاجز، استبدل بحديثك السلبي مع النفس حديثاً إيجابياً، وذلك من خلال مراجعة الأشياء التي أنجزتها حتى تتمكن من إعادة تجربة النجاحات السابقة في عقلك.
- الرغبة في الكمال: عادةً لا تكون المسودة الأولى لأي عمل هي الأفضل، سواء كنت تكتب رواية، أو ترسم صورة، أو تطور استراتيجية عمل. ولهذا؛ فإن الحاجة إلى الكمال تمنع التدفق الإبداعي لأن الشخص يرغب في أن تكون الأمور مثالية من المرة الأولى، وهذا لا يحدث عادةً.
- قلة الممارسة: يتحسن الإبداع من خلال الممارسة؛ ولذلك لا تتوقع أن تكون مبدعاً إذا لم تستخدم عضلاتك الإبداعية على نحو منتظم ومستمر.
- التأثر بأفكار الآخرين: نحتاج إلى الكثير من التعديلات حول أعمالنا وأفكارنا؛ ولكن في الوقت نفسه، لا يجب علينا التأثر بأفكار الآخرين على نحو كبير من خلال السماح لهم بإرشادنا إلى الطريق الصحيحة. ولهذا؛ تذكر أن مشاعرك وأفكارك دائماً أكثر أهمية من مشاعر الآخرين وأفكارهم.
- الخوف من النقد: يجد الكثير من الناس صعوبة بالغة في التعامل مع النقد، حتى لو كان صحيحاً وبنّاءً، والطريقة الوحيدة للتغلب على ذلك هي الحصول على المزيد من النقد والتعامل معه بالطريقة الصحيحة والصحية؛ ولهذا تذكر أن تستمع وتستكشف ما يقولونه، وفي الوقت نفسه، ليست عليك الموافقة دائماً.
كيف يمكنك أن تكون مبدعاً؟
تتمحور الفكرة الرئيسة للإبداع حول إيجاد طرائق جديدة ومبتكرة لحل المشكلات والتعامل مع المواقف؛ ولهذا فهو ليس مهارة مقتصرة على الفنانين أو الموسيقيين أو الكتاب أو المفكرين؛ ولكنه مفيد للأشخاص في مناحي الحياة اليومية كافة، فإذا كنت ترغب في تعزيز قدراتك الإبداعية، يمكن أن تساعدك هذه النصائح:
- ألزم نفسك بالإبداع: الخطوة الأولى لزيادة الإبداع هي تكريس نفسك لتطوير قدراتك الإبداعية. لا تؤجل جهودك، حدد الأهداف، واطلب المساعدة من الآخرين، وخصص وقتاً كل يوم لتطوير مهاراتك. على سبيل المثال؛ إذا كنت مهتماً بالرسم، فخصص وقتاً لتعلم أساسيات الرسم بانتظام.
- حارب خوفك من الفشل: الخوف من ارتكاب خطأ أو الفشل في جهودك يمكن أن يعوق التقدم؛ ولذلك عندما تجد نفسك تحمل مثل هذه المشاعر، ذكّر نفسك بأن الأخطاء هي ببساطة جزء من العملية، وعلى الرغم من أنك قد تتعثر أحياناً في طريقك إلى الإبداع، فإنك ستصل في النهاية إلى أهدافك.
- تمتع بالثقة: الثقة في عملك يمكن أن تساعدك على تطوير الإبداع؛ أما إذا كنت خائفاً من تجربة أشياء جديدة أو اختبار فنك فمن الصعب أن تكون مبدعاً. والحقيقة أن هناك 4 أنواع من المخاوف يمكنها أن تمنع الناس من الإبداع؛ وهي الخوف من المجهول، والخوف من الحكم عليك، والخوف من الخطوة الأولى، والخوف من فقدان السيطرة، وهذه المخاوف جميعها تعوق الإبداع ويمكن التغلب عليها بالثقة.
- امنح نفسك استراحة ذهنية: يرى أستاذ علم النفس، روبرت إبستاين (Robert Epstein)، إن التوتر وضيق الوقت يمكن أن يحدا من قدراتك الإبداعية؛ ولهذا فمن الأفضل في الكثير من الأوقات أن تأخذ قسطاً من الراحة حتى تتدفق الأفكار الإبداعية مرة أخرى، وفيما يلي بعض الطرائق لمنح نفسك استراحة ذهنية:
- اذهب في نزهة على الأقدام.
- تناول طعاماً صحياً
- اقرأ كتاباً مفيداً ومحفزاً.
- خذ قيلولة سريعة.
- ركز في الأشياء اليومية العادية: انظر إلى الأشياء اليومية العادية للحصول على الإلهام؛ لأن هذا يمكن أن يدرب عقلك على التفكير على نحو إبداعي. على سبيل المثال؛ إذا رأيت تصميماً مثيراً للاهتمام لأرضيات متجر البقالة، فسجل ملاحظة حتى تتمكن من التوسع في أفكارك لاحقاً، وإذا كنت تريد رسم لوحة ورأيت الريح تهب عبر الأشجار، فلاحظ حركات الأوراق والفروع؛ الفكرة هي أن تكون على استعداد لاستقبال الإلهام عندما لا تتوقعه.
في النهاية، نحن جميعاً مبدعون بالفطرة، ومثل أي مهارة أخرى؛ يتمتع بعض الأشخاص بموهبة طبيعية أكثر من غيرهم. ومع ذلك، يمكن لأي شخص أن يزيد قدراته الإبداعية تماماً كما يمكن لأي شخص أن يزيد قدرته الموسيقية أو الرياضية. ومن خلال التدريب المناسب والممارسة المركزة، يمكننا جميعاً أن نتعلم الأدوات والتقنيات التي تعزز الإبداع، وأن نبني بيئات تحفز الابتكار.