وفقاً لكاتبة المقالات "بيليندا كانون" التي ألفت كتاب "الحماقة هي الخيار الأسهل" (La bêtise s’améliore)، فإن الأفكار الجاهزة تتسلل إلى كل مكان كالفنون والتلفاز وعباراتنا اليومية وحواراتنا. وهي تشير إلى السماح للأفكار الجاهزة بالتسلل إلى عقولنا بـ "الحماقة".
إذ تقول: "يعود الفضل في اكتسابي اهتماماً بالحماقة إلى أبي الذي حثني منذ الطفولة على التحقق بانتظام من قيمة أفكاري، وسؤال نفسي عما إذا كانت صحيحةً أو هل هي مجرد أفكار أكررها تلقائياً أو لاتباع الفكر السائد. عندما تمارس هذا التمرين ستدرك كم أن كمية الأفكار التي تتلقاها وهي لا أساس لها من الصحة كبيرة جداً". هكذا بررت "بيليندا كانون" ابتعادها عن طرح مواضيع شائعة مثل الصيام وتأمل النفس وتوجهها إلى طرح هذا الموضوع، فأبدعت مقالاً أصلياً كان بمثابة انعكاس للحماقة المعاصرة وفتح باب النقاش حولها.
سؤال مجلة "بسيكولوجي" (Psychologies): تستهدفين في مؤلَّفك نوعاً محدداً من الحماقة، ألا وهي حماقة الأذكياء، ما الذي تقصدينه بذلك؟
تجيب "بيليندا كانون": هي حماقة الأشخاص الذين تتوفر لهم كافة الإمكانيات لتنمية ذكائهم – أولئك الذين تتوفر لديهم إمكانية الحصول على المعلومات والاطلاع على الثقافات ولديهم متسع من الوقت للتفكير والقراءة، لكنهم أحياناً لا يفعلون أياً من ذلك. أما حماقة الأشخاص الذين لا تتاح لهم الوسائل اللازمة لينموا تفكيرهم فإنني أأسف عليهم لذلك لن أسمح لنفسي أبداً أن أسخر منهم.
لكن ما هي العوامل التي تسمح لك بالحكم على حماقة البعض وذكاء البعض الآخر؟
لنكن واضحين: أنا لا أحكم على أي شخص، فأنا لا أشير إلى الأفراد بل إلى السلوكيات. كان هدفي هو فهم آليات هذا النوع من الحماقة بالذات.
ما هي عوامل اكتساب هذا النوع من الحماقة؟
تنقسم إلى نوعين: عوامل ثابتة تتوافق في الأساس مع الصفات الإنسانية، وعوامل معاصرة يختص بها عصرنا الحالي. من بين العوامل الثابتة نذكر التبعية؛ وهي الرغبة الاجتماعية في السير على خطا الجماعة مهما كان الثمن، أو الكسل؛ أي تلقي الأفكار دون التفكّر بها. أما بالنسبة للعوامل التي تميز عصرنا، ما يتبادر إلى ذهني هو المشاعر الطيبة التي يمكن أن نطلق عليها التعاطف أو المشاركة الوجدانية أو "التمرد" [هو الميل إلى التمرد في سبيل أي قضية: ملاحظة من المحرر] على حسب القضية. بالتأكيد هذا أمر لا يجب انتقاده بحد ذاته، إلا أن المشاعر الطيبة غالباً تسبق التفكير المنطقي: فمثلاً نتبرع للمشردين أو لضحايا تسونامي لأنه فعل خير، ولا نفكر بأي أمر آخر؛ يتيح لك ذلك إراحة ضميرك وعدم الاضطرار إلى خوض معارك أخرى يومية وطويلة الأمد. تحولت المشاعر الطيبة إلى وباء في وقتنا الحالي.
ذكرتي أيضاً أن الصدق هو أحد أشكال الحماقة، لماذا؟
صحيح، هذا قد يصدم القراء ويدفعهم للتساؤل كيف أنتقد هذه الفضيلة؟ في الواقع، ليس الصدق بحد ذاته هو الحماقة وإنما الممارسة المضللة لهذه الفضيلة التي تُتبع أحياناً حالياً في الفنون والأدب وبرامج تلفاز الواقع أيضاً؛ يؤدي هذا إلى ظهور أعمال نرجسية بحتة والمغالاة في استعراض الذات. عملياً أعتقد أنه لا وجود لأفكار حمقاء بحد ذاتها وإنما الحماقة تتمثل في توظيف تلك الأفكار.
أنت تنددين أيضاً باستخدام بعض المصطلحات الجاهزة
نعم، مثل مصطلح "صحيح من وجهة النظر السياسية" أو "تخريبي"؛ تتردد هذه الكلمة كثيراً على مسامعنا، وهذا لا يقتصر على عالم الفن فقط: فكل ما عليك فعله هو الاكتفاء بنطق هذه المصطلحات العصرية فينتهي النقاش. هذه المصطلحات التي أدعوها المصطلحات الحمقاء؛ هي ليست أكثر من مجرد معوقات للتفكير، لكنني أعيد وأذكر أنني لا أتهم أحداً: جميعنا عرضة لتغلغل هذه الحماقة فينا أحياناً، إنه أمر لا مفر منه.
لماذا؟
لأن التشبث بالأفكار أو الصياغات الجاهزة دون التمهل للتفكير فيها أسهل علينا؛ تخيل لو كنا نفكر دائماً فيما نقوله في اللحظة التي نتحدث فيها، سنعجز عن التفكير في النهاية، لذا من الضروري أيضاً أن نعزز تفكيرنا المنطقي بأن نضيف إلى قاموسنا مفاهيم مسبقة أو تحولات لغوية عصرية في العبارات بين الفينة والأخرى. يكمن الخطر في أننا نبني تفكيراً منطقياً معقداً على الأكاذيب أو أننا لم نعد نسعى إلى توسيع تفكيرنا خارج إطار ما نتلقاه.
إذاً تثقيف المرء لا يكفي لتخفيض مستوى حماقته؟
طبعاً لا. يخطر في بالي أصدقاء لي هم من أكثر معارفي الذين يمتلكون ثقافةً محدودةً لكنهم حتماً أكثرهم ذكاءً، فما السبب؟ لأنهم قادرون دوماً على ممارسة العصف الذهني والإصغاء إلى الآخرين وتدبر أفكارهم. يمكنني القول أن الذكاء هو اليقظة: هو قدرة المرء على التنحي ومراقبة المحاكمة العقلية التي يجريها مع نفسه ويشكك في الأفكار التي تراوده حالياً.
كيف نطبق هذا التنحي؟
هذا يتطلب التحلي ببعض القلق الفكري أي يجب أن تكون قادراً على منع نفسك من السعي خلف تحقيق الراحة الفكرية؛ وهذا يعني على حد تعبير الفيلسوف "فلاديمير جانكلفتش": "ألا تعد أي شيء بديهياً في هذا العالم".
القدرة على التشكيك في كل شيء حولنا تتطلب ثقةً كبيرةً بالنفس.
هذا صحيح. لنذكر مثالاً على ذلك: سبب عدم فهمك لما يقوله الآخر لك يندرج تحت فرضيتين؛ الأولى أنك تفتقر إلى الوسائل الفكرية لتفهم قوله؛ فإذا شرح لي عالم فيزياء فلكية نظريةً ما لن أفقه شيئاً من شرحه لأنها ليست ضمن مجال معرفتي، لكن عندما تتعامل مع خطاب حول موضوع ما موجه إلى شريحة أعم يحق لك أن تسأل نفسك هل يضللك هذا المتحدث، وما زلت بحاجة إلى التحلي بثقة كافية بالنفس لتخاطب نفسك: "أنا لست أحمقاً لهذه الدرجة، ربما يكون الشخص الآخر هو المخطئ".
ذكرت أيضاً في كتابك أهمية أن يتواصل المرء مع نفسه.
يبدو لي أنه كلما زاد عدد الناس الغرباء عن ذاتهم والذين يجهلون ماهية أنفسهم وطريقة تفكيرهم، قل استعدادهم لمكافحة الحماقة لأنهم سيميلون إلى تمضية حياتهم بتلقي كل ما يدور حولهم. أعتقد أن كلما زاد استيعابنا لذاتنا زادت قدرتنا على مساءلة أنفسنا.
هل تعتقدين أن التحليل النفسي، الذي تمثل بدعوتك للناس لمساءلة أنفسهم، يمكن أن ينقذ الناس من الحماقة؟
أنا من أشد مناصري التحليل النفسي؛ خاصةً لأنه يقترح أن نساءل أنفسنا فيما نفكر فيه ونقوله ونفعله ونبرع فيه، ونلقي ظلال الشك عليها، وهذا هو مفتاح مدرسة الحرية العظيمة، فماذا يكون نقيض الحماقة إن لم يكن حرية الروح؟
أربع أفكار لتنمية الذكاء
استناداً إلى علماء النفس فإن التخلص من "الحماقة" ممكن، أو على الأقل التخلص من إحساس المرء بالحماقة، وسنذكر بعض تلك الحلول:
لا تجعل نفسك محور حياتك
يعد الانطواء النرجسي والوحدة والعزلة عادات قاتلة، وفي المقابل فإن حفاظ المرء على حب الاستطلاع لديه وإثراء حياته الاجتماعية والثقافية والفكرية، أي ألا يجعل من نفسه فقط محور حياته، يعني تجنبه عدم التعرض إلا إلى لآليات النفسية المخدرة للعقل.
خصص وقتاً كافياً للتفكير
يكون الفكر "الأحمق" غالباً هو أول ما يتبادر إلى ذهننا؛ إذ يكون وليد تأثير عواطفنا أو اندفاعنا أو توترنا أو غير ذلك، ثم ينتابنا إحساس بالندم: "لماذا قلت أو فعلت ذلك؟" ومن هنا تبرز أهمية تخصيص وقت للتفكير، فالوقت هو أفضل حليف لنا لتنوير بصيرتنا.
الشك والتساؤل
يمنعنا الاطمئنان والراحة وأفكارنا الجاهزة المكتسبة من التفكير. من الضروري أن تتعلم كيف تشكك في قناعاتك حتى لو عنى ذلك ضياعك لبعض الوقت؛ هذه هي الطريقة الوحيدة لتبقى منفتحاً على الاختلاف وعلى الرأي "الآخر".
المعرفة
لا يقع اللوم فيما آلت إليه أنفسنا وما يحدث لنا على "سوء الحظ" أو "حماقة" الآخرين أو ما شابه دائماً؛ قد تفيدنا محاولة معرفة كيف ساهم جزء منا ومن رغباتنا ومخاوفنا في رسم مجرى أحداث حياتنا ولماذا، فهذا يساعدنا على التخلص من نمط تفكير متزمت ومتكبر.