اختياراتنا اليومية تجعلنا أكثر فردية واستقلالية

4 دقائق
تعزيز الاستقلالية

تُعبّر اختياراتنا عن شخصياتنا، فيسعى الفرد منا منذ طفولته إلى تعزيز الاستقلالية والتعبير عن ذاته باختيار أشياء ورفض أشياء أخرى للتعبير عن تفضيلاته الشخصية؛ يجد في ذلك أداة للتعبير بقوة عن تلك الشخصية قيد النمو والتطور.

مع التقدّم في العمر، ننفرد باختياراتنا وقراراتنا. فالآن، أكثر من أي وقت مضى، أصبح لدى الأفراد في جميع أنحاء العالم فرص لاتخاذ العديد من القرارات؛ والتي تشير بعض المصادر أنها قد تصل إلى 35,000 قرار يومياً، بمعدل قرار واحد كل ثانيتين.

تتفاوت تلك الخيارات في أهميتها، فهناك خيارات يومية بسيطة كالتسوق، وأخرى خاصة بالعمل كاختيار أي من رسائل البريد الإلكتروني يجب الرد عليها، والمشاريع التي يجب العمل عليها، والاجتماعات التي يجب حضورها؛ كل ذلك هو تجسيد لإمكانية التعبير عن أولويات الفرد وتفضيلاته وأهدافه التي تؤثّر بدورها على بيئته ومجتمعه بصورة أشمل؛ يُعد ذلك سمة أساسية للاستقلالية.

زيادة الاختيارات وتعزيز الاستقلالية

في حين أن كثير من الناس يكونون أكثر صحة وسعادة ويشعرون بمزيد من التحفيز عندما تكون لديهم المزيد من الخيارات، فوجود العديد منها قد يكون مُحبِطاً ومرهقاً.

لدراسة الجوانب الإيجابية والسلبية لتلك الاستقلالية الناتجة عن تعدد فرص الاختيار؛ أجرى باحثون من 4 جامعات في كندا والولايات المتحدة وسنغافورة بحثاً نُشر من قبل الأكاديمية الوطنية للعلوم بالولايات المتحدة الأميركية (PNAS). عمل الباحثون على دراسة النتائج المترتبة على هذا التوسع السريع في التعرض للخيارات المتعددة واتخاذ القرارات بشأنها. وأظهرت نتائج هذا البحث أنه يمكن أن يكون للاختيار مجموعة من التأثيرات النفسية القوية؛ بما في ذلك التمكين الشخصي للفرد وتغذية شعوره بالاستقلالية وتعزيز فرديته.

تقول شيلبا مادان؛ الأستاذة المساعدة للتسويق في كلية بامبلين للأعمال والباحثة الرئيسية في الدراسة، إن مجرد التفكير في اتخاذ الخيارات يجعل الناس أكثر استقلالية وأكثر اهتماماً بمصالحهم الشخصية، بالإضافة إلى جعلهم أكثر فردية.

تشير مادان إلى أن تلك القرارات لا يجب أن تكون ذات أهمية قصوى حتى يكون لها تأثير؛ حتى القرارات البسيطة اليومية مثل اختيار تناول الحبوب على الإفطار بدلاً عن البيض، أو إبداء الإعجاب ببعض المنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي وتجاهل أخرى؛ مجرد الشعور بأن الاختيار ملك الفرد وأنه في مقعد القيادة يجعله يشعر بأنه مستقل وذو أهمية.

الاختيار وزيادة الوعي

اقترح البحث أن الاختيار بمثابة محرك للزيادة في الفردية في العديد من الأماكن حول العالم، وأن هذا التركيز المعزز على الذات وتمكينها قد يؤدي بدوره إلى عدة عواقب؛ مثل الرغبة في التعبير عن وجهات نظر المرء في مكان العمل والتفاوض بشكل أفضل.

حقق البحث في النتائج القوية المحتملة لقدرة الفرد على الاختيار في جانبين؛ وهما: زيادة الوعي والخبرة بالاستقلالية.

من خلال أربع دراسات عبر ثلاثة سياقات ثقافية مختلفة من حيث شيوع الاختيار والاستقلال؛ قدّم البحث أدلة متقاربة على وجود صلة بين الاختيار والاستقلال. أُجري البحث على مشاركين من الولايات المتحدة الأميركية -تأسست على مُثُل الفردانية- وسنغافورة والهند - القائمتان على أساس العمل الجماعي.

اختبرت ما إذا كانت زيادة فرص الاختيار من شأنها أن تدفع السنغافوريين إلى تضخّم الشعور بالذات وتمكينها، وسعت الدراسة الثانية إلى تكرار هذه النتيجة في الولايات المتحدة. بينما قيّمت الدراسة الثالثة ما إذا كانت زيادة الاختيارات يحوّل انتباه السنغافوريين إلى مفهوم الاستقلال. وأخيراً؛ اختبرت الدراسة الرابعة النتيجة النهائية لأهمية الاختيار على تجربة الاستقلال عبر الثقافات المختلفة.

أشارت نتائج الدراسة الأولى إلى أن القدرة على الاختيار تقود الناس إلى الشعور بأنهم أكثر استقلالية؛ وبالتالي تعزز الشعور بتضخم الذات والقوة. كانت النتيجة ذاتها في التجربة الثانية التي أظهرت أن المشاركين الأميركيين شعروا بأنهم أكبر وأقوى جسدياً من الآخرين عند منحهم القدرة على الاختيار.

أظهرت نتيجة الدراسة الثالثة أن أهمية الاختيار تتجاوز مجرد شعور الفرد باستقلاليته، فهي توجّه انتباهه أيضاً إلى المفاهيم المتعلقة بالاستقلال وتنشيط الاهتمام بها عموماً. كذلك؛ عضّدت نتائج التجربة الرابعة أن القدرة على الاختبار مرتبطة بالاستقلال، وقدرة الفرد على التعبير عن أفكاره ومعتقداته، وكذلك تقديم مقترحات، ويتضح ذلك بصورة أكبر في بيئات العمل التي تشدد على حرية الاختيار.

تشير هذه النتائج معاً إلى أن الاختيار يغيّر وعي الناس وسلوكهم في اتجاه أكثر استقلالية؛ أي يقودهم إلى تصور أنفسهم أكبر وأقوى، ويركّز انتباههم على المحفّزات المتعلقة بالاستقلال، ويدفعهم إلى الرغبة في التعبير عن أنفسهم والتفاوض بشكل أفضل بشأن ظروف العمل ومقاومة التحرش. إن مجرد بروز الاختيار يمكن أن يؤدي إلى اختلافات في إدراك الناس لذواتهم وإدراكهم وسلوكهم.

هل تعزيز الاستقلال أمر إيجابي دائماً؟

إذاً؛ يؤدي تحوّل الأفراد في اتجاه أكثر استقلالية وتركيزهم على استقلاليتهم الشخصية إلى نتائج فردية أفضل، ويؤدي الشعور المعزز للاستقلالية إلى إصرار الأفراد على العمل لتحقيق أهدافهم الخاصة؛ وبالتالي تحسين الإنجازات الفردية ورفاهيتهم الشخصية. فما هي العواقب لتلك الفردية على العمل الجماعي والأهداف المجتمعية المشتركة؟

تضيف الباحثة الرئيسية في الدراسة أن هذا التركيز على الذات ليس بالضرورة سيئاً؛ يمكن أن تكون له مجموعة من النتائج الإيجابية على الفرد، فعندما يفكر الناس في أنفسهم على أنهم مستقلون، يكون من غير المرجح أن يتحملوا المضايقات أو التمييز، ويكونون أكثر قدرة على التعبير عن آرائهم، وأكثر استعداداً للتفاوض بشأن ظروف أفضل لأنفسهم. ومع ذلك، فإن الزيادة في الفردية يمكن أن تكون لها عواقب سلبية على المجتمع؛ كلما أصبح الناس أكثر استقلالية وفردية وأكثر اهتماماً بأنفسهم، يصبح اتخاذ إجراءٍ أو قرارٍ جماعيٍ أكثر صعوبةً.

تشير الدراسة إلى أن التركيز المتزايد على الاستقلال الشخصي قد يؤدي إلى نتائجَ عكسية عندما يكون العمل الجماعي ذو أهمية قصوى للصالح العام؛ مثل وقف التغير المناخي، واستعادة الحراك الاقتصادي، ودمج ملايين المهاجرين النازحين بسبب الحرب والكوارث الطبيعية، ذلك لأن مثل هذه السياسات يمكن تفسيرها على أنها تقيّد الحرية الفردية.

في حين أن تغذية الشعور بالاستقلالية مفيد للفرد، فإن زيادته قد تكون لهما عواقب سلبية على المجتمع.

العواقب السلبية لبروز الفردية والاستقلالية

في دراسة أخرى لبحث العواقب السلبية لبروز الفردية والاستقلالية الناتجة عن تعدد الاختيارات وحرية الفرد في التحكّم بها، أوضحت النتائج أن ذلك قد يؤدي إلى إصدار الأحكام القاسية على الآخرين والتأثير السلبي على المجتمع والتفكير الجمعي.

تشير الدراسة إلى أن عقلية الاختيار تقود الناس إلى الانخراط في العمليات المعرفية للتمييز والتأكيد على المسؤولية الشخصية. فلقد كان المشاركون في الدراسة أكثر ميلاً إلى تحميل الآخرين المسؤولية عن اختيارهم الخيارات غير الصحية بدلاً من الصحية عندما عُرض عليهم الاختيار بين الاثنين. علاوة على ذلك، أدى الإيمان المتزايد بالاختيار إلى زيادة التمييز ضد الأقليات.

كذلك، كانت لعقلية الاختيار عواقب إشكالية على المجموعة؛ كان الناس أقل انزعاجاً من عدم المساواة بين متوسط الأجور بين ​الرئيس التنفيذي والعامل العادي، ربما لأنهم فسّروا عدم المساواة على أنه نتيجة لاختيارات الناس. ولقد كانوا أيضاً أكثر ميلاً لإلقاء اللوم على الضحايا في محنتهم، ربما لأنهم اعتقدوا أن الضحايا كانوا مسؤولين شخصياً عن أوضاعهم.

بعبارة أخرى، أدى بروز الاختيار إلى إدراك الناس أن نتائجهم ونتائج الآخرين هي نتيجة اختياراتهم الشخصية وتجاهلوا العوامل الجماعية المسؤولة أيضاً عن نتائج الأفراد، مثل المؤسسات الحكومية والخاصة والجامعات، التي تصوغ الممارسات والسياسات التي تخلق أو تحل المشكلات المجتمعية المختلفة، مما ألقى باللوم كاملاً على الأفراد وأدى لقلة التعاطف معهم.

وأخيراً؛ تضيف مادان، الباحثة الرئيسية في كلتا الدراستين: "بصفتنا باحثين؛ نحاول إيجاد تدخلات لسياقات محددة حيث يمكننا تخفيف هذا التأثير السلبي للاختيار على الرفاهية الجماعية". وتؤكد على ضرورة اتخاذ القرارات عن وعي، سواء بالنسبة لأنفسنا أو لمجتمعنا؛ ومحاولة التعبير عن خيارات لا تخدم تعزيز الاستقلالية الذاتية فقط ولكنها جيدة للمجتمع أيضاً.

المحتوى محمي