تعرّف إلى إيجابيات وسلبيات السعي نحو الكمال

طلب الكمال
shutterstock.com/19 STUDIO
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

قد يكون الهوس بالسعي نحو الكمال من علامات تضخم الأنا (النرجسية) أو اضطراب نفسي أشد وهو سلوك يرهق صاحبه والمحيطين به، إلا إذا استخدم في مكانه الصحيح.
قد تقضي سعاد التي تعمل صحفية في إحدى المجلات ساعات أمام حاسوبها خلال إعداد مادة ما بسبب جملة واحدة فقط، فترفض الانتقال إلى الفكرة التالية مثلاً قبل العثور على الكلمات الملائمة للفكرة التي استوقفتها. وتقول سعاد: “إنها حالة من العجز التام تمنعني عن المضي قدماً فيما أعمل عليه”. قد يكون الأمر مرهقاً لكنه يؤدي إلى نتائج مبهرة على المدى الطويل، ويعد هذا النوع من طلب الكمال سمة حميدة. وبعيداً عن أنها حالة مرضية فإن السعي نحو الأفضل جزء لا يتجزأ من حياة الموهوبين والمبدعين الذين يمارسون على سبيل المثال الرسم والكتابة والتصوير، ويرجع ذلك إلى حرص هؤلاء على إيصال رسالة صحيحة إلى العالم وإسعاد الناس، وتختلف هذه الحالة عن حالة طلب الكمال والهوس بالتفاصيل لدى الشخص النرجسي المفرط في حبه لذاته الذي تصبح مثاليته هذه نقمة على من حوله.

الشخص النرجسي: كل شيء أو لا شيء

بعد أشهر من العمل الجاد نجح مالك في اختبار القبول بالمعهد الوطني للإدارة بدرجة امتياز ويا لها من فرحة! رتبت زوجته سمية احتفالاً صغيراً بهذه المناسبة، لكنها تفاجأتْ بوجه زوجها المتجهم، وعندما سألته عن السبب أجابها: “بمَ تريدين الاحتفال؟ بأنني حصلتُ على المركز الثاني في جدول القبول؟ يا للعار!”. تقول مختصة العلاج النفسي نيكول دوكوين (Nicole Duquenne): “مالك هو مثال للشخصية النرجسية التي تعاني رغبةً مرضيةً في التألق، والتي تتبنى فكرة كل شيء أو لا شيء”. يبني الشخص النرجسي صورة ذاتية مبالغاً فيها، ولكنها هشة في حقيقتها فهو لا يشعر بحبه لذاته إلا عندما يحقق النجاح. ولما كان سقف توقعاته مرتفعاً على الدوام، فإن مشاعر الكراهية تجاه نفسه تتعاظم مع كل إخفاق فتسيطر عليه حالة من الكآبة ويتعامل بقسوة مع من حوله أيضاً وكأنه يلومهم على حظه السيئ.

مشكلة يرجع أصلها إلى الطفولة

ترجع النرجسية المفرطة إلى مرحلة الطفولة ولكن كيف ذلك؟ يحاول الطفل التغلب على شعوره بالافتقار إلى الاستقلالية من خلال نسج أوهام التمتع بالقدرة المطلقة، ويعزز ذلك ترسيخ والديه في نفسه فكرة أنه الشخص المميز الذي يتمحور العالم حوله. ولا عجب في أن هذه الفكرة قد تسيطر على بعض الأشخاص طوال حياته فهي تشعره بالراحة لأنها تمنحه هدفاً براقاً يسعى إليه. بصورة عامة يكون النرجسي عادةً الولد المفضل لدى والديه اللذين يحاولان تعويض النقص الذي واجهاه في الماضي من خلاله، ولذلك فإنهما يسعيان دوماً إلى إرضائه بتعزيز شعوره بالتفوق كما لو كان طفلاً صغيراً حتى عندما يصبح راشداً. تقول سلوى ذات الـ 23 عاماً: “أحاول دائماً تقييم نفسي وفق معايير غير واقعية، إذ أريد أن أتفوق في كل المواد الدراسية وكل الرياضات وأن أتعلم العزف على الكمان، فأنا أنشد الكمال وعندما أسمح لنفسي بتذوق أي متعة صغيرة أو أحصل على نتيجة مقبولة يجتاحني شعور بالذنب، فالعمل الجاد والالتزام بالنجاح في كل المجالات هما القيمتان الوحيدتان اللتان تهتم بهما والدتي”.

يميل الشخص النرجسي إلى عدم أخذ كلام من حوله بعين الاعتبار بمن فيهم أفراد عائلته عندما يحاولون إقناعه بأن ما حققه جدير بالاحترام والتقدير ويولد لديهم هذا الازدراء رغبةً في تركه وحده أملاً بأن يعدل سلوكياته، لكن رغبته في التألق تقترن من جهة أخرى بصفات لا يمكن لمن حوله تجاهلها فهو يتمتع بشخصية ساحرة وحس فكاهي عالٍ.

الشخص المهووس بالتفاصيل

الهوس بالتفاصيل هو سلوك أكثر إرهاقاً وإشكالية من سلوك طلب الكمال فلا يهم صاحبه التألق بقدر ما يهمه أن يكون العالم من حوله خالياً من أي عيوب أو شوائب حيث يبدو كل شيء نظيفاً وأنيقاً ومرتباً. تقول نيكول دوكوين: “ينشأ الإنسان المهووس بالتفاصيل غالباً في كنف أم مثالية، أو كان يراها كذلك على الأقل، فقرر أن يكون العالم من حوله متوافقاً مع هذه المثالية المفترضة، أي لأنه يرى والدته مثالية يتيقن بأن العالم سيصبح مثالياً بدوره عندما يطبق معاييرها عليه”.

وتكمن مشكلة الشخص المهووس بالتفاصيل بأنه لا يكتفي بتوجيه مشاعر الكره إلى نفسه كما يفعل الشخص النرجسي، بل يسعى إلى تصيد أخطاء من حوله، ولا سيما المقربين، وإظهار تفوقه عليهم، ما يسبب لهم شعوراً بالنقص. تتحدث سوسن عن حياتها مع والدها المهووس بالمعرفة فتقول: “كان والدي يرتب لنا كل مساء اختبارات لقياس مستوى معرفتنا فيسألنا أسئلة ثقافية متنوعة وعندما لا نعرف الإجابات ينعتنا بالحمقى ويشعر بالسرور لأنه يعرف أكثر مما نعرف”.

في أغلب الأحيان يؤدي هذا الهوس الشديد بالتفاصيل إلى عدم التركيز على النتائج النهائية. تقول نيكول دوكوين: “يمتد هذا الخوف من الأخطاء والعيوب إلى مختلف جوانب حياة الشخص بما فيها الجانب المالي، فهو يعرف كيف ينفق أقل ما يمكن، كما تثير رؤية شيء في غير مكانه غضبه. فعلى الرغم من أننا جميعاً نحب النظام والترتيب فإنني مثلاً لن أبدأ بالصراخ لأن ابني ترك ألعابه ملقاة على الأرض”. وتتابع: “يشعر الشخص المهووس بالكمال باضطراب عالمه بسبب أدنى خطأ، فلو كان كاتباً مثلاً فإنه سيبحث لساعات في نصه عن حرف أو فاصلة في غير محلها، ولكن هذا الهوس بالتفاصيل الصغيرة سيمنعه غالباً من رؤية النتائج النهائية بوضوح”.

يقول مختص الطب والعلاج النفسي ومؤلف كتاب “كيف تتعامل مع الشخصيات الصعبة” (Comment gérer les personnalités difficiles )، كريستوف أندريه (Christophe André): “يعاني الشخص المهووس بالكمال قلقاً شديداً وهذا سبب رغبته الشديدة في السيطرة”. ولكي يتمكن من مواجهة مواقف الحياة اليومية وخوفه من المجهول فإنه يطور في سبيل ذلك عادات قد يصل بعضها إلى مرحلة من العبثية. مثلاً إذا رتب أحدهم وسادته بطريقة مغايرة لما اعتاده فإنه قد يصاب بالأرق، أو قد يستخدم أنظمة أرشفة معقدة لحفظ الملفات ليضمن ألا أحد سيفهمها وأن أي شخص يريد استخدامها يجب أن يرجع إليه أولاً.

كيف يكون طلب الكمال والهوس بالتفاصيل إيجابياً؟

لا يعد طلب الكمال سلوكاً فطرياً، ولكن الطفل يبدأ بتطوير هذه السمة في مرحلة مبكرة عندما تبدأ أمه بتعليمه كيفية استخدام المرحاض، إذ يكتشف أن بإمكانه إرخاء عضلاته العاصرة أو قبضها ومن ثم السماح بمرور الفضلات أو عدم السماح بذلك. وعندما تثير مقدرة السيطرة هذه التي اكتشفها لتوه شعوراً بالمتعة لديه سيحاول تطبيقها على مختلف نواحي الحياة، ولا سيما فيما يخص السعي نحو الكمال الذي سيكون تحقيقه ذروة السيطرة بالنسبة إليه.

يؤكد كريستوف أندريه أنه يمكن للاهتمام الزائد بالتفاصيل أن يصبح سمةً إيجابيةً إذا تعلم الشخص كيف يواجه قلقه، لأنه سيتمكن حينها من الانتباه إلى أمور مهمة قد يغفلها كثيرون، وفي الواقع يمكن أن يصبح السعي إلى الكمال قيمة ثمينة مثلاً في مجال التكنولوجيا المتطورة التي تتطلب تطوير المعارف بصورة مستمرة للحصول على أفضل نتائج. ويختتم قائلاً: “يرافق الهوس بالكمال صاحبه طوال حياته أغلب الأحيان وقد يتطلب الأمر استشارة معالج نفسي، لأن هذا السلوك هو قشرة خارجية تخفي تحتها مشكلات نفسية أعمق”.

يقول الممثل الفرنسي الهزلي الراحل بيير ديبروج في أحد عروضه: “لا أسمي نفسي مهووساً إنما كل ما هنالك أنني أحب رؤية كل شيء نظيفاً ومرتباً. عندما أصل إلى المنزل فإن أول ما أفعله هو أن أسكب لنفسي بعض الشاي، أسكب الشاي في منتصف الكوب تماماً ثم أسكب فوقه السكر بطريقة عمودية وإلا ستحدث فوضى، ثم أرتب المكتب والأطفال والكلب وأنظف تمثال الحمار الوحشي، أحب الحمير الوحشية حقاً فالخطوط المرسومة على أجسادها متوازية جداً، أحب أن تكون الأشياء متوازية. لا أقدر شيئاً مثل هذه اللحظة سريعة الزوال عندما تشير عقارب الساعة إلى الحادية عشرة وإحدى عشرة دقيقة صباحاً، حتى أنها تشعرني بنشوة كبيرة”.

المحتوى محمي !!