ما الطريقة التي تتبعها عندما تكون مشحوناً بمشاعر قوية مثل القلق أو التوتر أو الغضب، ولا تستطيع تفريغ شحنتها أو تقبّلها واحتواءها؟ بالنسبة إلى البعض، فقد تكون الإجابة إجراء محادثة مع صديق والتحدث إليه حول ما يشعر به، أو ممارسة الرياضة، أو الإفراط في تناول الطعام، أو تجنّب التفكير بها بشتى الطرق، وغيرها من الوسائل التي يمكن أن تُستخدم كآلية للتأقلم. لكن الإجابة قد تختلف لدى آخرين لتكون إدمان العمل للهروب من هذه المشاعر القوية وعدم التفكير فيها أو في الموقف الذي أحدثها. فكيف يمكن أن يكون إدمان العمل آلية للتأقلم مع الضغوط والقلق؟ ومتى يُطلق على الشخص مصطلح "مدمن للعمل"؟ وهل يمكن أن يؤثر ذلك في شخصية الفرد في بيئة العمل؟
ما هي آليات التأقلم؟ وكيف تختلف عن آليات الدفاع؟
يتم تعريف آليات التأقلم (Coping Mechanisms) بأنها الأفكار والسلوكيات التي يستخدمها الناس غالباً لإدارة المواقف المجهدة الداخلية والخارجية والصدمات، للمساعدة على إدارة المشاعر القوية والمؤلمة الناتجة من أحداث صعبة والتي تجعل الأشخاص يشعرون بالضيق والحزن والغضب والوحدة والقلق والاكتئاب.
يمكن أن تساعد هذه الآليات الأشخاص على التكيف مع الأحداث المجهدة، مع الحفاظ على سلامتهم العاطفية. لكن على الرغم من جانبها الإيجابي، فقد يستخدم الأشخاص بعض آليات التأقلم غير الصحية التي تأتي بنتائج سلبية على المدى الطويل، ويمكن أن تغيّر من طبيعة شخصيتهم للأسوأ.
قد يخلط البعض بين آليات الدفاع وآليات التأقلم لاشتراكهما في بعض أوجه التشابه؛ إلا أنهما مختلفتان. فغالباً ما تحدث آليات الدفاع على مستوى اللاوعي؛ حيث لا يدرك الفرد أنه يستخدمها. على الجانب الآخر، يكون استخدام الفرد آليات التأقلم واعياً وهادفاً؛ حيث تُستخدم لإدارة الموقف الخارجي الذي يخلق له مشكلات وضغوطاً نفسية.
آليات التأقلم
آليات التأقلم الصحية
بحسب دراسة من جامعة كاليفورنيا؛ تُصنَّف آليات التأقلم الصحية بشكل عام إلى أربع فئات رئيسية وهي:
- التركيز على المشكلة للتخلص من الضيق الناتج منها: يتضمن ذلك التأقلم النشط والتخطيط وضبط النفس.
- التركيز على العاطفة بهدف تقليل المشاعر السلبية المرتبطة بالمشكلة: من أمثلة هذا الأسلوب إعادة صياغة المشكلة بشكل إيجابي وتقبُّلها وربما السخرية منها.
- التركيز على المعنى: حيث يستخدم الفرد استراتيجيات معرفية لفهم معنى الموقف جيداً.
- التأقلم الاجتماعي أو البحث عن الدعم: حيث يقلل الفرد من التوتر من خلال السعي للحصول على الدعم العاطفي الفعّال من محيطه وأصدقائه.
تتحد الآليات السابقة في أنها نشطة؛ أي أن الفرد يسعى من خلالها إلى حل المشكلة التي تسبب له الضغط ويواجهها، بينما يوجد نوع آخر لآليات التأقلم، وهو نمط غير صحي، قائم على التجنُّب وتجاهل المشكلة وما خلّفته من مشاعر قوية بطرق مختلفة.
آليات التأقلم غير الصحية
وتشمل آليات التأقلم غير الصحية الأكثر شيوعاً ما يلي:
- الهروب: للتغلب على القلق أو التوتر؛ قد ينعزل الفرد اجتماعياً ويلجأ إلى الأنشطة الفردية مثل مشاهدة التلفزيون أو القراءة أو تصفح الإنترنت.
- التهدئة الذاتية غير الصحية: في حين يُعتبر بعض السلوكيات المهدئة للذات صحياً عند استخدامه باعتدال؛ مثل ممارسة الرياضة أو الانغماس في العمل، يمكن أن يصبح غير صحي عند الإفراط فيه.
- الإكراه والمخاطرة: يمكن أن يدفع الإجهاد بعض الناس إلى السعي وراء اندفاع الأدرينالين من خلال السلوكيات القهرية التي تنطوي على المخاطرة؛ مثل المقامرة أو السرقة أو القيادة المتهورة.
- إيذاء النفس: قد ينخرط الأشخاص في سلوكيات إيذاء النفس للتعامل مع الإجهاد الشديد أو الصدمة.
العلاقة بين آليات التأقلم وإدمان العمل
في حين يبدو العمل آلية تأقلم نشطة وغير مضرة إلا أن إدمانه أداة غير صحية لتفريغ الشحنة العاطفية والتأقلم على المدى البعيد؛ كما أنه يؤثر سلباً في الصحة البدنية والنفسية للأفراد وفقاً لدراسة من قسم الصحة النفسية بجامعة طوكيو (The University of Tokyo).
بحثت هذه الدراسة التي شملت 757 موظفاً في شركة آلات بناء يابانية، حول دور آليات التأقلم والتفريغ العاطفي في العلاقة بين إدمان العمل واعتلال الصحة البدنية والنفسية والأداء الوظيفي. وأظهرت النتائج ارتباط إدمان العمل إيجاباً بالتأقلم النشط؛ أي استخدام العاملين له كآلية للتأقلم والتفريغ العاطفي الذي كان بدوره مرتبطاً ارتباطاً مباشراً باعتلال الصحة البدنية والنفسية.
تدني احترام الذات قد يكون دافعاً للإفراط في العمل
وقد أوضحت دراسة من قسم علم النفس بجامعة شرق كارولينا الأميركية (East Carolina University) احتمالية وجود ارتباط بين تدني احترام الذات وإدمان العمل؛ حيث وجد الباحثون أن الأشخاص الذين يعانون من تدني احترام الذات كانوا أكثر ميلاً لأن يكونوا مدمنين للعمل، فهؤلاء الأشخاص يمكن أن يلقوا بأنفسهم في العمل من أجل أن يصبحوا أكثر نجاحاً في جانب معين من حياتهم يشعرون فيه أنهم يتمتعون بقدر أكبر من النفوذ والسيطرة.
حلل الباحثون في هذه الدراسة إجابات 414 مشاركاً في استبيان حول العلاقة بين ضغوط العمل واحترام الذات وإدمان العمل، وتراوحت أعمار المشاركين بين 33-73 عاماً وعملوا بمعدل 45 ساعة في الأسبوع، وتوصلوا إلى أن أجزاء من شخصيتنا التي قد نعتقد أننا تركناها في المنزل؛ مثل الطريقة التي نشعر بها تجاه أنفسنا وتقديرنا لذاتنا، تتبعنا في الواقع إلى مكان العمل.
إدمان العمل لتخفيف حدة التوتر
يعاني الأفراد الذين يتعرضون لمواقف مجهدة من فرط اليقظة وعدم القدرة على الاسترخاء، فيلجؤون إلى الإفراط في العمل أو إدمانه لتخفيف وطأة مِحنتهم.
ولا يصف إدمان العمل الشخص الذي يفرط في العمل أو من يرفض طلب الإجازات فقط؛ بل هو مَن يعمل كثيراً لدرجة أنه يتجاهل مجالات أخرى من حياته مثل العلاقات الاجتماعية أو النوم أو الحفاظ على صحته، وعلى الرغم من شعوره ببعض السيطرة والتحكم من خلال العمل إلا أنه يكون غير سعيد بذلك.
وفقاً لمراجعة منشورة في مجلة الإرشاد والتنمية (Journal of Counseling and Development)؛ يتشابه مدمنو العمل في ثلاث خصائص على الأقل من الخصائص الأربع التالية:
- العمل إلى الحد الذي يهمل فيه المرء الرعاية الذاتية أو الحياة الشخصية.
- عدم الشعور بمتعة في العمل على الرغم من الإفراط به.
- العمل أكثر مما هو متوقع أو مما تتطلبه الظروف.
- إظهار سلوكيات تحكمية مثل عدم تفويض الآخرين أو الثقة بهم.
وقد يكون من الصحي استخدام مهام العمل للتهدئة عند الشعور بالتوتر كآلية للتأقلم إذا قام الفرد بذلك باعتدال، خاصةً إذا وجد هدفاً ومعنىً من خلال عمله؛ لكن الأشخاص الذين يعانون من ضغوط شديدة أو كرب ما بعد الصدمة (PTSD) قد يكونون عرضة لتجنب مواجهة مشاعرهم التي لم يحلوها من خلال الإفراط في العمل والانغماس فيه لدرجة أنهم لا يلاحظون أي ألم جسدي أو مضايقات أخرى كما يوضح المعالج النفسي بريان روبنسون (Bryan E. Robinson) في كتابه "مقيّد إلى المكتب: الدليل الإرشادي لمدمني العمل" (Chained To The Desk: A Guidebook for Workaholics).
بالإضافة إلى ذلك، فقد يلجأ بعض الأشخاص إلى إدمان العمل عندما يشعرون أن مناطق أخرى من حياتهم خارجة عن السيطرة، وعندما يكونون قلقين ومحبَطين وغاضبين ولا يستطيعون تهدئة أنفسهم، لاكتساب إحساس الشعور بالسيطرة على جزء من حياتهم وتحقيق الاستقرار. ذلك لأنه من خلال العمل يمكن التنبؤ بالنتائج؛ ما يخفف من حدة فقدان السيطرة على حياة الفرد.
اقرأ أيضاً: وهم السيطرة الكبير: ما هي تكلفة سيطرتك الكاملة على حياتك؟
كيف تغيّر أساليب التأقلم غير الصحية شخصيةَ الأفراد في بيئة العمل؟
في مقالها عن آليات التأقلم الصحية وغير الصحية التي يتبعها الأفراد لتفريغ الشحنة العاطفية القوية، تشير رئيسة ومؤسسة مركز العلاج المعرفي المعرفي (Cognitive Behavior Therapy Center)، لورا جونسون (Laura Johnson) إلى ثمانية أشكال من الشخصيات التي تنتج من سوء التأقلم أو اتباع آليات تأقلم غير صحية كما يلي:
1. القائد: هو المسيطر الذي يفكر بشكل بنّاء ويعبر عن مشاعره صراحةً؛ كما أنه يكون مدركاً لاحتياجاته الشخصية واحتياجات الآخرين.
يصبح القائد متنمراً: في هذه الحالة يسعى القائد إلى تحقير الموظفين ومحاولة السيطرة الشديدة عليهم. وعلى الرغم من أنه يريد الحصول على احترام الآخرين إلا أن اتباع هذه الطريقة يثير عداءهم واستياءهم؛ ما يجعله يدور في حلقة مفرغة.
2. القائم بالرعاية: يركز القائم بالرعاية على تلبية احتياجات الآخرين، وتكون أولويته التواصل الجيد مع من يرعاهم، وتأتي احتياجاته ومشاعره في المرتبة الثانية بعد احتياجاتهم.
يؤدي القائم بالرعاية دور الضحية: لا يعبِّر مقدم الرعاية في هذه الحالة عن احتياجاته، ويتوقع أن تضحيته الواضحة ستجعل الآخرين يستجيبون بالمثل؛ ما يؤدي إلى تراكم استيائه لعدم حصوله على ما يريد. إن حاجة الشخص المضحي المفرطة لاعتراف من حوله بتضحياته تؤدي إلى شعوره بالذنب والهزيمة الذاتية الناجمة عن ابتعاد الآخرين عنه.
3. الشخص الحر أو المستقل: يسعى هذا الشخص بنشاط إلى تحقيق الأهداف، ويشعر دائماً بالرضا والثقة والاستقلال.
يصبح الشخص الحر متمرداً: يكون للمتمرد أسلوب اندفاعي أو معارض، فاحتياجه المبالغ فيه للاستقلالية والتغيير يثير ردود أفعال الآخرين للتصحيح والسيطرة؛ ما يعزز حلقة التمرد المفرغة.
4. الشخص المتأني: يزن هذا الشخص الخسائر والفوائد المحتملة لمسارات العمل المختلفة بعناية حتى الوصول إلى مستوىً من اليقين.
يصبح المتأني كثير القلق: تدفعه الحاجة المفرطة إلى اليقين وعدم تحمل الغموض إلى التصرف بقلق دائم، والخوف من المخاطرة ما دام غير قادر على التأكد من النتيجة. يمكن أن يؤدي الهوس أو التردد المزمن إلى التسويف أو السعي المفرط وراء الطمأنينة أو الاستياء من التبعية.
5. الشخص المُنجز: يكون الفرد شديد التركيز على الفعل وإنجاز المهام و إنهاء المشروعات مع عدم التفكير في ما وراء المهمة المطروحة.
يصبح المنجز مراقباً: لا يتقبّل الشخص في هذه الحالة تعليقات الآخرين، وعند اكتمال مشروع ما ينتقل مباشرة إلى المشروع التالي للوصول إلى الهدف مع القليل من الإحساس بالرضا أو التواصل مع الآخرين.
6. المخطط الاستراتيجي: يهتم بالتمعُّّن في إيجابيات الاستراتيجيات المختلفة وسلبياتها، وينصبّ تركيزه على التفكير أكثر من المشاعر.
يصبح المخطط الاستراتيجي مخادعاً: بالنسبة إلى المخادعين، فالحياة هي معركة ذكاء أو لعبة شطرنج. ينتج من ذلك سعيه للتلاعب الخفي والعدوان السلبي؛ ما يسلبه ثقة الآخرين به.
7. الشخص الذي يبالغ في التعبير عن مشاعره: يعبر هذا الشخص عن مشاعره علانيةً، إما لتلبية الاحتياجات الملحة أو لأن السياق يثيرها.
يفرط الشخص الذي يبالغ في التعبير عن مشاعره في ردود أفعاله: تنتاب هذا الشخص نوبات من الانفجارات العاطفية مثل نوبات غضب الأطفال التي تهدف إلى استثارة ردود الأفعال الآخرين للطمأنة عليه والاستجابة إليه؛ ما يأتي بنتائج عكسية ويمكن أن يؤدي إلى الرفض أو السخرية.
8. التابع: هو وضع يلجأ فيه الشخص إلى تسليم السيطرة للآخرين.
يصبح التابع ضحية: يصبح الشخص في هذه الحالة منفصلاً أو مكتئباً ويؤدي دور الضحية حيث يحتاج إلى الاتصال والشعور بالاستقرار والحصول على موافقة الآخرين؛ ولكن من خلال الانغلاق على الذات تقل احتمالية تلبية هذه الاحتياجات بشكل كبير.
اقرأ ايضاً: 6 حلول للتعامل مع الضغوط اليومية
كيف يمكن التعامل مع التوتر والقلق بشكل صحي؟
في حين قد يكون الانغماس في العمل لبعض الوقت مفيداً لتفريغ الشحنة العاطفية لمن يعاني من المشاعر القوية؛ إلا أن إدمان العمل كأداة للتأقلم يُفقدها حدتها على المدى الطويل. ويعتقد بريان روبنسون أن التعود على الإجهاد يقود هؤلاء الأشخاص إلى قضم أكثر مما يستطيعون مضغه لأن نظامهم الداخلي معتاد على زيادة العبء؛ ما يزيد من قلقهم وتوترهم ويجعلهم يدورون في حلقة مفرغة من محاولة السيطرة على حياتهم دون جدوى.
لذلك ينصح روبنسون بتعلم الجلوس بهدوء والبقاء في اللحظة الحالية بممارسة تقنيات التأريض، وذلك لتدريب الدماغ على إدراك أنهم يمكن أن يكونوا هادئين وأن كل شيء على ما يرام، بالإضافة إلى التخلص من التوتر.
فتعلُّم البقاء "حاضراً في اللحظة" قد يساعد على معالجة المشاعر التي لم يتم حلها والتي استخدموا العمل لتجنبها. ومن خلال القدرة على الشعور بالثبات في المكان؛ يمكن للناس إيجاد طرق صحية للانخراط في العمل وإنشاء حدود ملموسة تساعدهم على الإنجاز دون التضحية بصحتهم النفسية.