هل شاهدت فيلم "أصحاب ولا أعز" الذي أنتجته منصة "نتفليكس"؟ وهل تابعت الدعوات التي شنّها بعض الأشخاص على الفيلم، والمناداة بمنع عرض محتوى "نتفليكس" في بعض الدول العربية؟
طالب عضو البرلمان المصري مصطفى بكري -على سبيل المثال- بمنع عرض المحتوى الفني لشركة "نتفليكس" في جمهورية مصر "لأنه يهدد قيم الأسرة المصرية" حسب قوله، ورفع المحامي بالنقض أيمن محفوظ، دعوى قضائية ضد وزارة الثقافة المصرية وهيئة الرقابة على المصنفات الفنية، للمطالبة بعدم عرض الفيلم جماهيرياً، لأنه يروج للمثلية الجنسية من وجهة نظره.
ملخص "أصحاب ولا أعز"
إذا لم تشاهده، فسوف أخبرك بمخلص بسيط عن أحداث الفيلم؛ لكنك على الأغلب قد لاحظت الجدال الحاصل بين مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي حول الفيلم.
تدور أحداث الفيلم حول مجموعة من سبعة أصدقاء يجتمعون على العشاء في بيت واحدٍ منهم، ويلعبون لعبة؛ حيث يضع الجميع هواتفهم المحمولة على طاولة العشاء، ومَن تأتيه رسالة أو مكالمة هاتفية عليه الرد، على أن تكون الرسائل أو المكالمات على مرأى ومسمع الجميع. لكن تتحول اللعبة بعد مرور بعض الوقت من حالة الإثارة والتشويق، لتكشف الأسرار التي لم يكن يعرفها أحد.
إن الدعوات التي طالب بها بعض مستخدمي السوشال ميديا وعضو البرلمان والمحامي بالنقض ليست حديثة العهد، فمع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح المستخدمون قادرين على التعبير عن رأيهم بسهولة.
لكن المشكلة هنا ليست في التعبير عن الرأي؛ وإنما تكمن في الرقابة التي يمارسها الأشخاص على بعضهم البعض، والدفاع عن رغباتهم في حماية مجموعة من القيم عن طريق الحجب أو المنع.
إن القوانين المنظِّمة لفكرة الرقابة على المحتوى الفني تجعل منها أداة تُستخدم للقضاء على حرية الإبداع، وتمنح السلطة لمجموعة من الأشخاص للقضاء على أي وجهة نظر معارضة. كما ساهمت فكرة الرقابة في القضاء على حرية الإبداع بتبنّي أيديولوجية مستخدمي تلك السلطة، ونتج عن هذا أيضاً عرض وجهة نظر واحدة وقضايا مجتمعية بمنظور واحد يتناسب مع رؤية وتوجهات هؤلاء المتحكمين في تلك الرقابة. وكانت النتيجة هي السماح بهامش ضئيل لحرية الإبداع؛ ما أدى إلى تدهور الإنتاج العام وانتشار محتوىً ذو مستوىً فني رديء.
في شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، كانت قد أعلنت دولة الإمارات العربية المتحدة عن إلغاء الرقابة على الأفلام من خلال تصنيفات تنبيه المشاهدين على حسب الفئات العمرية؛ حيث أدرجت تصنيف "+21" في الأفلام التي ترى أنها لا تناسب من هم أصغر من هذا السن.
الممنوع مرغوب
يمكن أن تساعدنا العلوم النفسية في فهم السلوك والتنبؤ به وتعديله وتحليل المعلومات بشكل نقدي، بهدف إصدار أحكام مستنيرة. على سبيل المثال؛ يوجد في الصين أكبر عدد من مدخني السجائر والوفيات المرتبطة بالتدخين في العالم؛ لكنها مشكلة ذات تطور نفسي غريب، فعلى عكس معظم بلدان العالم الأخرى، فإن التدخين له علاقة بجنس المدخن في الصين؛ إذ إن أكثر من 50% من الذكور البالغين مدخنون؛ لكن 2% فقط من الإناث مُدخنات. لذلك، وللقضاء على هذه المشكلة بالذات؛ سيكون من الحكمة التعامل معها من زاوية استهداف الذكور أولاً، والتركيز عليهم خلال إعداد حملات العلاج والوقاية والتوعية وغيرها من الوسائل العلاجية..
ما يجعل الرقابة على المحتوى بأنواعه، وما ينتج عنها من رقابة ذاتية من قبل وسائل الإعلام نفسها، أكثر إرباكاً، هو أن العلوم النفسية تشير إلى أن تلك الرقابة لا تعمل، فإذا كنت تريد أن تخلق فكرة أكثر قيمة لشخص ما، أو مؤثرة في حياته؛ اجعلها أقل توفراً من خلال فرض الرقابة عليها.
على سبيل المثال؛ منذ أكثر من 40 عاماً، عندما علم طلاب جامعة "نورث كارولينا" أنه سيتم حظر خطاب معارضة مساكن الطلبة المختلطة في الحرم الجامعي، أفاد علماء النفس أن الطلاب أصبحوا أكثر معارضة لفكرة السكن المشترك. من دون سماع الخطاب أبداً، أصبح الطلاب أكثر تعاطفاً مع حجته لمجرد أنه محظور.
ومن خلال الدعاوى لوقف الفيلم ومنصة "نتفليكس"؛ ازداد الإقبال على مشاهدة الفيلم ليصبح رقم 1 في قائمة الأفلام الأكثر مشاهدةً في معظم الدول العربية.
مبدأ الندرة
إن تقييد وصول الأفراد إلى أي معلومات يجعلها أكثر جاذبيةً، ويسمي عالم النفس روبرت سيالديني هذا مبدأ الندرة، فالإنسان بطبعه يريد تلك الأشياء التي يصعب الحصول عليها، على الرغم من أنه لا يوجد سبب منطقي وراء الرغبة في عنصر نادر أكثر من عنصر متوفر بكثرة.
إن الأرضية المشتركة للرقابة هي التحكم فيما يراه ويسمعه ويقرؤه المواطنون، في حين أن الدافع الأساسي هو إبقاء الجمهور جاهلاً بالمعلومات التي يمكن أن تهدد سلطة ما.
يسمح الاتصال بالإنترنت في جميع أنحاء العالم في العصر الحالي بمرور المعلومات من وإلى أي منطقة في أقل وقت ممكن، لذلك يعتمد عدد متزايد من مستخدمي الإنترنت على بعض التقنيات للحصول على مجموعة متنوعة من المعلومات عبر تخطي الحجب والوصول إلى ما يبحثون عنه.
تاريخياً؛ لم يكن الوصول إلى الأخبار بهذه السهولة، فقد كانت الصحافة في معظم أنحاء أوروبا في القرن الثامن عشر تحت زمام الرقابة الصارمة؛ والتي تناقصت تدريجياً بحلول القرن التاسع عشر بسبب الطلب العام. وأصبح من السهل اليوم الوصول لأي شيء تريده إذا كنت تمتلك جهازاً متصلاً بالإنترنت، وبما أن دور الإعلام لا يقتصر على نشر المعلومات للجمهور فقط، فمن الضروري ألا تستفيد وسائل الإعلام من بيع الأحاسيس التي لا معنى لها؛ والتي يمكن أن تُلحق الضرر ببعض الناس والطوائف والأعراق والأديان.
قد يؤدي وضع قيود على المحتوى، وإجبار وسائل الإعلام على تطبيق الرقابة الذاتية، إلى حجب هذا المحتوى؛ لكن هذا الغطاء يبقى مؤقتاً، وستتم إزاحته عاجلاً أم آجلاً. كلما اشتد إحكام الغطاء، زادت فرصة البحث عن تلك المعلومات المخفية.
إن التطور الحاصل في التكنولوجيا اليوم يجعل من السهل الوصول لأي معلومة حتى رغم حجبها، فلم تعد هذه الطريقة مناسبة لتطورات العصر الحديث؛ لكن من المهم أن نطّلع على ما يحدث حولنا في العالم، ونسأل أنفسنا عن موقفنا تجاه كل شيء نراه ونتفاعل معه، فكل تفاعل يحدث يكون جزءاً من شخصياتنا، ويطور تفكيرنا، ويجعلنا أكثر تفهماً للاختلافات.
وبدلاً عن الحديث في كل مرة عن إغلاق أبواب المعرفة ومصادرها؛ علينا أن ندرك أن زمن المنع والرقابة قد انتهى في ظل التكنولوجيا الحديثة. علينا أن نلتفت لتحصين الإنسان بالوعي بدلاً عن ممارسة الدور الأبوي التقليدي.