ملخص: كان أبو بكر الرازي رائداً في مجال الصحة النفسية واعتمد التعاطف مع المرضى، وسوف يعرض هذا المقال أبرز إسهامات الرازي وعلاجاته في الطب والعلاج النفسي.
أسهم الطبيب الرائد من القرن التاسع الميلادي، أبو بكر الرازي في وضع حجر الأساس في مجالَيّ الطب والطب النفسي، فقد أدّت أعماله المبتكرة في بغداد إلى إنشاء أجنحة مخصّصة للأمراض النفسية في المستشفيات وتطوير أساليب العلاج النفسي القائمة على التعاطف والتواصل الرحيم مع المرضى. وكمدافع عن رعاية المرضى؛ أكّد الرازي أهمية الأخذ بالمعايير الأخلاقية والتواصل اللطيف والعلاقة بين الصحة النفسية والبدنية.
مَن هو أبو بكر الرازي؟
أبو بكر محمد بن زكريا الرازي المعروف باسم الرازي (Al-Razi)، هو أحد الأطباء الاستثنائيين في القرن التاسع الميلادي، حين كانت بغداد في ذروة قوّتها السياسية، وكانت مركزاً رائداً للتعلّم والطب. إذ ترجم الأطباء المسلمون آنذاك أعمالاً يونانية مهمة؛ بما فيها كتاب "ماتيريا ميديكا" (Materia Medica)، الذي وضع الأساس لعلم الصيدلة العربي.
كان الرازي متعدّد المواهب، وكتب أكثر من 200 عمل في موضوعات مختلفة، فكان "كتاب الحاوي في الطب" (The Comprehensive Book of medicine) أهم أعماله الطبية، وتُرجم لاحقاً إلى اللاتينية وأثّر في الممارسة الطبية الأوروبية. تناول هذا العمل المكثف المكوّن من 23 مجلداً أجزاء معينة من الجسم وأمراضاً، وشمل تاريخ حالات من الممارسة السريرية للرازي.
كان لدى الرازي نهج حذر في علاج تعاطي المخدرات، وشدّد على أهمية الحالة العقلية للمريض في رحلة شفائه، ونادراً ما أوصى بالعلاجات المركبة، وقد كان معروفاً باختبار صحّة الادعاءات العلاجية في الممارسة العملية.
ما يزال بعض علاجاته؛ مثل استخدام "الكولشيكوم" (Colchicum) لعلاج مرض النقرس (Gout)، قيد الاستخدام حتى اليوم. وعلى الرغم من أن بعض أساليبه قد يبدو قديماً، فإن تفاني الرازي في تحسين العلاجات من خلال المقارنة والتحقّق الشخصي يعكس أهمية الطب القائم على الأدلة.
اقرأ أيضاً: التراحم قيمة إنسانية سامية: تعرف إلى كيفية تعزيزها
أول عنبر للطب النفسي
لقد عُرف الرازي بإسهاماته الكبيرة في الطب والطب النفسي، ورفض التفريق بين العقل والجسم، وقد اعتبر الصحة النفسية واحترام الذات من العوامل الحاسمة لرفاهية الفرد العامة. كان رائداً في استخدام العلاج النفسي وأنشأ أجنحة للطب النفسي في المستشفيات، وقام بعلاج الاضطرابات النفسية بوصفها حالات طبية.
واستخدم علاجات مختلفة مثل النظام الغذائي، والأدوية، والعلاج الوظيفي، والعلاج بالروائح، والحمامات، والعلاج بالموسيقا؛ كما كان يؤمن بالتواصل الرحيم مع المرضى باستخدام التشجيع والأمل لتسهيل الشفاء. يُعتبر الرازي مصدر إلهامٍ للممارسين في الطب، فهو يؤكّد أهمية التعاطف والتفهّم في رعاية المرضى.
الرعاية النفسية اللاحقة
ناقش الرازي في عمله "الطب الروحاني"، الصحة النفسية والمعايير الأخلاقية التي يجب على الأطباء اتباعها، مؤكداً آداب معاملة الطبيب للمريض والعلاج اللطيف لتخفيف قلق المرضى.
وكان الرازي من أوائل من صنفّوا الاضطرابات النفسية؛ حيث قسّمها إلى الفئتين الرئيستَين التاليتَين:
- التصنيف الأوّل: بناءً على ضعف التفكير والإدراك؛ أيّ الاضطرابات النفسية التي تتّسم بالآتي:
- ضعف الإدراك مع التفكير السليم.
- ضعف التفكير مع الإدراك الصحي.
- الضعف المتزامن في الإدراك والتفكير.
- التصنيف الثاني: بناءً على استمرار أعراض الاضطراب النفسي كالتالي:
- الأعراض الدائمة: تحدث بسبب تلفٍ في الدماغ، وظهورها لا يكون مفاجئاً؛ حيث تميّزها مجموعة متنوّعة من الأعراض الأساسية والثانوية.
- الأعراض غير الدائمة: إذ تظهر كنوع من المضاعفات لمرض آخر مثل التهاب السحايا أو الالتهاب الرئوي والحمى الشديدة والجفاف؛ حيث تكون مصحوبة بأعراض اضطراب نفسي.
ووصل تميّز الرازي في العلاج النفسي إلى حدّ أنّه كان يقدّم مبلغاً صغيراً من المال للمرضى عند خروجهم من المستشفى لتلبية الاحتياجات العاجلة، فكان ذلك أول توثيق لاعتماد الرعاية النفسية والاجتماعية اللاحقة للمرضى (Psychiatric Aftercare)، واعتماد مقاربة إنسانية متعاطفة مع المرضى.
اقرأ أيضاً: ماذا تعرف عن الطب النفسي الجسدي؟
وأخيراً، كان أبو بكر الرازي من أركان العصر الذهبي للإسلام، وما يزال صدى إسهاماته في الطب والطب النفسي يتردّد إلى اليوم. لقد تركت أعماله الرائدة في إنشاء أجنحة الطب النفسي داخل المستشفيات، وتطوير نهوج مبتكرة في العلاج النفسي، والدعوة إلى رعاية المرضى الرحيمة، علامة لا تمحى في تاريخ الطب؛ إذ يُعتبر إرث الرازي بمثابة تذكيرٍ دائم عبر الأجيال بأهمية علاج المرضى بالتعاطف والتفهّم.