كيف تتشابه لعبة الكرة الحديدية مع الممارسات التأملية؟

3 دقائق
لعبة الكرة الحديدية

على الرغم من نمطها غير العصري تساعد لعبة الكرة الحديدية (أو البيتانك) على الاسترخاء وتحفز الشغف وتمثل ممارستها فرصة للتعرف إلى الذات والآخرين بصورة أعمق، فهذه اللعبة قد تكون أقرب إلى ممارسة روحية، وهو ما سنتعرف إليه من خلال السطور التالية.

توضح لنا مانو وهي سكرتيرة في الخمسينيات من عمرها أنها عندما اضطرت إلى الانتقال من منزلها شعرت بالقلق من الابتعاد عن النادي الذي تمارس فيه لعبة الكرة الحديدية (أو البيتانك)، ومن ثم فقدان المتنفس الذي ينعش روحها مجدداً بعد يوم عمل مرهق. أما بيرنارد ذو الـ 58 عاماً وهو وسيط عقاري، فإن الذهاب كل سبت لممارسة لعبة الكرة الحديدية يساعده على تصفية ذهنه من ضغط العمل الذي يواجهه خلال الأسبوع، ويقول بيرنارد: "أطلق العنان لنفسي تماماً عندما ألعب هذه اللعبة، وأعتقد أنني سأدمنها".

ولكن قد نتساءل، ما الراحة النفسية التي قد يجلبها لنا مجرد رمي الكرات؟

لعبة الكرة الحديدية تعزز التنوع والتسامح

يرى الكثير من لاعبي الكرة الحديدية أن الأجواء الودية التي تسود بينهم هي أكثر ما يجذبهم لممارستها وتوضح مانو قائلةً: "تمثل هذه اللعبة نهجاً يمحو الاختلافات الفكرية والاجتماعية بين اللاعبين الذين تتنوع خلفياتهم تنوعاً كبيراً فالمحتالون السابقون والأطباء والمحامون والمدراء التنفيذيون جميعهم يتفاعلون معاً، ويتطلب الفريق الجيد وجود ثقة وترابط بين أعضائه وتقدير الواحد منهم للآخر وتعزيز ثقته بنفسه. إن نادي الكرة الحديدية أقرب إلى المسرح منه إلى الملعب الرياضي؛ حيث للإيماءات والكلمات المتبادلة بين أعضاء الفريق دور مهم في اللعبة.

وكما هو الحال على خشبة المسرح حيث يتحاور الممثلون الذين يقدمون صورةً عن عالم البشر الأوسع فإننا نرى مثل هذا التنوع هنا فترى شخصية المتذمر وبذيء اللسان واللطيف وغيرها. و يرى الصحفي والروائي والكاتب إيفان أودوارد الذي يحب لعبة الكرة الحديدية حباً شديداً، أن مهارات الكلام لا تقل أهمية عن مهارة التوجيه والتصويب في اللعبة وهذا أفضل ما فيها لأنها بذلك تتجاوز فكرة أنها مجرد لعبة لتصبح ممارسةً ذات بعد إنساني.

توضح صوفي ذات الـ 44 عاماً أن الحضور إلى نادي الكرة الحديدية جعل منها إنسانةً أكثر تسامحاً مع الآخرين وتقول: "على عكس سلوكي السابق المتمثل في صد الآخرين وشعوري بأنه ليس لدي ما أقوله لهم، فقد أصبحت أتعامل معهم بتسامح واحترام أكبر، وهذا ليس سهلاً دائماً لأن هذه اللعبة تجذب أيضاً الأشخاص مفتولي العضلات الذين يهينون الآخرين ويتنمرون عليهم".

تقنية من تقنيات تطوير الذات

يهدف جميع اللاعبين نساء ورجالاً، سواء كانوا مفتولي العضلات أو لا إلى تحقيق الفوز وتعد كل مباراة معركة في حد ذاتها تتطلب استخدام استراتيجيات وتكتيكات معينة. وتتمحور اللعبة حول رمي الكرات الحديدية إلى أقرب مسافة ممكنة من الكرة الخشبية الصغيرة (جاك) وإخراج كرات الخصم من الدائرة.

تقول كارلا ذات الـ 32 عاماً وهي معلمة، إن الهدف هو اللعب بطريقة جيدة وهزيمة الخصم، لأن الفريق الخاسر سيتكفل بأجور الجولة وهي عقوبة الخسارة، بينما تضحك صوفي قائلةً إن الخسارة عقوبة كافية في حد ذاتها.

على الرغم من أن اللعبة تحاكي في بعض نواحيها مظاهر الحروب القديمة، فإن اللاعبين يستخدمون خلالها تقنيات التنمية الشخصية أيضاً مثل التخيل والتأمل والاسترخاء. تسعى ساشا إلى ممارسة لعبة الكرة الحديدية كفن من الفنون، وتدعو اللاعبين على مدونتها إلى تنمية مهارة الحدس لديهم وتقول: "يأتي الحدس في هذه اللعبة كومضة تساعدنا على معرفة ما إذا كان يجب علينا تصويب الكرة أو قذفها في هذه اللحظة وكأنها تتحدث إلينا".

لعبة تساعد على تصفية الذهن

يُجمع كل اللاعبين على أن التركيز هو أساس النجاح في هذه اللعبة، لذا عليك التفكير في الهدف فقط وأخذ الوقت الكافي قبل التسديد، ونبذ الأفكار السلبية مثل الخوف من نظرة الجمهور إليك في حال سددت رمية سيئة، ثم التنفس بعمق ورمي الكرة. تقول صوفي: "كنت في السابق أركز على عملي والمسائل المهمة فقط، وقد ساعدتني لعبة الكرة الحديدية على تطوير تركيزي ليشمل الكثير من المواضيع في الحياة اليومية".

يخلق التركيز المستمر "درعاً" ذهنياً يحمينا من المشاعر المزعجة كالغيرة والغضب والخوف والشعور بالدونية، ويسمح لنا بأن نكون على اتصال بالعالم الخارجي وأنفسنا في الوقت ذاته.

لعبة الكرة الحديدية تمثل رحلة روحية حقيقية

إذاً هل يمكن للعبة الكرة الحديدية أن تمثل مساراً لرحلة روحية تجعل حياتنا أكثر صفاءً؟ وفقاً للراهب البوذي ومعلم الزن ولاعب الكرة الحديدية منذ 30 عاماً، كايزن، فإن هذه اللعبة يمكن أن تمثل أرضيةً صلبة للانطلاق في رحلة روحية. ويقول في كتابه "روح الكرة الحديدية" (L'esprit de la pétanque): "تمثل هذه اللعبة فرصة للإنسان لتطوير مهارات استثنائية وتتيح له التواصل بصورة أفضل مع نفسه والعالم من حوله".

يترتب على لاعبي الكرة الحديدية ورهبان الزن الواجبات ذاتها وهي الانتباه وقوة البصيرة والتركيز الذهني والتنفس بطريقة صحيحة وخلق حالة من التناغم بين النفس والجسد. يؤدي التنفس العميق والهادئ إلى تحفيز الجهاز العصبي اللاإرادي، وفي أثناء الزفير يتماسك الجسد بقوة وتسترخي الكتفان، وفي النهاية تولد عملية الزفير السليمة شعوراً بالراحة الداخلية، وهي حالة مشتركة بين الممارسات الروحية والعلاجية ولعبة الكرة الحديدية. تتمحور جميع هذه الممارسات حول تذكير المرء بأن خصمه الحقيقي هو نفسه وليس الآخر، وبتعبير أدق نحن نتحدث عن التفكير الذي يدفعنا إلى اجترار إخفاقاتنا والنظر إلى الآخرين بحسد لأننا نظن أنهم أفضل حالاً منا، والشعور بالغضب عندما نفشل في تحقيق النتيجة المتوقعة،

ومن ثم فإن النصر الحقيقي في لعبة الكرة الحديدية كما في الحياة، هو ذلك الذي يمكننا من التحكم في ذواتنا.