كيف نكتشف حقيقة مَن نكون؟

3 دقائق
التناغم مع الذات
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: إيناس غانم)

جميعنا يتطلع إلى أن يصير النسخة الأصلية من نفسه، غير أن تحقيق التناغم مع الذات لا يتأتى إلا باجتياز طريق طويلة محفوفة بالأسئلة والعراقيل والأوهام، تتجلّى أولى متطلباتها في تقبّل سمات وخصائص جئنا بها جميعاً إلى هذا العالم كجنسنا وأسرنا واللاوعي الخاص بنا، كي نتمكن في النهاية إلى قطف ثمار التناغم مع أعماق الذات. لكن ما الهدف من هذه الرحلة الداخلية؟ أن تملك زمام حياتك بين يديك وتعيشها بوعي كامل عوضاً عن انسياقك خلفها بلا إرادة.
تنامت مؤخراً الدعوات إلى التناغم مع الذات واكتشافها أكثر من أي وقتٍ مضى، ونجد ضمن هذه الموجة "الجرأة على أن تكون نفسك" (Le Courage d’être soi) لجاك سالومي (Jacques Salomé) و"اعتدّ بنفسك" (L’Estime de soi) لكريستوف أندريه (Christophe André) واللذان يدخلان ضمن لائحة الكتب الأكثر مبيعاً في مجال التنمية الذاتية. فلم يسبق لسؤال: "من أكون حقاً؟" أن طُرح من قبل بهذا الإلحاح والكثافة.

وإذا كانت الهوية الشخصية تقع اليوم في صُلب الاهتمامات الوجودية المعاصرة، فلأن المرء لا يصيرُ ذاته بشكل بديهي بل نتيجة عملٍ واشتغالٍ داخلي. على عكس الأجيال السابقة التي كان يتولى الإرث العائلي والديني والاجتماعي مسألة تنظيمها، فإننا اليوم نملك القدرة على رسمِ مصائرنا بحريةٍ أكبر؛ إذ صار بوسعنا اختيار أي وسط مهني أو اجتماعي يلائمنا لنتطور فيه، حتى لو كان بعيداً عن ذاك الذي انحدر منه ذوونا. لكن أمام هذه الحرية، وهذا البحر الممتد من الاختيارات الممكنة، فإن الأنا تجد نفسها متذبذبةً غير قادرة على الحسم. "ما الجزء الذي يدخل في تكويني وهو حقاً أنا؟ مَن يقوم باختيار ما أنا عليه؟ هل هذه القيم التي أعتنق تخصّني بالفعل؟ هل قراري في استبعاد كل ما لا يناسبني يقربني مني أم يفعل العكس ويبعدني عن نفسي؟".

التصالح مع الموروث

يطلق عالم النفس ومؤلف كتاب "تعبت من أن تكون نفسك" (Tired of Being Oneself)، آلين إهرنبرغ (Alain Ehrenberg) على التساؤلات السابقة اسم "دينامية التحرر"، فوفقاً له: "صرنا اليوم نطالب الناس بالطاعة أكثر من المبادرة، والانصياع للمحظورات أكثر من أن يكونوا أنفسهم".

في المقابل فإن رحلة إيجاد الذات تبدأ بتصالح المرء مع موروثه الخاص، فنحن نعرف منذ فرويد أن الأنا ليست بجزيرة معزولة عن كل تأثير خارجي، ولا هي نواة فرَدَانية المرء؛ بل تُبنى داخل مروية عائلية في فترة زمنية محددة، من طرف اللاوعي. ولهذا فإن الحل الذي يقدمه التحليل النفسي أمام معاناة الشخص وبحثه عن قصته الخاصة ليفهم عقد هذه المعاناة هو محاولة فك هذه العقدة. فور أن يواجه الشخص قصته الشخصية وماضيه سيتمكن من قول "أنا" ملء فمه.

أنا أريد إذاً أنا موجود

هل يمكن أن نكون ذواتنا دون غربلة ما يناسبنا عن غيره؟ دون هذا العمل الجاد والدؤوب في الجرد الذي يمتد بامتداد وجودنا، هل يمكن أن نصل إلى كُنه من نكون؟ هل التربية التي حصلت عليها تناسب أطفالي؟ هل أنا سعيد في زواجي؟ هل يناسبني نمط الحياة هذا؟ فما يُكوّن فرادتنا هو القيم التي نحتفظ بها وتلك التي نرفضها، بالإضافة إلى مجموعة الاختيارات التي نقوم بها على مدار حياتنا.

حسب هذا المنظور، فأن تكون ذاتك هي عملية تمرّ أولاً باختيار واعٍ لما نراه جيداً لنا ورفض ما يبعدنا عن أصلنا أو ببساطة ما يسبب لنا أي نوعٍ من المعاناة. وعلى هذا النحو يُعد رفاهنا أو ضيقنا المؤشر الرئيس إلى نوع العلاقة التي تربطنا بأنفسنا، أما تجاهل الرغبة الشخصية التي تعدُّها مدرسة التحليل النفسي تعبيراً عن الأنا فلن يمر دون آثار وخيمة؛ إذ "تكمنُ ذاتك حيث تتسق مع رغبتك" لو صحّ لنا القول.

أنا والآخرون

إن العلاقة التي نبنيها مع الآخرين منوطة في الأساس بعلاقتنا الخاصة بذواتنا. فالأنا المنتفخة لا تختلف في شيء عن الأنا المهزوزة؛ كلتاهما تمظهر لجهل عميق بالذات والسبب الأول في جذب علاقات مؤذية ومزيفة مع الآخر. في المقابل يبقى توطيد علاقة صحية وواعية بالذات الضمان الأقوى على بناء علاقات إنسانية مريحة وأصيلة. كلما سبرنا أغوار ذاتنا وتعرفنا عليها أكثر، صرنا أقلّ ميلاً إلى جعل الآخرين يدفعون ثمن إحباطاتنا وشكوكنا. غير أن هذه الطريق بدورها ليست مفروشة بالورود، فوضع الذات محلّ قداسة يجعل المرء يحيد عن طريقه نحو ذاته الحقّة.

ولهذا دعت الروحانيات منذ قديم الأول إلى ضرورة مجاهدة الأنا الصغرى. وبسبب كل ما سبق؛ صارت تضعك رغبتك في أن تكون ذاتك اليوم أمام تحدٍّ مزدوج يكمن في بناء فرادتكَ دون أن تقع في فخ الأنانية (التمركز حول الذات). وهكذا، بين تقديس الأنا وإهمال النفس، تبقى الطريق المؤدية إلى ذاتك شاقة ووعِرة، غير أن إيجادها يبقى أحد الشروط المهم توفرها كي لا تفوتك فرصة عيش الحياة التي وُجِدت لأجلك ووُجدتَ لأجلها.