خلال بحثنا عن السعادة، غالباًَ ما يقودنا السعي وراءها إلى البحث عن حلول سريعة وملذات مؤقتة، سواء كان الأمر يتعلق بإثارة شراء مقتنيات جديدة، أو الفرح العابر الذي توفره الإعجابات على وسائل التواصل الاجتماعي، أو اللذة المؤقتة للأطعمة الفاخرة، فإن لحظات السعادة هذه غالبًا ما تكون قصيرة الأمد، وتتركنا في توق إلى المزيد. لكن ماذا لو كانت هناك طريقة لتنمية شعور أعمق وأكثر استقراراً بالسعادة لا يعتمد على عوامل خارجية؟ في الواقع، يمكنك من خلال تحويل تركيزك من الملذات المؤقتة إلى ما هو أكثر معنى وإشباعاً، الوصول إلى سعادة حقيقية تدوم خلال تقلبات الحياة. إليك في هذا المقال استراتيجيات عملية تؤسس سعادتك المستقرة بعيداً عن المتع المؤقتة.
محتويات المقال
1. افهم الفرق بين المتعة والسعادة
الخطوة الأولى في تأسيس سعادة مستقرة هي فهم الفرق بين المتعة والسعادة؛ فالمتعة شعور مؤقت بالاستمتاع أو الرضا العاطفي والجسدي، وغالباً ما تعتمد على الحواس الخمس، وتكون مُستمدة من مصادر خارجية مثل مشاهدة فيلم جديد، أو شرب فنجان من القهوة الساخنة أمام الموقد في شتاء بارد. ومع ذلك، مهما كانت المتعة عميقة، فإنها عادة ما تكون قصيرة الأمد؛ إذ سرعان ما تنتهي نتيجة الانتباه إلى شيء آخر أو انتهاء المحفّز، فالذهن غير مدرّب على الهدوء؛ وهذا يعني أن الأفكار والرغبات والشكوك والهموم والمخاوف والتوقعات جميعها تطفو من جديد لتطغى على الهدوء الذي شعرت به قبل لحظة.
من ناحية أخرى، السعادة هي إحساس داخلي أعمق وأكثر ديمومة من الهدوء والسلام الداخلي، فهي تنبع من الداخل، من خلال تدريب العقل على الهدوء وتحريره من التفكير المتواصل، والتنقل بين الأفكار. ويصف استشاري طب الأسرة والعلاج النفسي، خالد الجابر، المتع المؤقتة بـ "سعادة الأدرينالين"؛ لأنها مرتبطة بمقدار ما يمتلكه الفرد من مقتنيات. في المقابل، ربط الجابر السعادة الدائمة بالسكينة والحياة المطمئنة البعيدة عن التكلّف.
اقرأ أيضاً: كيف نصل إلى السعادة؟
2. مارس الامتنان
الامتنان أداة قوية لتعزيز السعادة المستقرة. عندما تأخذ الوقت الكافي لتقدير الأشياء الجيدة في حياتك، فإنك تحول تركيزك بعيداً عن ما تفتقر إليه ونحو ما لديك؛ ما من شأنه أن يمنحك شعوراً بالرضا عن حياتك. لذا حاول الاحتفاظ بمذكرات شخصية تدون فيها يومياً 3 أشياء تشعر بالامتنان لها. بمرور الوقت، يمكن أن تساعدك هذه الممارسة على تطوير نظرة أكثر إيجابية للحياة، وزيادة احترامك لذاتك، وجعلك أكثر تفاؤلاً.
توضح مختصة العلاج الزوجي والعائلي، إيمي كيلر (Amy Keller)، إن الشعور بالامتنان ينشط الناقلات العصبية المرتبطة بالسعادة؛ مثل الدوبامين، والناقلات التي تنظم حالاتنا المزاجية مثل السيروتونين، علاوة على أنه يدفع المخ إلى إفراز هرمون الأوكسيتوسين الذي يحفّز المشاعر الإيجابية مثل الثقة والكرم؛ ما يعزز الشعور بالترابط.
اقرأ أيضاً: ما أهمية الشعور بالامتنان في حياتنا؟
3. احرص على بناء علاقات قوية
يتمتع الأشخاص الذين يتلقون الدعم الاجتماعي من الأسرة والأصدقاء والمجتمع بسعادة أكثر، ومعاناة أقل من المشكلات الصحية. علاوة على ذلك، فإن التواصل مع الآخرين يحارب القلق عبر تقليل إطلاق هرمونات التوتر. لذا استثمر الوقت والجهد في بناء علاقات ذات معنى والحفاظ عليها مع العائلة والأصدقاء ومجتمعك. يمكن أن توفر هذه الروابط الدعم والرفقة والشعور بالانتماء، والسلام الداخلي والسعادة المستقرة.
4. حقق أهدافاً ذات معنى
إن تحديد أهداف لحياتك والعمل على تحقيقها يمكن أن يمنحها معنى؛ إذ عندما يكون لديك إدراك واضح لما تصبو إلى تحقيقه، فمن المرجّح أن تشعر بالتحفيز والثقة والرضا. ومع ذلك، قد لا تكون الأهداف جميعها قادرة على تحقيق السعادة؛ لذا ينبغي للهدف:
- أن ينبع من رغبة داخلية، وليس تحقيقاً لمعايير محددة مثل أن تصبح غنيّاً أو تبدو جميلاً.
- أن يعبّر عن شيء ترغب به ويعكس قيمك الذاتية.
- أن يمنحك التقدم نحو الهدف شعوراً بالإنجاز.
إذاً عليك اختيار أهداف تتوافق مع شغفك، ثم تقسيمها إلى خطوات صغيرة تُمكن إدارتها، والاحتفال بتقدمك على طول الطريق، والأهم من ذلك، ألا تخشى تعديلها حسب الحاجة.
اقرأ أيضاً: تحرّك نحو تحقيق الهدف
5. جرّب تمارين اليقظة الذهنية
تعني اليقظة الذهنية ممارسة وجودك الآن والمشاركة الكاملة في اللحظة الحالية، وتتضمن التركيز في ما تشعر به في جسدك؛ مثل درجة حرارة الجسم وأنفاسك، أو في حواسك؛ أي ما تراه أو تسمعه أو تشمّه أو تتذوقه، أو ما تفكر به. يساعدك هذا التركيز على ملاحظة المزيد من الأشياء السعيدة التي تحدث من حولك، وتقديرها، ويجعلك أكثر وعياً بالمشاعر والأحاسيس السلبية، وأكثر تقبلاً لها. بمرور الوقت، يمكن أن تساعدك اليقظة الذهنية على تطوير شعور أعمق بالسلام الداخلي والسعادة.
حاول دمج تقنيات اليقظة في روتينك اليومي؛ مثل التأمل، وتمارين التنفس العميق، أو ببساطة أخذ بضع لحظات للتوقف ومراقبة محيطك.
اقرأ أيضاً: أحلام اليقظة ممارسة ذهنية إيجابية وإليك الأسباب
6. تبنَّ عقلية النمو
عقلية النمو هي الاعتقاد أن قدراتك وذكاءك يمكن تطويرهما بالجهد والتعلم، فمن خلال تبني هذه العقلية، يمكنك التعامل مع التحديات بموقف إيجابي ورؤية النكسات بوصفها فرصاً للنمو، وقبول العيوب، وتغيير سلوكك نحو الأفضل.
يساعدك هذا المنظور على بناء المرونة والحفاظ على الشعور بالتفاؤل، حتى في الأوقات الصعبة، فتتمكن من تحقيق ذاتك على المدى الطويل والوصول إلى سعادة أعمق.
اقرأ أيضاً: 5 خطوات عملية تنقلك من عقلية الندرة إلى عقلية الوفرة
7. اعتنِ بصحتك الجسدية
الصحة والسعادة تسيران جنباً إلى جنب، فالأشخاص الذين يتمتعون بصحة أفضل لديهم نظرة أكثر إيجابية. عموماً، يعد اتباع نمط حياة صحي؛ بما فيه ممارسة الرياضة بانتظام، واتباع نظام غذائي متوازن، والحصول على قسط كافٍ من النوم، ضرورياً للحفاظ على صحتك النفسية.
على سبيل المثال،؛ تحفز الرياضة الجسم على إفراز هرمونات الإندورفينات والإنكيفالينات؛ وهي الهرمونات التي تخفف الألم وتعزز الشعور بالسعادة. علاوة على ذلك، تساعد الرياضة على تحويل التركيز عن المخاوف والحديث الذاتي السلبي، وتحسن الحالة المزاجية.
وفي دراسة نشرتها دورية البحوث التطبيقية في جودة الحياة (Applied Research in Quality of Life)، تبيّن أن الأفراد الذين يتناولون نظاماً غذائياً متوازناً أقلّ عرضة إلى الإصابة باضطرابات الصحة النفسية مثل الاكتئاب والقلق مقارنة بأولئك الذين لديهم عادات غذائية سيئة.
لذا اجعل رعاية الذات أولوية، واستمع إلى احتياجات جسدك. عندما تشعر بالرضا جسدياً، فمن المرجح أن تشعر بالرضا الداخلي أيضاً.
8. ساعد الآخرين
يمكن أن تكون مساعدة الآخرين مصدراً للسعادة؛ إذ يقع مركز الإيثار في أعماق الدماغ، ويؤثر في إفراز النواقل العصبية المسؤولة عن السعادة والرضا وهي الدوبامين والسيروتونين والأوكسيتوسين؛ أي إن أيّ فعل من شأنه أن يؤثر في هذا المركز يمكنه تحسين المزاج وتعزيز الرضا؛ بما يشمل التطوع أو التبرع للجمعيات الخيرية أو ببساطة تقديم يد المساعدة لشخص محتاج. بعبارة أخرى: عندما تكون معطاءً، فإنك لا تُحدث تأثيراً إيجابياً في حيواتهم فحسب؛ بل تثري حياتك أيضاً.
9. وطد علاقتك بذاتك
اليوم، ومع توفر جهاز ذكي للكبار والصغار، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي جزءاً لا يتجزأ من حيواتنا، وتؤدي دوراً أساسياً في تكوين تصوّراتنا لذواتنا. حيث أشارت المراجعة المنشورة في دورية الشخصية والفروق الفردية (Personality and Individual Differences) إلى وجود علاقة بين استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وتدني احترام الذات بسبب وابل الصور والمعلومات التي يتعرضون إليها؛ التي تسلًط الضوء على الآخرين وجمالهم ونجاحهم وثرواتهم.
علاوة على ذلك، للمعايير والتوقعات المجتمعية التي تفرض على الفرد الظهور بمظهر معين، والتمتع بصفات محددة، وما إلى ذلك، دور في تقويض ثقة الفرد في نفسه، وميله إلى الاعتقاد أنه لا يستحق الأفضل. إنه فخ المقارنة ما نقع فيه في معظمنا، ويسبب شعورنا بالنقص وعدم الكفاية. لذا من المهم للفرد أن يعيد تعريف ذاته بأسلوب منفصل عما يمتلكه أو ما تفرضه معايير المجتمع عليه.
في سبيل تعزيز ارتباطك بنفسك بعيداً عن المكتسبات المادية، والوصول إلى الرضا والسلام الداخلي، يمكنك اتباع ما يلي:
- مارس التعاطف الذاتي، وفكّر في ذاتك مثل صديقك الذي يحتاج إلى اهتمامك وتقبلك له ودعمه. ابدأ بالإفصاح عن مشاعرك وأفكارك دون إطلاق الأحكام، وتقبل ذاتك بعيوبها وأخطائها لأن الخطأ ببساطة جزء من طبيعتنا البشرية.
- ارسم حدوداً للآخرين، بما لا يسمح لهم بالتأثير في مشاعرك وأفكارك تجاه نفسك بناء على آرائهم وأفعالهم.
- تمرّن على الفصل بين ما تملكه وقيمتك الذاتية وحاول قدر الإمكان أن تعزز صلتك بذاتك عن طريق الجلوس معها وتدوين مشاعرك باستمرار.
- مارس العناية الذاتية التي تساعدك على الاسترخاء وتمنحك السعادة والرضا؛ مثل قراءة كتابك المفضل أو التنزه في الطبيعة.
اقرأ أيضاً: "أنت لست وظيفتك": كيف تستوعب الأبعاد المختلفة لذاتك؟