من هم الطغاة الكبار طبقاً لعلماء النفس؟

ديدييه بلوكس
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

إنهم أشخاص يرفضون قواعد الحياة المجتمعية دون أن يؤنبهم ضميرهم. فمن هؤلاء الأفراد الذين لا يعيرون اهتماماً لوجود الآخر؟ هؤلاء هم من يسميهم عالم النفس الفرنسي ديدييه بلوكس “الطغاة الكبار”.
في الحقيقة لن تجد صعوبة في التعرف إليهم؛ من الشخص الذي يدوس على أصابع قدميك في الحافلة ليلقي بنفسه على مقعد شاغر دون احترام الآخرين، إلى الرجل الذي يضع يديه في علبة الفشار الخاصة بك في السينما والسائق الذي يوقف سيارته في منتصف الطريق أمام المخبز دون أن يشعر بالقلق بشأن الازدحام المروري الذي سيسبّبه.

هؤلاء هم من يسميهم عالم النفس الفرنسي ديدييه بلوكس “الطغاة الكبار”. تمحورت هذه الشخصيات حول نفسها غير مبالية حتى بالمحيطين بها وسيزداد عددها بمرور الوقت.

لطالما كان الأنانيون سيئو السمعة موجودين دائماً في المجتمع (تحدث موليير وجورج فيدو عن هذه الشخصية في رواياتهم المسرحية)، فضلاً عن أن “الأطفال القذرين” وُجدوا منذ زمن بعيد معنا. ففي روايتها “يا له من حب طفولي” (Quel amour d’enfant) تطرقت الأديبة كونتيسة دي سيجور إلى الحديث عن طفلة مدللة تُدعى جيزيل؛ وهي فتاة صغيرة تصرخ منزعجة من أي سبب كان.

لكن بالنسبة للطبيب النفسي أصبح عدد هؤلاء الاشخاص كثيراً للغاية؛ حيث يقول: “كان علي التعامل مع زيادة عدد الاستشارات من قبل الرجال والنساء الذين وقعوا ضحايا هذه الشخصيات الاستبدادية في السنوات الأخيرة؛ ولكن أيضاً استقبلت طغاة بالغين جاؤوا برفقة أزواجهم أو آبائهم”. وفي الحقيقة ما أذهله هو افتقار هؤلاء الأفراد لمشاعر التعاطف أو الرحمة. ويوضح: “يذكرني سلوكهم بسلوك بعض الجانحين الذين تعاملت معهم؛ لا وجود لشُعور النّدم أو الذنب أو تأنيب الضمير، شعارهم أنا أولاً”.

الشخصيات المتمحورة حول الذات

من جهتها لاحظت أستاذة الاقتصاد في ضواحي باريس ومؤلفة كتاب يحلل تجربتها الخاصة سيسيل إرنست ارتفاعاً في هذه الحالات المزاجية المعقدة؛ حيث تقول: “لم يتعلم المراهقون الذين كنت أدرسهم منذ 15 عاماً أن يعيروا اهتماماً لوجود الآخرين. لا يكنون أي احترام للمجتمع ولقد أصبحوا متكتلين مع بعضهم البعض ككتلة انفرادية غير قادرة على استجواب نفسها. في واقع الأمر إننا نواجه ظاهرة مقلقة حان الوقت لنكون مدركين لها جيداً، خاصة وأن بعضهم وصل الآن إلى سن الرشد”.

تتذكر هذه الأستاذة ذلك الطالب الذي كان يصرخ في وجهها بعد حصوله على درجة سيئة وكيف كان يهينها في الصف. في ذلك اليوم حين استدعته الإدارة أمام والدته، تؤكد أنه انهار مدركاً أن أستاذته لم تكن مجرد شخص يؤدي واجبه بل كانت أيضاً امرأة تكابد عناء الحياة.

تشرح عالمة النفس دومينيك بيكار التي عملت في مجال الرموز الاجتماعية لسنوات: “لا يمكننا أن نعرف بموضوعية ما إذا كانت الوقاحة تتزايد؛ لكن يمكننا أن نلاحظ أننا نشعر بها في المجتمع أكثر من ذي قبل. إذا أشرنا إلى زيادة الفظاظة في وسائل النقل العام فإن دراسة أجرتها الهيئة المستقلة للنقل في باريس نُشرت في 26 يونيو/حزيران 2012، تُظهر أن 97% من المستخدمين شهدوا أو وقعوا ضحايا لأفعال وقحة أشدها فظاظة التكلم في الهاتف المحمول بصوت عالٍ والقفز فوق البوابات الدوارة، بالإضافة إلى ركوب القطار دون السماح للركاب الآخرين بالنزول.

غرور فاق الحدود؟

كيف نفسر سلوك هؤلاء البالغين سيئي التّصرف؟ في مواجهة هؤلاء المرضى من نوع جديد تطرق ديدييه بلوكس إلى طفولتهم لأول مرة. هل كان هؤلاء الأشخاص السيئون سليطو اللسان غير محبوبين أو أُسيء فَهمهم ومُنعوا من التعبير عن أنفسهم في طفولتهم؟ مُطْلَقاً. لم ألاحظ أي خلل عاطفي بل على العكس من ذلك لقد كانوا مُحاطين بقدر عالٍ من الاحترام في محيطهم. في الواقع كل من يأتي إلى العيادة للاستشارة يتحدث عن حنينه إلى فترة الطفولة. إنها فترة يكون فيها كل شيء ممكناً؛ لحظة قدرة مطلقة. لذلك يجب أن تكون الحياة ممتعة ولا شيء غير ذلك”.

بالنسبة له من الضروري النظر إلى نقطة التحول للجيل الذي نشأ في دائرة صلابة الأنا المتعالية والسلطة الأبوية التي بحثت فيها الفيلسوفة وعالمة النفس أليس ميلر حتى منتصف الستينيات. إن أطفال الجيل من مايو/أيار 1968 وسبعينيات القرن الماضي أصبحوا بدورهم آباء رافضين لقيود التعليم التي عانوا منها ويحلمون بمنح أبنائهم ما حرموا منه؛ الحرية والتطور، وبالتالي فقد تم الإفراط في التطوير والتحفيز والتدليل وأصبحوا مركز اهتمام الأسرة.

بذور الديكتاتورية

يتابع ديدييه بلوكس: “الآباء الذين رفضوا تبني طريقة تأديبية أساسها الرفض والإحباط كانوا خائفين من ألا يحبهم أطفالهم فيما بعد؛ لكن ذلك الطفل الذي أصبح بالغاً يعاني اليوم بلا شك من الأنا المتعالية”.

ويضيف: “ينبغي ألا نعمم! لا يصبح كل الأطفال هكذا ولا يصبح كل ملوك الأطفال طغاة بالغين طالما كانوا قادرين على الاعتماد على مدرس مرن يعلّمهم معنى الرفض الذي لم يعرفوه أبداً”.

يقول الكاتب والمخرج جان لويس فورنييه عن هذا السلوك في كتابه “دعونا نرى أخطاءنا” (Mouchons nos morveux): “عندما نرفض إعطاء الطفل حلوى الفراولة تاجادا (منتج) أو دراجة بخارية، فإن الطفل سيَطلبها مستخدماً أسلحة التهديد. الكثير من هؤلاء الأطفال محنكون ويجب أن نكون حذرين منهم”.

ويضيف: “في الحقيقة بعض الآباء يرتدون سترات واقية من الرصاص في المنزل. وإذا تحدث الآباء عن الأمر بمثل هذه الدعابة فذلك لأنه هو نفسه كان طاغية أيضاً كبالغ”.

يقول جان لويس: “كنت ملكاً وأنا طفل؛ كنت أثير ازعاج والدتي في بعض الأوقات وأبتز من أجل الحصول على الأشياء التي أرغب بها. كانت سعادتي أكثر أهمية من أي شيء آخر وكان الآخرون موجودين ليجعلوني سعيداً، كما كانت والدتي تستسلم لي دائماً”.

ويوضح: “كان والدي غائباً في مراحل من حياتي لكن واصلتها كشخص بالغ مع زَوْجَتَيْ. غيرتني زوجتي الثانية وجعلتني أفهم أن الآخرين موجودون”. بالنسبة له فالملك الصغير نشأ لا محالة من نسل شخص ديكتاتور. ويشرح: “ذلك الطفل ينشأ على فكرة أن العالم في خدمته. في وقت لاحق عندما يصبح شخصاً بالغاً سوف يكسر المنزل، لذلك إذا قدمنا ​​له كل شيء وهو طفل فعندما يصبح بالغاً سوف يريد كل شيء”.

السرعة كقاعدة

إنها وجهة نظر تشاركها دومينيك بيكار. من المسلم به أن القصور التربوي له علاقة كبيرة بصنع الطغاة في المنزل لأن “غياب التعلم من شعور الإحباط أمر ضار نوعاً ما في مراحل متقدمة من العمر” لكن الآباء لا يتحملون المسؤولية الكاملة عن ذلك. يذكر عالم الاجتماع النفسي: “هناك دائماً مجموعة من التفسيرات؛ واحد منها هو بالتأكيد متعلق بالظروف الاجتماعية”.

ويوضح: “نحن في مجتمع السرعة والاستهلاك المفرط؛ السرعة هي القاعدة في الوقت الحالي. يصبح من الصعب للغاية قول كلمة “لا” للأطفال لتعليمهم انتظار حفلات عيد الميلاد. لكن ماذا تفعل كشخص بالغ؟ ينبغي معرفة أن كل شيء ليس آنياً، كما لا يكفي أن تكون قادراً وأن الإرادة لها حدود. أما بالنسبة للآخرين يكاد يكون الأمر مستحيلًا إذا لم تُحل المشكلة من مصدرها. ويصر الأخصائي على أن “المواجهة مع العالم تصبح لا تطاق”.

إنها حقيقة لا تطاق إلى درجة أن الطفل الذي أصبح بالغاً سوف يهرب منها باستمرار أو ينكرها ويلجأ أحياناً إلى الإدمان والكحول والمخدرات والألعاب وكذلك الجنس القهري أو فقدان الشهية. وفوق كل شيء يحدّد ديدييه بلوكس من خلال “تشييء الآخر يصبح أداة إشباعه ومتعته”. كما أن الملك البالغ يميز الملك الطفل الذي أصبح بالغاً بعد نزاعٍ مع الطاغية البالغ الذي يختار الاستمرار في هذا الطريق. إنه ليس ضحية بل ممثلاً.

ضرورة المقاومة

يقول عالم النفس: “هؤلاء الأفراد يتخذون خياراً وجودياً”. لقد قرروا إنكار الآخر وتجاهله وهذا يمكن أن يؤدي إلى أخطر السلوكيات، لا سيما عندما يكون هذا الآخر موجوداً أو لا يستجيب لمطالبهم أو حتى متمرداً؛ وهكذا يصبح الطاغية الجلاد”.

هكذا ترى شارلوت نفسها بعد أن تركت شريكها بعد عشرين عاماً من الزواج ولديها طفلان مع تعليق وحيد: “أشعر بالملل معك”. تماماً كما توجد عائلة بأكملها تعيش في ظل القدرة المطلقة لرجل شديد القوة، أو يرهب رئيس سريع الغضب موظفيه.

أما الذنب والشعور بالمسؤولية فلا وجود لهما بالطبع. دائماً ما يُلقى اللوم على أسباب غير مقنعة مثل “لقد استفزتني” أو “لم يحترمني”. إن انتشار هذه الأنواع من السلوكيات أمر مقلق للغاية إلى درجة أن سيسيل إرنست وديدييه بلوكس وجان لويس فورنييه -الذين لا يعرفون بعضهم البعض- يتحدثون جميعاً عن مخاطر الديمقراطية: “يجب على المدرسة مرة أخرى أن تؤدي دورها كمؤسسة تربوية لتعليم قيم الجمهورية والتضامن، وقبل كل شيء احترام الآخرين. ومع ذلك ماذا تفعل عندما يتم إدانة المؤسسة المدرسية وفقدان مصداقيتها؟ تتساءل الأستاذة التي دعت إلى توعية الجميع: “الرموز الاجتماعية لغة مشتركة. عندما تختفي أو لا يتم تعليمها ونقلها للتلميذ تسود لغة العنف. يجب علينا بالتأكيد التفكير في هذا الأمر. لقد فاتنا نقل هذه القيم”.

تضيف دومينيك بيكارد: “الأدب رمز لكن الإشارات تختلف من طبقة اجتماعية إلى أخرى ومن ثقافة إلى أخرى. كما أن الأمر متروك لكل واحد منا لرفض الوقوع في العدوانية أو مزاجية الطاغية البالغ. يقترح ديدييه بلوكس:”دعونا نسلح أنفسنا بالشجاعة والمقاومة. دعونا نقف في وجه الملوك الكبار قبل أن يصبحوا طغاة. كزوجين؛ تفاعل مع العلامات الأولى للشريك. على سبيل المثال دعونا نرفض بحزم الغضب دون سبب والمَطالب غير المتناسبة مع أفكارنا. في الشارع وفي وسائل النقل، دعونا نضع حدوداً للسلوك الفظ”.

تعترف دومينيك بيكار: “لن يكون الأمر سهلاً لأنه عليك أن تجد طريقة حازمة وجادة وغير عدوانية”. ويقول ديدييه بلوكس: “هذا واجبنا كمواطنين. واجب ضروري؛ إنه سلوك ننقله لأبنائنا حتى يتعلموا حقيقة الطغاة الكبار ولا يصبحوا مثلهم في المستقبل. وحتى لا يكون رسم جان لويس فورنييه الفكاهي موجهاً فهو يرسم سلسلة من الأطفال يعبرون عن رغباتهم في المستقبل: “أنا سأكون عالم فلك”، “أنا مستكشف”، “أنا رجل إطفاء”. ومن مكان ما يقول رجل نحيف صغير: “سأكون ديكتاتوراً!”.

المحتوى محمي !!