ما الإنتاجية السامة؟ وكيف تتجنب الوقوع في فخها؟

6 دقيقة
الإنتاجية السامة
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: إيناس غانم)
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ملخص: الإنتاجية سمة إيجابية عموماً، وتشير إلى كفاءة إنجاز المهام. ومع ذلك، عندما تصبح هاجساً إلى الدرجة التي تجعلها تؤثر سلباً في الصحة النفسية والجسدية، يُشار إليها باسم "الإنتاجية السامة". للتعرف إلى آثارها وكيفية تجنبها، تابع المقال.

متى كانت آخر مرة جلست فيها دون فعل شيء سوى السماح لأفكارك بالتجوّل بحرية وهدوء في ذهنك، بعيداً عن إشعارات هاتفك المحمول وجهاز الكمبيوتر وما إلى ذلك من مشتتات، ودون الشعور بالذنب؟ إذا كان عليك أن تُمعن التفكير مطوّلاً قبل أن تجد الإجابة عن هذا السؤال فمن المحتمل أنك تعاني الإنتاجية السامة.

ربما تفكر الآن: "ما الذي قد يكون ساماً في إنجاز الأمور؟"، فمديرك فخور بك وسعيد بما حققته من إنجازات تخدم كليكما؛ لكن إعطاء الأولوية للعمل والإنتاجية، إلى الدرجة التي تشعر فيها بالذنب تجاه الاسترخاء والاستمتاع بوقتك عوضاً عن الإنتاجية، قد يمثّل تهديداً لصحتك النفسية وحياتك الاجتماعية. حسناً، كيف يمكن أن تضر الإنتاجية بصحتك النفسية؟ وماذا تفعل لتتجنبها؟ لنتابع.

ما الإنتاجية السامة؟

قيل لنا طوال حيواتنا إن كوننا منتجين أمر جيد، وهو كذلك؛ لكن البعض بمجرّد أن يحقق هدفاً، يضع نُصب عينيه المزيد ويسعى إلى تحقيقه، فيدخل في حلقة مفرغة من العمل المتواصل.

على سبيل المثال؛ بعد أن ينال درجة البكالوريوس، تدفعه حاجة داخلية نحو السعي إلى درجة الماجستير. يتبع ذلك رسم هدف جديد وهو السعي إلى منصب في إحدى الشركات الكبرى، ثم صعود سلّم الترقيات. وخلال هذه الرحلة الطويلة، ينسى نفسه ورغباته، ويتوقف عن الاستماع إلى صوت مشاعره الداخلي، ويعاني آثاراً سلبية في صحته الجسدية والنفسية أيضاً؛ مثل الإرهاق والاكتئاب والأرق ومشكلات احترام الذات.

تسمَّى هذه الحالة بـ "الإنتاجية السامة"، ويمكن تعريفها بأنها حاجة لا تُمكن السيطرة عليها، ودافع غير صحي يوجه أفعالك نحو تحقيق الهدف، والتركيز المستمر على الإنجاز والتحصيل، بغض النظر عن الآثار الجسدية والنفسية.

قد يشعر من يعاني الإنتاجية السامة بالضغط ليكون منتجاً ومشغولاً باستمرار، وبأن ليس لديه وقت للراحة، أو يتعين عليه بذل جهد إضافي، حتى عندما لا يكون ذلك مطلوباً منه، وذلك بغض النظر عن حالته الصحية. حتى عندما يضطر إلى التوقف عن العمل، لا يمكنه إيقاف دماغه عن التفكير بـ "ما يجب أو ما يمكن فعله"، أو الاستمتاع بوقته.

وفقاُ للمعالجة النفسية، نجود حكمي؛ يمكن التعرّف إلى الإنتاجية السامة من العلامات التالية:

  • الهوس بكل دقيقة في العمل.
  • قائمة المهام التي لا تنتهي.
  • الميل إلى قول "نعم" لكل طلب.

اقرأ أيضاً: إلى كم من وقت الفراغ نحتاج يومياً حتى نشعر بالسعادة؟

4 أسباب نفسية للإنتاجية السامة

بينما يبدو أن الإنتاجية السامة تتعلق فقط بالرغبة في الإنجاز وإنتاج المزيد، فإنها قد تُخفي دوافع نفسية مثل:

  1. الاستجابة إلى صدمة في الماضي: قد تكون الإنتاجية السامة استجابة إلى صدمات الماضي؛ أي أن توجيه الطاقات والأفكار نحو تحقيق الأهداف الصغيرة والكبيرة، وفي جوانب الحياة كافة، قد يكون وسيلة لتجنب الأفكار والمشاعر المؤلمة وغير المرغوب فيها.
  2. معاناة متلازمة المحتال: يعتقد المصاب بهذه المتلازمة بأنه غير جدير بالمنصب الذي وصل إليه، أو أن النجاحات التي حققها لم تكن أكثر من ضربة حظ وليست نتيجة فعلية لجهده المبذول فيها؛ لذا غالباً ما يركّز على أخطائه وعيوبه عوضاً عن التركيز على إنجازاته، ويميل إلى العمل الزائد في محاولة لإثبات جدارته وكفاءته.
  3. عدم الأمان الداخلي: قد يكون الشك الذاتي في القدرات، والعراك مع الناقد الداخلي، هو ما يؤجج الدوافع الذاتية لبذل جهد مضاعف، من أجل تحقيق المزيد من الأهداف. برزت هذه الظاهرة خصوصاً بعد فترة الحجر الصحي في أثناء جائحة كوفيد-19؛ إذ على الرغم من الحصول على وقت فراغ أكبر بسبب العمل من المنزل خلال فترة انتشار الوباء، شعر الكثيرون أنه يتعين عليهم مضاعفة جهودهم لتقديم الأفضل. توضح المختصة النفسية، كاثرين إسكوير (Kathryn Esquer): "كان بإمكاننا استغلال أوقات فراغنا للراحة وإعادة شحن طاقاتنا واستعادة أنفسنا؛ لكن الكثير منا ملأ تلك الساعات بالمزيد من العمل كوسيلة للشعور بالقيمة والإنجاز".
  1. التخفيف المؤقت من التوتر: وفقاً لإسكوير؛ يمنحنا الإنتاج وتحقيق الأهداف دفعة مؤقتة من الدوبامين (هرمون السعادة). بالنسبة إلى أولئك الذين بواجهون الضغوط الخارجة عن سيطرتهم، فإنهم يحاولون تحويل تركيزهم عن مصدر القلق والضغط إلى بيئتهم المباشرة التي يمكنهم التحكم بها. على سبيل المثال؛ قد يجد البعض التفوق في مشروعات العمل تهدئة وعلاجاً مؤقتاً للتوتر والقلق.

اقرأ أيضاً: لماذا عليك ألا تفوت إجازتك من العمل؟

هل الإنتاجية السامة هي ذاتها إدمان العمل؟

قد يتشابه مفهوما "الإنتاجية السامة" و"إدمان العمل"؛ فكلاهما يتضمن العمل المتواصل والمستمر، دون القدرة على التوقف أو السيطرة على آثاره السلبية في الصحة والعافية والعلاقات الشخصية. لكن مفهوم "الإنتاجية السامة" يمتد إلى ما هو أبعد من إدمان العمل، ولا ينطبق على الحياة المهنية للفرد فحسب؛ بل على مجالات الحياة كافة.

في حالة إدمان العمل، يكون العمل هو ذاته الهدف؛ أما في الإنتاجية السامة، ينصبّ التركيز على تحقيق الأهداف والإنتاج المستمر؛ حيث يُنظر إلى الأنشطة كلها على أنها بحاجة إلى أن تكون مدفوعة بالهدف.

وقد تكون الإنتاجية السامة أكثر ضرراً؛ لأن أحد التحديات المرتبطة بالإنتاجية السامة هو صعوبة اكتشافها، فلا يدرك الفرد الفخ الذي وقع فيه. السبب في ذلك هو أن المجتمع غالباً ما يكافئ أولئك الذين يبدون متفوقين في مجالات متعددة من الحياة ويعجب بهم؛ ما يجعلها تبدو وكأنها سمة إيجابية، وهذا الإعجاب المجتمعي يمكن أن يخفي التأثيرات السلبية للإنتاجية السامة.

اقرأ أيضاً: كيف تحافظ على إنتاجيتك عندما تتدهور حالتك النفسية؟

كيف تؤثر الإنتاجية السامة في الصحة النفسية

في الفيلم الأميركي الشهير" الشيطان يرتدي برادا" (The Devil Wears Prada)، تجد الصحفية الطموحة، أندريا ساكس، نفسها أمام فرصة مهمة في مسيرتها المهنية؛ وهي العمل مساعدة شخصية لرئيسة تحرير مجلة ران وي (Runway magazine) المعروفة بشخصيتها المتسلّطة والمتطلبة.

تخضع آندريا إلى ضغط طلبات رئيسة التحرير؛ ما يجبرها على تغيير نمط حياتها. وقبل أن تعي ذلك، تجد أندريا نفسها من دون حياة شخصية، مع شعور دائم بالذنب يلاحقها؛ بعد أن تخلّت عن علاقاتها وأصدقائها وحتى عائلتها.

بأسلوب مماثل لما أصاب أندريا خلال الفيلم؛ يمكن أن تكون للإنتاجية السامة آثار سلبية في الصحة النفسية؛ مثل:

  • عدم الراحة: لا تسمح لك الإنتاجية السامة الاستمتاع بوقت الراحة؛ نظراً إلى عدم قدرتك على التوقف عن العمل، أو التفكير به وفيما ينبغي القيام به.
  • الشعور بالذنب: قد تبقيك بحالة تأهب مستمر؛ بحيث تشعر بالذنب عند التوقف عن العمل.
  • الإرهاق: قد يؤدي السعي المستمر إلى أن تكون منتجاً إلى الإرهاق، نتيجة السلوكيات الناتجة عنه مثل تجاهل وقت الطعام أو تأخير موعد النوم أو تجنب أوقات الراحة.
  • القلق المزمن أو الاكتئاب: تترافق الإنتاجية السامة بقلق دائم بشأن ما يجب عليك فعله، أو لأنك لا تقدم ما يكفي.
  • الاكتئاب: بسبب الانفصال عن العائلة والأصدقاء، وتجنّب الأنشطة غير المنتجة، أو حتى ممارسات الرعاية الذاتية مثل ممارسة الرياضة، فأي نشاط لا يحمل هدفاً قد يعدّ مضيعة للوقت.

اقرأ أيضاً: كيف يمكن أن يصيبك تفانيك الزائد في العمل بالاكتئاب والتوتر؟

8 نصائح للتغلب على الإنتاجية السامة

تتمحور استراتيجيات مواجهة الإنتاجية السامة جميعها حول كسر دائرتها؛ وتتضمن:

  1. ضع حدود واضحة بين العمل وحياتك الشخصية: يساعد رسم حدود واضحة للعمل على كسر دورة الإنتاجية السامة، واستعادة السيطرة على التوازن بين العمل والحياة. يمكن ذلك من خلال:
  • تحديد مواعيد بدء العمل والانتهاء منه؛ أي تقييد العمل في ساعات محددة.
  • تجنب إرسال رسائل العمل أو الرد عليها خارج ساعات العمل.
  • قطع الاتصال بالأجهزة المتعلقة بالعمل خارج ساعات العمل.
  1. مارس الرعاية الذاتية: خصص وقتاً لممارسة التمارين الرياضية أو الاسترخاء أو الاستمتاع بالهوايات كل يوم.
  2. حدد أهدافاً واقعية: للحفاظ على مستوى صحي من الإنتاجية، دون الإصابة بالإرهاق والتوتر، عليك تحديد أهداف واقعية وقابلة للتحقيق. يمكنك اتباع تقنية أهداف سمارت (SMART)؛ وهي أهداف "محددة وقابلة للقياس والتحقيق وذات صلة ومحددة زمنياً".
  3. جرب الانفصال المهني: يشير مصطلح الانفصال المهني إلى أن جوهر الفرد ينفصل عن دوره في العمل، بعبارة أخرى: إن إنتاجيتك والتزامك بتحقيق الأهداف لا يحددان قيمتك الذاتية. ولتحقيق الانفصال المهني، تدرب على التحدث إلى نفسك كما تتحدث إلى صديقك المقرب أو شخص عزيز عليك، وباستخدام اسمك. على سبيل المثال؛ قد يمكن القول: "سامر، أنت في حالة رائعة اليوم". تساعد هذه الطريقة على رؤية نفسك على نحو أكثر موضوعية.

اقرأ أيضاً: هل تزيد قوائم المهام (To do lists) قلقك؟ إليك الحل الفعّال

  1. خصص وقتاً للراحة: وقت التعافي هو عامل مهم في تعزيز صحتك نفسيتك وتجديد طاقتك. بصفة عامة، ينبغي تخصيص 3 فترات راحة:
  • فترة راحة كلية: هي فترة راحة تعادل نصف يوم كل شهر تقضيها في نشاط ممتع ومساعد على الاسترخاء؛ مثل النزهة سيراً على الأقدام أو زيارة عائلية.
  • فترة الراحة المتوسطة: تصل إلى نحو ساعتين أسبوعياً، يمكن أن تقضيها في ممارسة هوايتك؛ مثل درس موسيقا أو رسم أو ممارسة الرياضة في النادي الرياضي.
  • فترات راحة قصيرة: هي بضع دقائق وعدة مرات يومياً؛ مثل وقت التمدد أو التأمل.
  1. تعامل مع مشاعرك الأساسية: قد يساعد تحديد جذور الإنتاجية السامة والتعامل معها على إيقاف الدورة. تُمكن استشارة المختص النفسي لتحديد المشاعر السلبية التي تسهم في زيادة الإنتاجية السامة؛ مثل:
  • الخوف من الفشل.
  • معاناة متلازمة المحتال.
  • تدني احترام الذات.
  • الشعور بالذنب لعدم إنجاز ما يكفي.
  • الشعور بأن وظيفتك ليست آمنة.
  • مقارنة نفسك بالآخرين.
  • التوتر بشأن العالم الخارجي أو حياتك الشخصية.
  1. الجأ إلى التعاطف الذاتي: دوّن أفكارك، فإذا لاحظت ازدواجية المعايير حول ما تتوقعه من نفسك ومن الآخرين، فكر بالتعاطف الذاتي، بمقارنة نفسك بطريقة موضوعية وقل لنفسك: "أنا أبذل قصارى جهدي؛ تماماً مثل أي شخص آخر".
  2. سيطر على قلقك: لتقليل الحاجة الملحة إلى إنجاز المهام، وإدارة القلق، اتبع التمرين التالي:
  • كرر لنفسك "تمهّل" كل دقيقتين.
  • خذ نفساً عميقاً مدة 5 ثوانٍ، وحرره في 5 ثوان.
  • حاول التركيز على نشاط آخر.
  • كرر التمرين خلال 3-5 دقائق.