3 مفاهيم نفسية تُفسِّر هوس الناس بالرموز غير القابلة للاستبدال

4 دقائق
الرموز غير القابلة للاستبدال

لنتفق أولاً أن معظم "الرموز غير القابلة للاستبدال" (NFTs) تُعبر عن ممتلكات افتراضية ليس لها أصل أو نظير مادي يمكن الإحساس به في الواقع، ومن الممكن بكل سهولة نسخ معظمها بصورة بدائية إما بالتقاط صورة لشاشة الجهاز المحمول أو تسجيل فيديو لها.
وبغض النظر عن كيفية نشأة الفكرة وتطورها وسياقها الاقتصادي أو ارتباطها بتقنية "بلوك تشين" (Blockchain) واحتمالية وجود رموز حقيقية مشفرة لا يمكن نسخها لهذه الممتلكات. فالعادة جرت بخضوع تقييم قيمة هذه الممتلكات الافتراضية الفعلية بناءً على اتفاق بين طرفين بغرض نقل ملكيتها من طرف لآخر.

فعلى سبيل المثال؛ باع مؤسس "تويتر" جاك دورسي في العام 2020 أول تغريدة في تاريخ المنصة بنحو 2.9 مليون دولار، عندما قام بتحويل صورة ثابتة لتغريدته ذات الخمس كلمات إلى ملف رقمي مشفر؛ إلا أنها لم تكمل عامها الأول حتى فقدت ما يَقرُب من 99% من قيمتها!

وفي ظل ما نراه مؤخراً من الانتشار الضخم والمبالغ المليونية التي يتم صرفها على هذه المقتنيات الافتراضية؛ وجب علينا أن نسأل عن كيفية جعل شخص ما يشتري شيئاً ليس له أصل أو قيمة مادية.

لذا سنتطرّق لثلاثة مفاهيم نفسية قد ترسم خطوطاً متقاطعة بين علم التسويق وعلم النفس وتساهم في تفسير الجانب السلوكي النفسي لهذا الانفجار الكبير للرموز غير القابلة للاستبدال وتفشّي الهوس بها بين الصغار والكبار.

الندرة!

قد تفسر الندرة الواقعية أو حتى وهم الندرة المصطنع الذي يخلقه حولها وحول من يتعامل بها، محركاً لبعض السلوكيات الشرائية الغريبة.

فبحسب منشور الجمعية الأميركية لعلم النفس (APA)؛ وجد العلماء أن للندرة تأثيراً ملحوظاً في قرارات وسلوكيات الجميع. وبالمثل؛ تُعد الندرة واحدة من أكثر المبادئ الاقتصادية والنفسية المعروفة.

وفي فبراير/شباط 2018، نشر باحثان ورقة علمية لصالح "موسوعة أبحاث أكسفورد لعلم النفس" (Oxford Research Encyclopedia of Psychology)، ووجدوا أن الاستجابات النفسية للندرة تساهم في انحراف الأحكام والقرارات البشرية عن تنبؤات النماذج الاقتصادية العقلانية.

فعلى سبيل المثال يظهر أثر الندرة عندما يصاحب انخفاض العرض زيادةً في الطلب؛ حيث يميل الأفراد إلى الرغبة في تملّك الموارد التي يصعب الحصول عليها أو التي تبدو شحيحة.

وبصفة مشابهة؛ تتضمن الرموز غير القابلة للاستبدال ندرة مصطنعة من خلال صنع عدد محدود من الرموز المعينة باستخدام برنامج كمبيوتر يعمل على تكرار عنصر معيّن مع تعديل سمات محددة لإنشاء مقتنيات مختلفة، حتى وإن كان ذلك الاختلاف تافهاً وطفيفاً.

ومن الممكن الإشارة إلى أن هذه الرموز غير القابلة للاستبدال لا تخضع لمعايير وضوابط توفُّر أو ندرة المواد الخام أو تكاليف الإنتاج أو التوزيع، بَيدَ أن مُنتِجِيها يحدون بأسلوب مصطنع من إمداداتها.

وكمثال لما سبق؛ بيعت بعض منتجات مجموعة شركة "نايكي" (Nike) الرقمية والمسماة "كريبتوكيكس" (CryptoKicks) بنحو ما يزيد عن 100 ألف دولار أميركي على منصة "أوبن سي" (OpenSea) لتداول ملكية الرموز غير القابلة للاستبدال.

وفي الواقع؛ طبيعتها المحدودة والإحساس الوهمي الذي تنقله لصاحبها بالتفرّد والندرة والحصرية قد يجعلها جذابة بصورة جزئية على الرغم من أنها منطقياً فقاعة مصطنعة بالكامل، وقد تنفجر  في وجه مالكها أو من يتعامل بها وتفقد قيمتها لأسباب عديدة لا يمكن حصرها.

الدليل الاجتماعي

يصف "الدليل الاجتماعي" أحد المفاهيم التسويقية التي تتمحور حول ثقتنا بتميّز منتج معيّن أو خدمة مروّجة على أن مُستَحقَّة الشراء نتيجة تجارب ناجحة لعملاء سابقين.

فيخبرنا "مايكل برايس" (Michael Price) في منشوره عن قوى الإقناع والذي كتبه لصالح الجمعية الأميركية لعلم النفس (APA) أن الدليل الاجتماعي واحد من أهم ستة أسلحة للإقناع.

والملاحظ أن الدليل الاجتماعي بوجه عام يرتكز على كيفية إدراكنا لأنفسنا أو للآخرين؛ حيث ننظر إلى أقراننا لاتخاذ قرارات وسلوكيات شراء ما هو مقبول ومرغوب فيه في لحظة من الزمن، ومن ذلك النزعة العارمة لاقتناء الرموز غير القابلة للاستبدال والهوس بتملّكها.

وفي السياق نفسه؛ من يرى ضخامة الولع والهوس بما يفعله المؤثرون بلا استثناء في مختلف المجالات من عمليات شراء ضخمة ومليونية لبعض الرموز غير القابلة للاستبدال، يستطيع أن يفهم ارتفاع احتمالية تأثر قرارات وسلوكيات مجتمعاتنا المعاصرة بظاهرة الدليل الاجتماعي.

وبأسلوب توضيحي؛ قد تُفسَّر بعض هذه السلوكيات على أنها تجسيد واقعي لسياسة القطيع التي تتضمن اتخاذ قرارات سريعة تبدو سهلة بناءً على انطباع أن هناك عدد كبير من الناس سبق وقاموا بذلك، وقد يصبح ذلك واقعاً سهل الحدوث إن كان هؤلاء الأفراد من فئة المؤثرين!

الإشارات الاجتماعية المرسلة

ترتبط الإشارات (Signaling) الاجتماعية المرسلة بالدليل الاجتماعي، فعندما يستميت البعض لتملّك الأشياء نادرة الكمية وشحيحة العدد، فذلك قد يُظهر حبهم للتفرّد واستعراض حالتهم الاقتصادية والاجتماعية.

وقد يبدو أن امتلاك شخص صورة رقمية أو فيديو أو تغريدة ليس له أصل أو قيمة مادية أفضل طريقة لإثبات أنه إنسان ثري ولديه ذكاء تقني ومتبنٍ مبكّر لكل جديد.

فعلى سبيل المثال؛ شاهدنا على مستوى العالم العديد من الأشخاص يشترون الرموز غير القابلة للاستبدال، ثم يشاركونها على وسائل التواصل الاجتماعي بغرض استعراض حالتهم وتفرّدهم ومن خلالها يرسلون إشارات اجتماعية قوية أنهم ينتمون لفئة ليس لها مثيل.

وبحسب مقالة ماثيو هيلون (Matthew Hellon)؛ كبير المدراء التنفيذيين للأبحاث في مجموعة "نورث ستار وشركائهم للأبحاث" (Northstar Research Partners)، في مقالته تُعد الإشارات الاجتماعية المرسلة الدافع الأساسي وراء العديد من عمليات تملّك السلع الكمالية.

وتتفق مع ذلك ورقة علمية منشورة في صيف 2010 لصالح "مجلة التسويق" (Journal of Marketing) بالتعاون بين باحِثَين من جامعة جنوب كاليفورنيا وجامعة كاليفورنيا.

فقد وجد العلماء أن الأثرياء الذين يسعون لإظهار امتلاكهم لمكانة عالية وتفرّدهم بمكانة مرتفعة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي غالباً ما يستخدمون الإشارات الاجتماعية المرسلة من خلال تملّك السلع الكمالية باهضة الثمن، كما نرى الآن مع الرموز غير القابلة للاستبدال.

ختاماً؛ لا بد وأن تنحسر هذه الموجة التي تكبر كل يوم كما لو أنها كرة من الثلج، فمع الوعود الضخمة التي يتناقلها الكثير من الناس بما يحمله مستقبل هذه الممتلكات الافتراضية؛ يبقى ذلك المستقبل المجهول رهينة التقييم الفعلي لقيم هذه المقتنيات الرقمية.

وما يجعلنا أقل تفاؤلاً بالرموز غير القابلة للاستبدال، أن قيمة ما تملكه منها متغيرة بصورة دائمة كالندرة المصطنعة التي قد تنتهي والدليل الاجتماعي والإشارات الاجتماعية المتغيرة بصفة مستمرة.

وفوق كل ذلك؛ من المهم ألا نغفل عن أهمية الاتفاق بين أطراف العملية التبادلية على ما تحمله من تلك الأشياء من قيمة فعلية، ولنا في تغريدة جاك دورسي درس معبّر لا يجب أن يُنسى بسهولة عمّا يمكن أن نخسره!