ما الذي تعنيه رغبتك في الهروب من الجميع؟ وكيف تتجاوزها؟

6 دقيقة
الرغبة في الاختفاء
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: إيناس غانم)

"أتمنى لو أختفي"؛ سمعت هذه العبارة عدة مرات خلال الفترة السابقة، وقلتها لنفسي مرة أو مرتين. فما السبب الذي يدفعنا إلى تمني الاختفاء هكذا ببساطة؟ في الواقع، لا يمكننا أن ننكر أن الاختفاء قد يبدو حلاً سهلاً وسريعاً للتعامل مع الصعوبات والظلم والإرهاق؛ لكن هل هو حل فعال؟ وإذا هربت واختفيت اليوم مبتعداً عن كل ما يؤلمك في هذه الحياة، فهل ستجد الراحة؟ سنرى في هذا المقال لماذا نتمنى أن نختفي في بعض الأحيان، وكيف يمكننا التعامل مع هذا الشعور.

اقرأ أيضاً: لماذا قد تقول أنك ميت نفسياً؟ وكيف تُنعش حياتك؟

الهروب: آلية للدفاع عن النفس ضد الخطر

في البداية، لنوضح أمراً، إن هذه الاستجابة المتمثلة بالهروب أو الفرّ متأصلة في طبيعتنا البشرية وجزء من غريزة البقاء الراسخة فينا؛ فعندما نواجه تهديداً أو موقفاً مرهقاً، ينشِّط الدماغ الجهاز العصبي الودي لتهيئة الجسم من أجل التصرف الفوري وحماية نفسه، هذا ما يُعرف باستجابة "الكرّ أو الفرّ"، التي تشمل أيضاً ردود فعل أقل شيوعاً مثل الجمود أو التملق. وفيما يلي تفصيل لكل منها:

  • الكرّ: أو القتال، حيث تتفعل هذه الاستجابة عندما يشعر الفرد بأنه يمتلك القوة أو الموارد اللازمة لمواجهة التهديد، وتتجلى على هيئة عدوان أو مواجهة، سواء جسدياً أم لفظياً.
  • الفرّ: يشعر الشخص هنا أن الخيار الأفضل هو الهروب من الموقف، وقد يكون هذا الهروب جسدياً، أو النأي بالنفس عن التهديد عاطفياً أو نفسياً.
  • الجمود: عندما يدرك الدماغ أن الكرّ والفر غير ممكنين، فقد يلجأ إلى الجمود وعدم اتخاذ أي موقف. قد يكون ذلك بسبب الصدمة أو الخوف أو عدم القدرة على اتخاذ القرار بشأن الإجراء الذي يجب اتخاذه.
  • التملق: تحدث هذه الاستجابة عندما يسعى الفرد إلى إرضاء الآخرين أو استرضائهم من أجل تجنب الصراع أو الأذى المحتمل، وقد يحدث هذا في المواقف التي يشعر فيها الشخص بالعجز ويختار أن يكون متساهلاً على نحو مفرط لتبديد التهديد.

إذاً، عندما يواجه الدماغ ضغوطاً هائلة، فإنه يختار الاستجابة التي تبدو أكثر ترجيحاً لضمان البقاء. وحتى الآن، يبدو أن الهروب يمثّل أحد ردود الفعل الفيزيولوجية الطبيعية تجاه الأحداث المرهقة أو المخيفة أو الخطرة، فمتى إذاً تصبح الرغبة في الهروب أو الاختفاء رد فعل غير مناسب أو غير صحي؟

اقرأ أيضاً: عقدة الناجي: لماذا نجوت أنا دون الآخرين؟

لماذا قد ترغب في الاختفاء أحياناً؟

ينبغي معرفة أن الرغبة في الاختفاء قد لا تتعلق حصراً بالهروب الجسدي؛ وإنما تتعلق بالسعي إلى التملّص من الأوقات العصيبة. إذ لا بُد أن الاختفاء قد يبدو مغرياً في بعض الأوقات؛ فإذا اختفيت، لن تضطر إلى التعامل مع خطر الحرب التي تحيط بك، ولا إلى شرح مشكلتك العائلية المحرجة، ولا إلى التعامل مع رئيسك المستفز في العمل، ولن تزعجك الفوضى العارمة في منزلك أيضاً.

إذاً، فالدافع للاختفاء هو تجنُّب التعامل مع ضغوط الحياة أو المشاعر الصعبة أو القضايا غير المحلولة. باختصار: الرغبة في الاختفاء هي آلية دفاع نفسية تحميك من المشاعر التي تحاول تجاهلها، وهي غالباً ما تشير إلى وجود أمر غير طبيعي في حياة المرء يحتاج إلى حل.

فالشخص الذي يقول "أتمنى لو أختفي"، ربما يقصد القول إنه يشعر بالوحدة أو الظلم ويحتاج إلى مَن يتفهمه ويقدّم له الحب والرعاية، أو يشعر بالحزن ويحتاج إلى الشعور بالراحة والسعادة، أو يشعر بالخوف ويبحث عن الطمأنينة، أو يشعر باليأس ويحتاج إلى معرفة أن الأمور لن تسوء أكثر، أو يشعر بالضياع ويحتاج إلى خطة عمل أو هدف.

لكن مهما كانت الظروف، فإن الهروب أو الاختفاء ليس حلاً بنّاءً للمشكلات في الحالات معظمها؛ لأن الألم العاطفي والتوتر الذي يغذّي الرغبة في الاختفاء سيبقى معك إن لم تعالجه؛ أي حتى لو منحك الاختفاء أو الهروب راحة مؤقتة، فإن الشفاء الحقيقي يأتي من معالجة الأسباب الجذرية؛ سواء كانت احتياجات عاطفية غير ملباة أم مشاعر سلبية غير محلولة أم ضغوطاً عائلية ومجتمعية أم غير ذلك.

اقرأ أيضاً: ما هو القلق الوجودي؟ وما أهم أنواعه وأعراضه؟

5 نصائح ستفيدك عندما تسيطر عليك الرغبة في الاختفاء

ينبغي الإشارة إلى أن الكثير من الناس يشعرون بهذه الرغبة عند المرور بأوقات عصيبة، وهذا ليس أمراً خاطئاً؛ لكنه كما ذكرنا آنفاً، قد يكون إشارة إلى وجود أمر ما غير طبيعي ويحتاج إلى حل. عموماً، إليك بعض النصائح الفعالة للتعامل مع هذا الشعور على نحو صحيح:

1. قيّم مشاعرك وابحث عن محفزاتك

في المرة القادمة التي تشعر فيها بأنك تريد الاختفاء، توقف لحظة لملاحظة ما يحدث حولك. مَن معك؟ ماذا تفعل؟ بماذا تشعر؟ ما هي الأفكار التي تدور في رأسك؟ لأن فهم متى وأين تنشأ هذه الرغبة في الاختفاء يساعدك على تتبع الأنماط وفهم المواقف المحددة التي تثيرها بصورة أفضل، وبعد فهم تلك الإشارات وتحديد ما يثير هذه الاستجابة، تستطيع أن تفهم ما يحتاج إلى التغيير في حياتك.

على سبيل المثال، إذا كنت تشعر على هذا النحو في الأماكن المزدحمة مثل متجر البقالة، فقد لا تكون المشكلة في المتجر نفسه؛ وإنما نتيجة القلق الاجتماعي أو الشعور بالإرهاق نتيجة الأعمال المتراكمة. وبعد التعرف إلى السبب المحدد، يمكنك أن تركز على الحلول العملية، مثل أخذ استراحة أو إيجاد طرائق لإدارة قلقك بفعالية.

إليك مثالاً آخر، إذا كنت تتمنى الاختفاء في كل مرة تكون فيها مع عائلتك أو في المنزل، فقد يكون ذلك رغبة في تجنب الألم وعدم الراحة الناتجين عن خلافات وصراعات مستمرة؛ أي ربما تشعر بالإحباط بسبب عدم القدرة على حل هذه المشكلات، أو بالخجل والذنب إن كنت تعتقد أنك سبب التوتر، وقد تكون هذه المشاعر أكبر من قدرتك على التحمل، فتتمنى ببساطة الاختفاء.

لذا يمكنك بعد تحديد محفزاتك أن تركّز على ما يحتاج إلى التغيير وإيجاد حلول عملية لمعالجة السبب الجذري للضيق؛ مثل وضع حدود مع أفراد العائلة، أو استشارة مختص لعلاج المشكلات العائلية، أو إيجاد طرائق لإدارة استجاباتك العاطفية، وهكذا بالنسبة المواقف الأُخرى.

اقرأ أيضاً: ما أعراض التوتر المزمن؟ وكيف يمكن علاجه؟

2. اطلب الدعم ولا تعزل نفسك

قد تزداد رغبتك في عزل نفسك كلما تمنيت الاختفاء؛ لكن عزل نفسك سيجعل الأمور أسوأ؛ لأن العزلة، وفقاً للمختصة النفسية، نور كمال، تفاقم الأفكار السلبية وتزيد خطورة الإصابة بالعديد من الأمراض، كما تزيد حدة المشاعر السلبية. لذا وبدلاً من العزلة، حاول التواصل مع شخص تثق به للحصول على الدعم العاطفي أو غيره من المساعدة، سواء كان صديقاً أم فرداً من العائلة أم معالجاً.

تستند هذه الممارسة إلى مفهوم "الفعل المعاكس" (Opposite Action) من العلاج الجدلي السلوكي؛ الذي يشجعك على التصرف بعكس ما تخبرك به مشاعرك، لأن التصرف على عكس الدوافع السلوكية التي تحركها العاطفة يقلل شدة العاطفة. فإذا كانت مشاعر الخجل أو عدم الجدارة أو الخوف تحثّك على الاختباء، فإن فعل العكس؛ أي التواصل مع الآخرين، يمكن أن يساعد على تخفيف هذه المشاعر.

اقرأ أيضاً: دراسة استمرت 50 عاماً تكشف ما الذي يمكن أن تفعله العزلة بعقلك

3. أخبر نفسك بقصة مختلفة

بدلاً من قول "أتمنى لو أختفي"، حاول أن تحدد العاطفة القابعة خلف هذا الشعور، أو بكلمات أخرى، ما الذي تريده أن يختفي بالضبط، هل هو الخجل أم الخوف أم الشعور بالعجز؟ ثم حدد هذا الشعور قائلاً: "الخجل يدفعني للاختفاء" أو "الخوف هو ما تسبب في ظهور هذه المشاعر".

لماذا هذا مهم؟ في الواقع، تأتي هذه التقنية التي تسمى "التجسيد الخارجي" (Externalization) من العلاج السردي (Narrative therapy)، وهي تساعدك على وضع مسافة بينك وبين أفكارك، وتسمح لك برؤية مشاعرك بوصفها تجارب مؤقتة وليست جوانب ثابتة من هويتك. ومن الممكن أن تكتسب من خلال هذا الأسلوب سيطرة أكبر على مشاعرك، فلست أنت مَن يريد الاختفاء، بل عواطفك المختبئة وراء تلك الرغبة هي التي دفعتك إلى الرغبة في ذلك.

اقرأ أيضاً: الاكتئاب المفاجئ: ما الذي قد يصيبنا به؟ وكيف نتغلب عليه؟

4. خذ استراحة لتصفية ذهنك وتصحيح مسارك

لا بأس من أن تأخذ قسطاً من الراحة بين الحين والآخر، خصوصاً مما يجعلك ترغب في الاختفاء لفترة طويلة. فحتى فترات الراحة القصيرة قد تساعدك على تحسين صحتك النفسية وتصفية ذهنك واستعادة منظورك، حتى لو كان مجرد المشي في الطبيعة، أو قضاء يوم بعيداً عن التكنولوجيا، أو أخذ فترات راحة متقطعة خلال اليوم.

من المفيد أيضاً عندما تبتعد مؤقتاً عما يجعلك ترغب في الاختفاء أن تراجع نفسك لمعرفة السبب، فإذا كان العمل على سبيل المثال، فهل عدم احترام الآخرين ما يجعلك تتمنى الاختفاء؟ أم هل لديك عمل أكثر مما تستطيع إدارته؟ أم هل تكره رئيسك في العمل؟ حدد ما يزعجك، ثم فكر في تغيير طريقة تعاملك مع الموقف، أو ترك وظيفتك في أسوأ الأحوال، ولكن ليس الاختفاء.

اقرأ أيضاً: لا تخجل من خجلك! تعرف إلى أعراض الخجل وكيفية التغلب عليه

5. استشر المختص النفسي عند الحاجة

قد تكون الرغبة بالاختفاء في بعض الأحيان أمراً مفهوماً ناتجاً عن عدم القدرة على التعامل مع ما يحدث في هذا اليوم؛ لكن قد يكون هذا الشعور أيضاً علامة تحذيرية على أن الصحة النفسية تعاني مشكلات أكبر مما تعتقد. فإذا كان هذا الشعور مستمراً أو متكرراً، فقد يشير إلى معاناتك الاكتئاب أو غيره من الاضطرابات النفسية.

لذا ينبغي استشارة المختص النفسي في حال تكررت هذه الرغبة أو تزامنت مع أعراض أخرى؛ مثل مزاج سيئ، أو فقدان الدافع، أو فقدان الاهتمام بالأنشطة، أو مشكلات في التركيز، أو الشعور بالذنب أو انعدام القيمة الذاتية، أو الشعور بالتعب والتغييرات في مستويات النشاط.

يمكن أن يساعدك المعالج النفسي على فهم مشاعرك وتزويدك بالأدوات اللازمة لإدارتها، بالإضافة إلى تحديد المشكلات الأساسية، ووضع خطة للمضي قدماً، سواء كان ذلك من خلال تعديل التوازن بين العمل والحياة، أم تحسين العلاقات، أم معالجة الألم العاطفي، أم غير ذلك.

ختاماً، تذكّر أنه لا يوجد حل سحري لأي مشكلة تمر بها؛ ومجرد قراءة النصائح المذكورة في المقال لن يساعدك على التخلص من الرغبة في الاختفاء بالسرعة التي تتمناها؛ بل يحتاج الأمر إلى التحلي بالصبر، والانفتاح على التغيير، ومحاولة تكرار هذه الخطوات مرات عديدة حتى لو فشلت.

المحتوى محمي