هل حدث أن اتخذت قراراً مثل تغيير مسارك المهني وأنت في أوج ازدهارك، أو قررتَ إيقاف اشتراكك في النادي الرياضي فجأة، وبدلاً من الشعور بالرضا عنه، ينتابك القلق وتجتاحك رغبة في تبرير ذاتك، فتفكر: "يجب أن أبرر هذا القرار، وإلا سيُساء فهمي"؟ وعلى الرغم من أن أحداً لم يطلب منك تبريراً، فأنت تستفيض في شرح أسبابك وتبريراتك كما لو كنت تُقدم أدلة أمام هيئة محلفين، لمجرّد أن أحدهم أبدى استغرابه بتعليق مثل "إنه قرار جريء".
محتويات المقال
غالباً ما تنبع الحاجة إلى التبرير المفرط للذات من آلية دفاعية طورها الدماغ، ومع ذلك، عندما يُبالغ في هذا السلوك، فقد يؤدي إلى إرهاق وحلقة مفرغة من الشعور بعدم الكفاءة، بل ويدمر العلاقات. إذاً، من أين يأتي هذا الخوف العميق من أن يُساء فهمك إن لم تُبرِّر كل خطوة؟ والأهم من ذلك، كيف تحرر نفسك من هذا القيد؟ دعنا نتعرّف سوية في هذا المقال.
لماذا يشعر البعض بالحاجة لتبرير الذات؟
في علم النفس، يُعتبر تبرير الذات (Self-justification) آلية دفاعية تنشط لدى الفرد تلقائياً عندما يشعر بالقلق أو الذنب أو عندما لا تتوافق أفعاله مع قيمه. يتضمن عادة محاولة شرح أو تبرير خياراتك، خاصةً إذا كنت تعلم في قرارة نفسك أنها لا تتوافق مع ما ترغب أن تكونه. على سبيل المثال، تخيّل أنك ارتكبت خطأً في العمل. إذا كنت ترى نفسك شخصاً كفؤاً، فقد يكون الاعتراف بالخطأ غير مريح. لذا، قد تُلقي باللوم على سوء الحظ أو تقول إنك كنت مشغولاً جداً، بدلاً من مواجهة احتمال أنك أخطأت ببساطة.
وفي مثال آخر، قد تشتري سترة جديدة فاخرة، ثم يأتي صديقك ليقول لك "إنها جميلة وتبدو باهظة الثمن"، وعلى الرغم من إعجابه فإنه منحك شعوراً سيئاً لأنك تعتقد أنه يلمح بأنك شخص مبذر، فتبدأ بتبرير تصرفك بإعلان شاهدته حول تخفيضات في أحد متاجر الألبسة والذي تصادف مرورك أمامه في اليوم ذاته.
يساعدك هذا النوع من التفكير على تجنب مشاعر مثل الشعور بالذنب أو الخجل، ويخفف التوتر الداخلي الذي تشعر به عندما تتصرف ضد معاييرك الخاصة، وهو الشعور الذي يطلق عليه علماء النفس التنافر المعرفي.
وفي هذا السياق، يوجد نوعان من تبرير الذات:
- التبرير الداخلي للذات: قد تلجأ إلى إعادة صياغة عقليتك لجعل النتائج السيئة أكثر قبولاً لذاتك، ما يقلل تأثيرها العاطفي عليك، فقد تُغير سلوكك أو تقلل أهمية العواقب أو حتى تنكرها. على سبيل المثال، إذا كنت مدخناً، قد تقنع نفسك بأن السجائر ليست ضارة بصحتك، على الرغم من الأدلة.
- التبرير الخارجي للذات: في التبرير الخارجي للذات، قد تبحث عن أعذار للآخرين لتبرر أفعالك، وتغطي على قلة ضبط النفس أو أخطاء في اتخاذ القرارات، فتلقي باللوم على الآخرين أو الظروف الخارجية. على سبيل المثال، قد يُبرر مدمن الكحول شربه بالقول إن أصدقاء السوء أجبروه على ذلك.
اقرأ أيضاً: لماذا قد نخاف من حكم الآخرين علينا وكيف نتغلب على ذلك؟
5 أسباب نفسية لتبرير الذات
من المنظور السلوكي، يمكن اعتبار لجوئك إلى التبرير الذاتي هو استراتيجية تكيف لمواجهة عواقب القرارات التي تتخذها. لكن من وجهة نظر علم النفس، قد يكون لسلوك التبرير المبالغ به جذور نفسية، أهمها:
1. التنافر المعرفي: التوفيق بين المعتقدات المتضاربة
عام 1957، توصل عالم النفس ليون فستنغر (Leon Festinger) إلى نظرية التنافر المعرفي، والتي تشير إلى أن تضارب المعتقدات يسبب شعوراً بعدم الراحة، فعندما تتعارض أفعال الفرد مع معتقداته أو تصوراته عن نفسه، يشعر بانزعاج نفسي. لتخفيف هذا التوتر، يولّد الدماغ مبررات تساعده على مواءمة أفعاله مع صورته الذاتية. على سبيل المثال، أنت تدعو لممارسة الرياضة دائماً، وتستنكر عدم التزام صديقك بها، ومع ذلك فأنت تتجنب الذهاب إلى النادي الرياضي وتدّعي أنك كنت بحاجة للراحة. لكن الحقيقة أنك كنت تفتقر إلى الانضباط، وهو ما يهدد هويتك باعتبارك شخصاً مثابراً وملتزماً بنمط الحياة النشط والصحي.
اقرأ أيضاً: ما هي حالة التنافر المعرفي؟
2. الخوف من الرفض أو الإقصاء
البشر كائنات اجتماعية بطبعها، مفطورة على الحاجة للانتماء، والخوف من الرفض. ينبع هذا الخوف من الماضي التطوري، حيث كان الإقصاء من القبيلة يعني غالباً التعرّض للخطر أو الموت. مع أن البقاء في العصر الحديث لا يعتمد على الجماعات الاجتماعية، فإن أدمغتنا تتفاعل مع الرفض كما لو كان يهدد الحياة، مُفعّلةً المناطق نفسها التي يُفعّل فيها الألم الجسدي. هذا الخوف البدائي يدفع إلى الإفراط في تبرير الذات، حيث يحاول الناس مواءمة خياراتهم مع توقعات الآخرين. ومن خلال المبالغة في تفسير أنفسهم، يحاولون الحصول على القبول، وتقليل النقد، وتجنب الصراع.
3. الحب المشروط في الطفولة
غالباً ما يتجذر الإفراط في تبرير الذات في مرحلة الطفولة، وخاصةً إذا نشأت في بيئة يعتمد فيها الحب والقبول على تلبية توقعات معينة. على سبيل المثال، إذا قال والداك أو مقدمو الرعاية عبارات مثل "سأحبك إذا حصلت على درجات جيدة" أو "لا تبكِ، سيضحك الناس عليك"، فربما تجاهلوا بذلك مشاعرك الحقيقية. مع مرور الوقت، قد يُعلمك هذا أن قيمتك مشروطة، وأنك بحاجة إلى شرح أفعالك أو الدفاع عنها لتجنّب الرفض وكسب القبول. نتيجةً لذلك، تكتسب عادة تبرير نفسك للآخرين، محاولاً دائماً إثبات استحقاقك للقبول والمحبة.
4. انعدام الأمان وضعف الثقة بالنفس
يشير الطبيب والمعالج النفسي، يوسف الحسيني، إلى أن التبرير الذاتي يوجد لدى من يعاني عقدة الاستحقاق، أي يعاني تدني شعوره بقيمته الذاتية. عندما لا تثق بحكمك الشخصي أو بقيمتك الذاتية، تميل إلى طلب التأييد والموافقة من الآخرين. هذا الشعور بعدم الأمان يسبب لك قلقاً بشأن نظرة الآخرين إليك، فتفسر الملاحظات المحايدة أو حتى النظرات الغامضة بالنسبة لك على أنها انتقاد، لذا قد تبدأ في تفسير أفعالك وتبريرها بأسلوب مبالَغ فيه.
على سبيل المثال، قد تلتقي شخصاً جديداً، وخلال تعريفك بذاتك له، تذكر أنك ما زلت تدرس في الجامعة على الرغم من أنك تجاوزت الثلاثين، وتتابع حديثك بتبرير تأخرك وسرد تفاصيل شخصية عن نفسك، في حين أنه لم يطلب منك تبريراً في الواقع، وإنما هو شعور داخلي بالنقص لتأخرك في تحصيلك الدراسي مقارنة بأبناء جيلك.
5. السعي إلى الكمال
إن كنت ممن يمتلك معايير عالية ويسعى للكمال، فقد يتولد لديك اعتقاد داخلي بأن الأخطاء غير مقبولة، وغالباً ما تكون أول المنتقدين لذاتك؛ فتلجأ لأسلوب التبرير وشرح كل تصرّف أو قرار تتخذه لاستباق النقد وإبراز صورة الكمال.
اقرأ أيضاً: هل أنت شخص يتطلع إلى الكمال في كل ما تفعل؟ احذر من الأضرار النفسية
كيف تتخلص من تبرير الذات المبالغ به؟
بينما يساعدك تبرير الذات على الشعور بتحسن في اللحظة الراهنة ويمنحك شعوراً مؤقتاً بالثقة بالنفس، فإن الإفراط في الاعتماد عليه قد يعوق نموك الشخصي ووعيك الذاتي، ويقلل ثقتك بنفسك، ما يؤول بدوره إلى سلوك تبرير الذات المفرط من جديد.
لكسر هذه الحلقة المفرغة من تبرير الذات المفرط، يمكنك اتباع الخطوات العملية التالية:
1. تعرّف إلى المحفزات: الوعي الذاتي
قد لا تدرك متى أو لماذا تبدأ بالإفراط في الشرح، لكن تحديد هذه اللحظات قد يُحدث فرقاً كبيراً. عندما تشعر برغبة في التبرير، توقف برهة واطرح على نفسك هذه الأسئلة:
- هل أبالغ في توضيح أسبابي وشرح وجهة نظري؟
- لماذا أشعر بالحاجة إلى تبرير نفسي؟
- هل يمنحني التبرير شعوراً بالراحة أم العكس؟
- هل يقدم لي الشرح الزائد أي فوائد في توضيح نفسي حقاً؟
- ما هي المواقف التي أشعر فيها بالرغبة في تبرير الذات؟ هل خلال اجتماعات العمل؟ أم عند بعض التفاعلات الاجتماعية؟
خض في أعماق ذاتك، وأجب عن هذه الأسئلة، لفهم سياق تطور رغبتك في تبرير نفسك، وتحديد المخاوف أو المعتقدات الكامنة وراء سلوكك. على سبيل المثال، إذا كنت تميل إلى الإفراط في الشرح ضمن اجتماعات العمل، فقد ينبع ذلك من خوفك من النقد أو رغبتك في الظهور بمظهر الكفؤ.
اقرأ أيضاً: ما هو مبدأ الوعي بالرغبة؟ وكيف توظفه لتعزيز مهارة التنظيم الذاتي؟
2. فكر قبل أن تتكلم
في بعض الأحيان، قد تلجأ للإفراط في التبرير لعدم اكتمال وجهة نظرك الشخصية، أو خطأ في تقييم الموقف، لكن إن منحت نفسك بعض الوقت للتوقف والتخطيط يُمكن أن تمتنع عن الإطالة وتعبر عن وجهة نظرك بوضوح. لذا استمع جيداً، ودوّن الملاحظات، وحاول التفكير بعمق والنظر إلى الموضوع من وجهات نظر مختلفة، مع مراعاة ردود فعل الطرف الآخر، حتى تتمكن من تكوين رأيك المتكامل، ما يُضفي الوضوح، ويُقلل التكرار، ويُتيح لك التركيز في حديثك.
3. ابحث عن شبكة دعم واطلب ردود الفعل
في بعض الأحيان قد يكون من المفيد وجود شخص مقرب مثل أخ أو صديق، ليخبرك بالمواقف التي تبالغ فيها في تبرير ذاتك. يمكن أن يساعدك هذا النقد البنّاء على تحسين طريقة تعبيرك عن نفسك.
4. مارس التصديق الذاتي: ثق بنفسك
بدلاً من البحث عن تصديق الآخرين وموافقتهم، ازرع عادة التصديق الذاتي، وذكّر نفسك بأن اختياراتك ومشاعرك صحيحة، حتى من دون تفسير؛ كما في كتابة يومياتك. إن الاعتراف بأنك إنسان عرضة للخطأ، يمكن أن يكون محرِّراً.
5. تحدث إلى متخصص
بما أن لسلوك التبرير الذاتي المفرط جذوره في علم النفس، فقد يكون من المفيد استشارة مختص نفسي. إذ يمكن للمختص مساعدتك في تفكيك التجارب التي ربما أسهمت في الإفراط في شرح السلوك، وتقديم أدوات لإدارة هذا السلوك.