تعلم كيف تجعل من أعمال المنزل حصة لتطوير الذات

4 دقائق
الأعمال المنزلية

إن أوّل ما يتبادر إلى الذهن حين نسمع كلماتٍ من قبيل: جلي الصحون، كيّ الملابس ومسح الأرضية المتسخة، هو ذاك الروتين الشاقّ الممل الذي يثقل الكاهل. أليس كذلك؟ لكنه يُمثل للبعض نشوة ومُتعة خالصة! نحن هنا لا نتحدث عن مهووسي النظافة؛ بل عن أشخاص تمنحهم الأشغال النفسية راحةً وطمأنينة وانسجاماً مع الذات. إنها دروس تطوير الذات من نوعٍ آخر، وأوّل ما تنص عليه هو التشمير عن الساعدين!

ما من حديث حول الأعمال المنزلية إلا ويبدأ عادةً بشكوى من قبيل: "إنها تعذيب حقيقي!"، وغالباً ما ينتهي برأي ذي بعد سوسيولوجي يدور حول غياب توزيع المهام داخل البيت. ولأنّ توزيع مهام البيت من تنظيف وترتيب لا يزال لحد الآن غير متكافئ بين النساء والرجال؛ إذ تفيد إحصائية أجراها معهد إنسي (Insee) سنة 2010 أن النساء يقضين ما معدّله 3 ساعات و52 دقيقة يومياً في الأشغال المنزلية مقابل ساعتين و24 دقيقة بالنسبة للرجال، فإن أي استعراض لمزايا الأعمال المنزلية وفوائدها من شأنه أن يؤوّل مباشرةً كمُناصرة لأفكار دُعاة بقاء المرأة في البيت. لكن دعوا ذلك لا يثنينا عن الاعتراف بأن ثمة من يجدون متعتهم فعلاً في مزاولة هذه المهام، وهم ذاك النوع من الناس الذين يولّد لديهم تنظيف البيت والاهتمام به شعوراً بالمتعة والرضا لكنهم يترددون في مشاركة ذلك مع الآخرين، ليقينهم أنهم يعيشون اليوم في مجتمعٍ لا يجد في تكريسهم الوقت والجهد لأجل الروتين المنزلي إنجازاً عظيماً يُحتفى بهم؛ بل علامة هوسٍ وجنون بالنظافة ومحلّ تندّر لكن في حقيقة الأمر هُم أبعد ما يكون عن ذلك.

الإندروفين

توضح مؤلفة كتاب "في مديح مشقّة الأعمال المنزلية ومُتعها الصغيرة" (les plaisirs secrets du ménage)، آن دو شالفرون (Anne de Chalvron): "مررت بنقطة التحوّل حين صادفتُ استطلاع رأي أجري في بريطانيا صرّحَت خلاله أغلبية النساء أنهن يجدن متعةً لا تُضاهى أثناء أداء الأشغال المنزلية؛ إذ تُشعرهن أنّ حياتهن تحت السيطرة، حتى أن بعضهن ذهبن إلى تفضيل التنظيف على ممارسة الجنس! اعتراني وقتها فضول لاكتشاف ما يقف خلف رغبة كهذه قد تعتري نساء عصرٍ لم تعد فيه المرأة محلّ تهميش كالماضي، فقد كنت متأكدة أن شيئاً ما أعمق يقف خلف هذا كله، وأردت الوصول إليه".

فما السر إذاً؟ يقدم الطبيب والاختصاصي النفسي ألبيرتو إيغيه المُهتم بقضايا البيت والأسرة تفسيراً بقوله: "ثمة علاقة قوية تربط بين الترتيب والتنظيف، وبين نفسيّة من ينجز هذه الأعمال، فترتيب البيت ينعكس على نفسية من يُرتّبه بحيث يصير "القيام" بالشيء هنا هو المحرك الأساس للعملية النفسية؛ أي بتعبير آخر يكون الجسد بحركاته وأفعاله هو ما يُحفِّز النشاط الذهني".

تستشهد آن دو شالفرون بفكرة عالمة الأعصاب الأميركية كيلي لامبرت (Kelly Lambert) وتشرح بأن أدمغتنا مبرمجة على تحمّل مهام جسدية مرهقة؛ ما يجعل من مزاولة هذه الأخيرة عاملاً بالغ الأهمية لتحقيق توازننا العقلي. إن القيام بالأعمال المنزلية ينُتِح الإندروفين الذي بدوره يُشعرنا بالراحة والمتعة. وفي هذا الصدد تؤكد أمل البالغة من العمر 56 سنة والتي تعمل استشارية في إحدى الشركات قائلةً: "يوم انفصلت عن زوجي دبّت في جسدي رغبة عارمة في تنظيف البيت، وكنت كلما رتّبت ونظفت أكثر، شعرت بطاقة هائلة تتملكني، إلى أن توقفت أمام المرآة النظيفة ولمحت انعكاس وجهي صافياً، فخاطبتُ نفسي: "أنتِ تستحقين الأفضل!" وشرعت في الرقص".

ليس بالضرورة أن يتخلل الألم تجربتنا مع التنظيف كي نشعر بما شعرت به أمل، فلكلّ دوافعه المختلفة التي تؤدي إلى الشعور ذاته؛ إذ بتنظيف البيت ننظف كذلك أعماقنا ونفسيّاتنا، ونعيد الأمور إلى نصابها. يتقاطع ذلك مع قاعدة "فنغ شوي" (feng shui) التي تقضي بالتخلص من كلّ غرضٍ مكسور في البيت. إلى جانب ذلك؛ يعد تنظيف البيت تقليداً في الأعياد يتكرر في كل الديانات والثقافات كرمز يحيل إلى الطُّهر والنقاء. يتعلق الأمر هنا بواقع مُشترك إنساني لا يرتبط لا بالإحصائيات ولا ما تقوله السوسيولوجيا، فسواء كنا رجالاً أو نساء فنحن بحاجة إلى النظام والنظافة.

تقول باتريسيا البالغة من العمر 48 والتي تعملُ بحَّارة: "لا أتبع أي تقليدٍ روحيّ معين لكن شعوري وأنا أعيد ترتيب خزانة ملابسي، ثم وأنا أتخلص مما لم أعد أستعمله، أجده أقرب إلى ما أتخيل أن حالات التأمل العميقة تقدّمه من إحساس". كما أن الرجال ليسوا بمعزلٍ عن هذه التجربة الشعورية إذ يشاركنا فادي البالغ من العمر 48 سنة ما اختبره في هذا الصدد قائلاً: "لترتيب البيت مفعول السّحر إذ يسمح لي بتصفية ذهني، أرتّب، فأصير أكثر خفة! حين تُظلم الدنيا في عينيّ أفرغ خزانة ملابسي وأعيد طيّ الملابس، يساعدني ذلك كثيراً ويُشعرني بالتحسن". ثم يجلس كنحّات مستلقياً على أريكته، يتأمّل بافتنان صنيع يديه.

الأفكار أيضاً تحتاج إلى ترتيب

أشغال البيت لا تقلّ جمالية ولا إبداعاً عن الكتابة أو الرسم، فهي بدورها عمل فني، فإعادة البيت نظيفاً مرتّباً يلمع، تتقاطع في أشياء كثيرة مع العملية الإبداعية. حتى أن الكاتبة الفرنسية الشهيرة مارغريت دوراس (Marguerite Duras) مثلاً، لم تكن تباشر عملها الروائي إلا بعد أن تُرتب سريرها. والأمر نفسه بالنسبة لسمر البالغة من العمر 40 سنة والتي تعمل صحفيةً مستقلة إذ تقول: "لا يمكن أن أبدأ كتابة مقال جديد ما لم أرتب البيت وأكنس المكان وأضع الملابس المتسخة في آلة الغسيل. يساعدني ذلك على تخفيف توتري ويسهّل عليّ ترتيب أفكاري على الورق".

كما تقود الأعمال المنزلية إلى متعة جمالية خالصة من خلال استعمال حاستيّ النظر والشم؛ وهو ما تثيره آن بحديثها عن المتعة التي تجدها حين ترى الملابس النظيفة مطوية أمامها بعد ترتيب خزانتها إذ تقول: "إنها متعة بصرية لدرجة أني أظل أقفل وأفتح باب الخزانة كل حين لأمتّع ناظريّ بهذا المشهد الخَلّاب!". ثم تختم بحديثها عمّا يخلفه الضوء من جمال حين يُسلّط على الزوايا النظيفة وما تتركه روائح المنُظفات التي تملأ أركان الحمام من أثرٍ يظلّ يغمر روحها طوال الليل.

إيقاظ الحواس

وإذا بدت الأعمال المنزلية بهذه الأهمية فلأنها مرتبطة بالإنسان وحياته الخاصة؛ حيث "يُعَدّ المنزل انعكاساً لذواتنا العميقة" كما يؤكد ألبيرتو إيغيه. فالبيتُ وفقاً له هو: "الحصن الذي يحمينا ويربطنا بعائلاتنا ويرمز إلى هوياتنا". ما يجعل تنظيف المنزل وترتيبه وتزيينه: "احتفاء بهويتنا وما يجمعنا بذواتنا وعائلاتنا أو الآخرين بشكل عام، وبهذا يصير القيام بأعمال البيت تعبيراً عن الحب من جهة، وهدية نقدّمها لأنفسنا من جهة أخرى".

ويؤكد عالم النفس جون كلود كوفمان هذه الفكرة قائلاً: "إن العناية بالبيت هي عناية بالأسرة!"، فلا غرابة إذاً أن يُعدّ إهمال القيام بأشغال البيت من تنظيف وترتيب إحدى علامات الاكتئاب، والعكس صحيح: "إذ تمثل العودة إلى القيام بأعمال البيت الروتينية البسيطة من جديد إحدى علامات التعافي". إنّ إيجاد المتعة في الاهتمام ببيتك أو غرفتك، هو بمثابة إيجاد المتعة في التعرف إلى الذات والاهتمام بها.

وبحُكم عمل بيان الذي يُبعدها عن بيتها فقد كانت الأقدر على اختبار هذا الشعور إذ تقول: "حين أعود إلى بيتي بعد بضع أسابيع، أجد في الاعتناء به استعادةً لدوري في العائلة، أجدُ صلتي بالمكان من جديد". وتؤكد: "ما أفعله ليس تنظيفاً لأجل التنظيف؛ إنما هو محاولة إحلال النظام لأستطيع الإخلال به من جديد". ما التوازن إن لم تكن هناك حركة مستمرة في سبيل تحقيقه؟ وهذه الحركة المستمرة هي الحياة نفسها، وما أعمال البيت المستمرة إلا تجسيد لهما: التوازن والحياة معاً!