نشرتِ مؤخراً كتاباً يتناول التنمر العاطفي، حدّثينا أكثر عن هذا السلوك.
فيرجيني ميغليه: إنه سلوك يتجلى في تضييق الخناق على الشريك بمطالبته أن يبذل المزيد دائماً؛ المزيد من الحضور والعناية والإنصات والحماية والحب، وتظل دوافعه كامنةً في اللاوعي.
غير أن الملاحظ أن الأشخاص الذين يتصرفون على هذا النحو يعانون غالباً من التبعية العاطفية لمن يوقعون عليه هذا التنمر إذ تُوقظ علاقتهم العاطفية مشاعر التوجس والذنب والقلق وعدم الكفاية والدونية ما يزيد من حدّة هذه التبعية. ينتاب المتنمر العاطفي شعور بأن المشاعر التي يكنّها لزوجته تنتقص من قدره وقوّته، فيحاول بشكل غير واعٍ التحكم في شريكته ظانّاً بذلك أنه يضع نفسه في موقع قوّة.
هل له علاقة بالتنمر الأخلاقي؟
فيرجيني ميغليه: الرابط الوحيد بينهما هو كلمة تنمر والتي تعني سوء المعاملة! تجد ضحية التنمر الأخلاقي نفسها في وضعية اضطهاد مُتعمّد؛ إذ يتعلق الأمر بالمحاولة أو الرغبة في اضطهاد الآخر وهي غالباً محاولة تكتسي شرعيتها من علاقة قوى تربط الطرف الضعيف بالمُتنَمِّر.
إنه مبالغة في استعمال السلطة تمارَس تحت اسم القانون وتندرج ضمن السلطوية حيث الخضوع والطاعة محدداتها. يحصل التنمر الأخلاقي في داخل إطار اجتماعي، فيما تؤطر التنمر العاطفي علاقة حميمية تجمُع بين اثنين لا ثالث لهما. إنها تبعية تمحو حدود شخصيتهما وتذوبها وتُمارَس باسم الحب أو الصداقة، غير أنها تجعل العلاقة تعيسة للغاية.
كيف نعرف إذا كان الآخر يمارس التنمر العاطفي علينا؟
فيرجيني ميغليه: تُعَدّ المعاناة أول مؤشر حيث يتفوق الشعور بالضنك على الرفاه، وتأخذ لحظات الرّخاء في التناقص إلى أن تصير نادرة، ولا يعود السلام هو سِمة العلاقة بل ينتابك شعور بالإهمال وأنك غير مفهوم وأنّ الشريك يحطّ من قدرك.
تشعر أنك في وضعية انتظار دائم ولا تسلَم من خيبة الأمل التي تُخيّم عليك لعدم قدرتك على التفاهم مع الشريك وتدفعك إلى الاقتناع بأنك تقع في ذيل قائمة أولوياته. يشتكي لي بعض المرضى على سبيل المثال من رفض أزواجهم إظهار أي حميمية اتجاههم، وكنتيجة لذلك يتولد لديهم قلق كبير.
ما منبع تصرّفهم هذا؟
فيرجيني ميغليه: مصير كل علاقة حب أن تضعف قوّتها لتفسح المجال للانفعالات ومشاعر الطفولة كي تطفو على السطح، وما التنمر سوى تمظهر لانعدام الثقة في النفس والذعر. فأن يقولَ أحد الزوجين للآخر: "أنتَ لا تُلقي بالاً لي!" ما هو سوى ترجمة لغوية لشعورٍ يختلج النفس، فالتبعية العاطفية تُفرِغُ العلاقة من الحب وتتركها صحراءَ مُقفرةً! وقد تكون عملية الإفراغ هذه حقيقة وواقعاً أو مجرد توّهم في بعض الأحيان.
يطلب "المُتنمر" من الطرف الآخر أن يوليه العناية ويغدق عليه الحب كما لو أنه طفل صغير يريد استكشاف العالم كما يحلو له؛ مُطالباً أمه في الوقت نفسه بأن تلازِمه كظلّه رافضاً السماح لها بالمغادرة. وكأن ما يحصل في وضعية التنمر العاطفي ما هو سوى استنساخ للانفعال الطفولي؛ حيث تتملك الشخص الرغبة في أن يكون مركز حياة الطرف الآخر. ولو تمَعّنا جيداً لوجدناه يقول: "لا أريدكِ أن تكوني لأحدٍ سواي"!
ترَين أن جائحة كوفيد-19 وتبعاتها أسبابٌ زادت من وطأة التنمر العاطفي بين الأزواج، فكيف فسّرتِ ذلك؟
فيرجيني ميغليه: عشنا خلال تلك المرحلة في بيئةٍ مُقلِقة واعتمادية حيث يتحتم علينا أن نتّبع التعليمات مثل أطفال مُنضبطين؛ غير أن عدم وضوح الحال منذ بداية الجائحة جعلنا نغرق في القلق ونشعر بالضياع شيئاً فشيئاً، وظللنا لمدة طويلة متعطشين سُدىً لمن يبثّ في قلوبنا الأمان ويطمئننا.
وبسبب هذه الحالة المُفزِعة المُقلقة عمَدنا إلى تفريغ حاجتنا هذه للطمأنة في مؤسستَيّ الأسرة والزواج، وهكذا أخذ كلّ من العاطفة والانفعال مكان المنطق وانقاد البعض خلف سلوكيات إدمانية مثل التنمر العاطفي تحت وطأة هشاشتهم النفسية والقلق الذي يتملكهم. وفي النهاية دفع بهم الحجر الصحي إلى أن يغلقوا على أنفسهم في علاقة تسدّ لديهم نقص الأمان.
تطرّقتِ كذلك إلى أن الحجر الصحي أدى إلى برود العلاقة الحميمية بين الأزواج ما قاد في النهاية إلى شعورهم بعدم الأمان العاطفي. لماذا تضعف العلاقة الحميمية بين الأزواج بهذه الطريقة؟
فيرجيني ميغليه: تتطلّب العلاقة الحميمة بين الزوجين الاسترخاء ومحاولة نسيان المشكلات التي واجهت كلّاً منهما خلال اليوم، وحين صارت محكومة بسياق الجائحة أصبح رمي المشاغل والهموم خلف الظّهر ضرباً من المستحيل.
كما أن الغموض والترقب اللذان يلفان الحجر الصحي يوقظان الإحباطات ويولدان شعوراً لدى المرء بأنه سجين محتجَز داخل غرفة مُحكمة الإغلاق دون منفذٍ واحد للخروج، فيما تُبنى العلاقات الزوجية على أساس وجود فسحة صغيرة مفتوحة يتسرَّبُ عبرها الشوق الذي يعدّ أهم ما يغذّيها. وهكذا حين يكون الزوجان في وجه بعضهما بعضاً طوال اليوم، يتحوّل الآخر إلى مرآةٍ نعكس عليها مخاوفنا الداخلية كلّها.
بالإضافة إلى أن الظروف الطارئة التي طبعت تلك المرحلة أسهمت في إطفاء وهج حميمية العلاقة، ونعني بالظروف: الحرية المقيدة وقلة المال وخطر الإصابة بالمرض وفقدان الأقارب وخسارة العمل، فبسببها سُخِّرت الطاقة التي ينبغي أن تُستثمَر في العلاقة الزوجية في إبقاء المرء على قيد الحياة، وأخذت أشكالاً أخرى كتوظيفها في أنشطة من شأنها الحفاظ على عافيتنا الجسدية والنفسية؛ كالطبخ والتواصل مع العالم عبر الإنترنت واليوغا والتأمل.
غير أن البعض، بغاية جلب الطمأنينة إلى نفسه، شرع في التنمر العاطفي على الشريك الذي لم يكن أمامه سوى الانغلاق بدوره على نفسه لحمايتها، وفي المحصلة عمد كلّ طرف إلى الانغلاق على نفسه داخل أفكاره الخاصة، ويالَها من دائرة مُفرغة!
ما السبيل إذاً للخروج من هذه الدائرة المُفرغة في رأيك؟
فيرجيني ميغليه: يحتدّ التنمر العاطفي حين يمر الشخص المُتنَمِّر بمِحنة أو أزمة. السؤال الذي ينبغي أن يُطرح هو: كيف السبيل إلى عدم تفريغ حالاتنا النفسية والمزاجية في الآخر؟ كيف نتوقف عن رمي مخاوفنا على كاهله؟ لماذا نتصرف على هذا النحو المؤذي فيما نيّتنا أن نحافظ على العلاقة الزوجية؟
مفتاح سلوكياتنا نجدهُ قابعاً في أغلب الأحيان في أعماق الطفولة. أفعالُنا اليوم صنيعة الذاكرة، فحين نواجه وضعية مُشوِّشة نعود إلى أفعالنا الانعكاسية البدائية؛ تلك التي واجهنا بها الشعور نفسه حين انتابنا ونحن صغار. ولفهم ما يحصل على مستوى اللاوعي؛ يمكن أن نحدد اللحظة التي تخرج فيها مشاعرنا عن السيطرة ونربطها بذكرى من ذكريات الطفولة. إنها الفرصة لوضع الإصبع على آليات الدفاع التي تتحكم فينا فور شعورنا بالضعف كأن نقول: "إنه الشعور المؤرق نفسه الذي كان يعتريني أيام الدخول المدرسي".
هي ذكريات لم تُجتَثّ من جذورها وانفعالات عاطفية تعاود الظهور. "إن الطريقة التي نتنمر بها على شريكنا تجد امتداداً لها في وضعيات سابقة شعرنا فيها بالعجز". فما الذي يعيد إحياء هذه المعاناة داخلنا كي نتنمر؟ ينبغي لنا الإنصات لأنفسنا. إذا بدا لنا أن الخوف الذي نشعر به غير مبرر فذلك لأننا بالفعل شعرنا بالخوف في الماضي لسبب ما؛ حيث إن معاودة ظهور النمط الذي ساد علاقاتنا في الطفولة ليلقي بظلاله على العلاقة الزوجية هي بمثابة الفرصة المواتية للتخلص منه دون أن نغفل عن دور الأحلام في تقريبنا من ذواتنا.
إذ منذ بداية الحجر الصحي بدأ أغلب مرضاي يحلمون ويتذكرون بشكل أكثر حدة من الأوقات الطبيعية فقد كان هناك متّسعُ من الوقت للتفكير. الأحلام المتكررة ذات الفحوى المثيرة للاشمئزاز أو الرعب تُقدِّمُ لنا تفسيرات لأصل السلوك الحالي ذلك أنها لم تعاود زيارتنا إلا لأنها تريد قول شيء لنا، فنحنُ نملك داخلياً كل ما نحتاج لفهم مصدر أي اضطراب أو خوف يتمظهر على شكل التنمر العاطفي. فملازمة أغلبنا بيوتهم وتقليل تحركاتهم عزّزا إمكانية استرجاع الأحلام وسبر أغوار النفس والدوافع اللاواعية.
هل يتحتّم علينا القيام بكل هذا الاشتغال على الذات لوحدنا أم الجلوس على الطاولة مع الشريك وإجراء نقاش مفتوح حول العلاقة؟
فيرجيني ميغليه: الحوار جيد شريطة أن يتكلم كلٌّ من الزوجين عن نفسه دون إلقاء اللوم على الآخر ليتملص من مسؤوليته بإلصاق التهم كلها عليه، أو الاعتماد المطلق عليه وكأن بيده وحده أن يخرج العلاقة الزوجية من هذا النفق المظلم.
إذا كنت واثقاً من استعداد الآخر للإنصات إليك دون إطلاق الأحكام فمن الجيد أن تركن آليات الدفاع جانباً وتبدأ الحديث عمّا تشعر به والصعوبات التي تواجهك، وتخلق مساحة آمنة لشريكتك للحديث عن كل ما تشعر به وبخاصة مخاوفها. إن الحديث عن المشاعر والإنصات الفعّال من شأنهما إعادة مدّ الجسور بين الزوجين.
وهكذا عوضَ الاكتفاء بالوقوف أمام طريق مسدودة والتنمر على الشريك عاطفياً؛ من الأجدى للطرفين والعلاقة نفسها البدء بالسعي لإيجاد منفذ خروج والتفكير فيه معاً؛ كأن تقول: "حسناً، الآن ما الذي ينبغي لنا فعله؟". يُعدّ ذلك مصفاةً للتخلص من شوائب نفسية كالخوف وتحميل النفس الذنب وغيرها من ردات الفعل المؤذية والضاربة بجذورها في أعماقنا، فالاعتراف بالعجز الذي نكابده ومواجهته عوضاً عن إنكاره هو بمثابة أولى خطواتنا نحو استرجاع قوّة العلاقة الزوجية.
كيف السبيل إلى التغلب على سلوكياتنا الاعتمادية حين تبدأ بالتسبب في الأذى لنا ولمن نحب؟
الحل يكمن في النقاش الصادق والثقة المتبادَلة والاشتغال الجاد على الذات للتطلع إلى مستقبل أفضل.
اقرأ أيضاً: ما هو العنف "العادي" بين الزوجين؟