الاكتئاب مرض عقلي شائع وغير مفهوم تماماً ويعالَج غالباً بتناول أدوية مثل "بروزاك" (Prozac)؛ لكن يتم النظر حالياً في حلول جديدة لعلاجه كالالتهاب الذي يمكن أن يمنح 30% من المصابين بالاكتئاب الذين لا يتعافون من تناول "بروزاك" أملاً جديداً.
نُشرت هذه المقالة في الأصل على موقع "ذي كَنفرسيشن" (The Conversation). كتب المقال "باسكال بارون" المحاضر في علوم الأعصاب في وحدة "يو إم آر آي برين، الخيال والعقل" (UMR iBrain, imaging and brain) في مختبر الطب النفسي الوظيفي العصبي في مدينة تور في فرنسا في "جامعة تور" (University of Tours)، و"إيستر بيلزيتش" الحائزة على درجة الدكتوراة في قسم "علوم الأعصاب باريس-سين" التابع لـ "معهد باريس سين لعلم الأحياء" ( Paris Seine Biology Institute) في مختبرات (CNRS UMR 8246, Inserm U1130) في "جامعة السوربون" (Sorbonne University)، و"نيغار أحمدي" الحائز على درجة الدكتوراة في معهد علوم الجينوم الوظيفي في "المركز الوطني للبحث العلمي" (National Center for Scientific Research - CNRC)، و"فَنسَن كامو" أستاذ جامعي وطبيب ممارس في المشفى في "جامعة تور" وحدة (Inserm U1253) في "مركز مشفى الجامعة الإقليمي" أو تُختصر بـ (CHRU) في "جامعة تور".
وفقاً لمعايير "دي إس إم-5" (DSM-5) (الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطراب العقلي الذي نشرته الجمعية الأميركية للطب النفسي) يتسم الاكتئاب بأعراض مثل الحزن المتواصل، والافتقار إلى الدافع لأداء المهام المعتادة، وفقدان الاهتمام والبهجة، والإعياء الشديد، واضطرابات النوم، وفقدان الشهية وغير ذلك، إضافةً إلى الشعور باليأس الذي قد يؤدي إلى ظهور أفكار وبوادر انتحارية.
منذ أمد بعيد لم تكن لدينا علاجات مناسبة للاكتئاب، إلى أن اكتُشِف بالصدفة في خمسينيات القرن الماضي أن بعض الأدوية المثبطة لإنزيم استرداد السيروتونين التي لم تُجرب حينها إلا على المؤشرات أخرى (مثل مكافحة السل) كانت لها تأثيرات إيجابية على "الحالة المزاجية"؛
ساهمت هذه الملاحظة في تطوير الفرضية التي تنص على أن الاكتئاب قد يكون مرضاً ناتجاً عن اختلال التوازن الكيميائي الحيوي للناقلات العصبية؛ وهي المواد التي تطلَق بين الخلايا العصبية.
كان السيروتونين بالذات أحد الناقلات العصبية المشتبه بها نتيجة ثبوت دوره في تغيير المشاعر؛ وبالفعل فإن معظم الأدوية المضادة للاكتئاب تؤثر في زيادة توافر السيروتونين، بالتحديد عن طريق تثبيط استرداد العصبونات له، وقد أصبحت هذه الأدوية التي تكون من نوع "بروزاك" (©Prozac) أكثر فئات مضادات الاكتئاب التي توصف باستمرار.
لكن حوالي 30% من مرضى الاكتئاب لا يلحظون تحسناً في حالتهم عند تناولهم هذه العلاجات، لذا توسع نطاق البحث عن آليات بيولوجية عصبية جديدة لعلاجه.
الالتهاب: حل جديد واعد
شهد دور الالتهاب في هذا المجال اهتماماً متزايداً للآفاق العلاجية التي سيتيحها لكن لم تكتمل هذه الفرضية التي تستند إلى العديد من عمليات المراقبة البيولوجية والسريرية بعد. فمثلاً:
- يعاني المرضى المصابون بأمراض التهابية مزمنة من تفشي الاضطرابات الاكتئابية.
- تكثر إصابة المرضى الذين عولجوا بالعلاج المناعي باستخدام السيتوكينات (بروتينات ضئيلة محرضة على الالتهابات) بمتلازمة اكتئابية شديدة.
- تكون نسبة المؤشرات الحيوية على وجود التهاب (السيتوكينات المحرضة على الالتهابات، والبروتين المتفاعل-C الذي يختصر بالرمز (CRP)) أعلى في دماء المرضى الذين يعانون من نوبة اكتئاب حاد؛ يبدو أن هذه السمة مرتبطة بدراسة سريرية للأعراض المتمثلة بانعدام التلذذ (هو فقدان القدرة على الشعور بالمتعة) والضعف الإدراكي، ويرافقها غالباً عدم الاستجابة للأدوية المضادة للاكتئاب.
- تخفض بعض مضادات الالتهاب من حدة حالة الاكتئاب بحد ذاتها أو تقوي التأثير السريري لمضادات الاكتئاب.
- تغير الحالة الالتهابية السلوك والترابط الدماغي وخاصةً في نظام المكافأة في الدماغ الممتد بين المخطط البطني والقشرة الأمامية (الدائرة العصبية التي تتحكم بالمشاعر الإيجابية والشعور بالمتعة).
إن عمليات المراقبة هذه التي تؤسس رابطاً بين علم الأمراض العقلية والالتهابات قوية بما يكفي لتتيح ظهور تخصص جديد: علم المناعة النفسية العصبية أو علم النفس المناعي. تنشر الآن العديد من المجلات العلمية الدولية رفيعة المستوى أعمالاً في هذا المجال الناشئ، كما تأسست الجمعية الدولية لعلم المناعة العصبية.
اقرأ أيضا:
الكثير من الحلول تنتظر استكشافها
إن فرضية العامل الالتهابي في المرض العقلي مثيرة للاهتمام لأنها توجهنا إلى إعادة النظر إلى الاضطراب من منظور علم أمراض الجسم كاملاً وليس حصره في الجزء الدماغي فقط؛ ما يتيح تجاوز النهج المتّبع الذي يفصل تماماً بين علم الأمراض العقلية وعلم الأمراض الجسدية.
لا تزال الأبحاث في هذا المجال في بداياتها ولا يزال أصل الالتهاب المصاحب للأمراض العقلية غير مفهوم تماماً. في الواقع يكون الالتهاب عادةً استجابةً مناعيةً غير محددة ومؤقتة كرد فعل على التعرض لجسم غريب أو عامل معدٍ، وفي حالة المرض العقلي يجب البحث عن أصل الالتهاب على مستوى الجسم.
كما طُرحت مسؤولية هرمون التوتر "غلايكورتيكود" (الكورتيزول) عن الإصابة بالاكتئاب؛ إذ يكون التوتر المزمن بالفعل عاملاً محفزاً للأمراض الاكتئابية في معظم الأحيان.
كما نتساءل عن آليات انتشار الخلايا المناعية (البلاعم) ووسائط الالتهاب (الإنترلوكينات المحرضة على الالتهابات (هي بروتينات تنتمي إلى مجموعة السيتوكينات)) من حجرة الدم إلى داخل الدماغ. يُحتمل أن يكون دخول البلاعم هذا ناجماً عن تغير في نفاذية الحاجز الدموي الدماغي الذي يفصل بين حجرات الدم والدماغ.
تشير الدراسات التجريبية على الحيوانات إلى أن هذا التغير قد يكون نتيجة الإجهاد الميكانيكي الناجم عن الدورة الدموية؛ وهذه فرضية أصبحت الآن موثقة جيداً في عيادات "هيومان كلينِكس" (human clinics) (عن طريق عدة وسائل مثل تقنيات التصوير بالموجات فوق الصوتية الجديدة).
يتميز هذا النهج الجديد بأنه متوافق مع النموذج الحيوي الكيميائي الموجود مسبقاً، فقد عُثر بالفعل على رابط بين الخلل في نقل السيروتونين والالتهاب: يبدو أن الرابط المفقود بين هذين المسارين هو ما يسمى بالمسار الاستقلابي المتمثل بـ "التريبتوفان / كينورينين / حمض الكوينولينيك".
التريبتوفان هو حمض أميني نستمده من الطعام وهو الذي يسبق تكوين السيروتونين؛ لكن في حالة حدوث التهاب أو إجهاد تُحوََّل التفاعلات البيولوجية لاستقلاب التريبتوفان نحو جزيء آخر وهو كينورينين، ومواد أخرى تتسم بخصائص الأكسدة أو الإثارة السامة (السامة للخلايا العصبية) مثل حمض الكوينولينيك.
في صميم التفاعلات البيولوجية التي لها دور في الإصابة بالاكتئاب
وفقاً لبعض المؤلفين فإن 85% من المشابك العصبية في قشرتنا الدماغية تستخدم ناقلاً عصبياً يسمى الغلوتاميك، وبالتالي هو الناقل العصبي الرئيسي المنشط فيها؛ وهذا يعني أن أي تغيير في نشاط المشابك "الغلوتاميكية" سيؤثر تأثيراً كبيراً على نشاط الدماغ. ومع ذلك فإن حمض الكوينولينيك قادر على الارتباط بمستقبلات الغلوتاميك ذاتها لتقوية تأثيره (التأثير المحفز)، وينجم عن الإفراط في تحفيزها حدوث ظاهرة الإثارة السامة التي تؤدي إلى موت الخلايا العصبية.
تتوافق فرضية دور الالتهاب العصبي ومسار استقلاب كينورينين الذي يتسبب بالإثارة السامة في الإصابة بالاكتئاب مع فرضية دور الغلوتامات في الاكتئاب، خاصةً أن الدراسات الدوائية أظهرت عند البشر وجود جزيء آخر قادر هذه المرة على منافسة الغلوتامات على مستقبلاتها (التأثير المضاد) وهو الكيتامين الذي يمتلك خصائص مضادة للاكتئاب قوية وسريعة.
لكن ليس هذا مجال الاهتمام الوحيد لهذا النموذج: اكتشاف الروابط بين النظام الذي يتضمن السيروتونين والالتهاب يتيح أيضاً فهماً أكبر للروابط بين الاكتئاب والأمراض العصبية التنكسية مثل مرض ألزهايمر؛
في الواقع لقد تبين في الممارسة السريرية لدى الإنسان أن حدوث نوبات الاكتئاب يزيد من احتمال الإصابة مستقبلاً باضطرابات مثل مرض ألزهايمر؛ ما يشير إلى آليات مشتركة بين هذين المرضين.
كما تبين أيضاً لدى الحيوانات أن الإجهاد المزمن يعيق مسارات استقلابية معينة في مناطق من الدماغ مرتبطة بالاكتئاب لدى البشر مثل اللوزة الدماغية (التي لها دور في التنبيه) وتشارك بالتحديد في رصد المتعة.
ويؤدي كل من الالتهاب وحالة الإجهاد المزمن إلى تراكم المركبات؛ ما يهيئ أيضاً موت الخلايا العصبية وهذا يعد من خصائص الأمراض العصبية التنكسية من فئة ألزهايمر.
كما نرى فإن أخذ العامل الالتهابي في الاعتبار يفتح آفاقاً واعدةً لإجراء الأبحاث، فهو لا يتيح التفكير في وسائل علاجية جديدة للأمراض العقلية مثل الاكتئاب فقط؛ بل يتيح أيضاً الفهم الأفضل لعلاقاتها بالأمراض الأخرى وخاصةً العصبية التنكسية منها.
اقرأ أيضا: