ابن سينا: الطبيب الذي حرر المرض النفسي من سطوة الخرافة والأرواح الشريرة

4 دقائق
ابن سينا
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: إيناس غانم)

ملخص: ابن سينا فيلسوف وطبيب وعالم نفس مسلم فارسيّ، أسهمت نظرياته عن العلاقة بين النفس والجسد في إلغاء المعتقدات الخاطئة عن الأمراض النفسية، ومهدت الطريق إلى فهم العلاقة بين العوامل النفسية والأعراض الجسدية.

"الوهم نصف المرض، والهدوء نصف العلاج، والصبر أول خطوة نحو الشفاء". مقولة تُنسب إلى ابن سينا؛ وهو طبيب وفيلسوف وعالم نفس مسلم.

عندما كانت أوروبا تؤمن أن الشياطين والأرواح الشريرة هي سبب الأمراض النفسية، أدرك ابن سينا العلاقة الوثيقة بين المشاعر النفسية والحالة الجسدية، ووصف العديد من الاضطرابات النفسية وطوّر العلاج بالصدمة والموسيقا وتغيير نمط الحياة، بالإضافة إلى العديد من الإسهامات الكبيرة في مجال الطب والفلسفة وغيرها. فمن هو ابن سينا؟ وكيف أسهم في تطوير الطب النفسي؟

اقرأ أيضاً: أَتمثل دور الضحية أم البطل أم المتسلط؟ إليك كيف تتجنب الوقوع في مثلث كاربمان الدرامي

مَن هو ابن سينا؟

هو أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا، واسمه اللاتيني هو أفيسينا (Avicenna). طبيب وفيلسوف وشاعر وموسيقيّ وعالم نفس مسلم من أشهر العلماء المسلمين في العصور الوسطى وأكثرهم تأثيراً. وُلد عام 980 م بالقرب من بخارى (في أوزبكستان اليوم)، وتوفي عام 1037 في مدينة همدان في إيران.

اشتُهر بإسهاماته في مجال الطب والفلسفة الأرسطية على نحوٍ خاص، وألّف كتاب "القانون في الطب"؛ أشهر كتب الطب في التاريخ، ودمج فيه أفكاره عن اللاهوت والطبيعة والإنسان والنفس والطب والعلم في 5 مجلدات.

بالإضافة إلى تأليف "كتاب الشفاء"؛ وهو موسوعة فلسفية وعلمية واسعة، ومجموعة من الكتب الأخرى مثل "الخلاص" و"الإشارات والتنبيهات".

أصبح ابن سينا طبيباً لعدة سلاطين وعمل وزيراً مرتين، وأثرت تفسيراته لفلسفة أرسطو في طرائق التدريس في المدارس الأوروبية ومذاهبها في القرون الوسطى.

ومن إسهامات ابن سينا المهمة: الاعتراف بالطبيعة المعدية لمرض السل، وإمكانية انتشار الأمراض المعدية عن طريق الماء والتربة، والتفاعل بين علم النفس والصحة، ووصف التهاب السحايا، بالإضافة إلى ذكر 760 نوعاً دوائياً في كتبه التي أصبحت من أكثر المواد الطبية الموثوقة في ذلك العصر، وله العديد من الإسهامات في علم التشريح وأمراض النساء وصحة الطفل.

إسهامات ابن سينا في الطب النفسي

يُعد ابن سينا من أوائل العلماء المسلمين الذين تحدثوا عن أهمية العلاج النفسي، وتأثير المرض النفسي في الأعصاب والجسم، ووصف العديد من الاضطرابات النفسية المختلطة التي تجسد سمات الهوس والاكتئاب والذهان قبل 1,000 عام تقريباً من وجود الطب النفسي الحديث، بالإضافة إلى أن ملاحظاته السريرية الخاصة بالمرضى المصابين بالسوداوية تتفق إلى حد كبير مع تلك الخاصة بالأطباء المعاصرين. وقد كان رائداً في الطب النفسي العصبي، فوصف العديد من الحالات العصبية والنفسية الأخرى مثل الهلوسة والأرق والخرف والصرع والشلل والسكتة الدماغية والدوار والرعشة.

وقد قادته نظرياته وملاحظاته إلى تطوير مجموعة متنوعة من العلاجات للأمراض النفسية؛ مثل العلاج بالتعرض، والصدمة، والموسيقا، واتباع النظام الغذائي الصحي، والأدوية. وقدّم قُرابة 30 نوعاً من الأعشاب الطبية لعلاج الاكتئاب وإدارته، بالإضافة إلى إجراء التغييرات في نمط الحياة.

بالإضافة إلى ذلك، أدرك ابن سينا علم النفس الفيزيولوجي في علاج الأمراض التي تنطوي على العواطف، وطوّر نظاماً لربط التغيرات في معدل النبض بالمشاعر الداخلية.

اقرأ أيضاً: علم العطريات: كيف تحسّن الروائح صحتك النفسية؟

وغالباً ما كان ابن سينا يستخدم طرائق نفسية لعلاج المرضى الذي يعانون من حالات نفسية؛ ومن إحدى الحكايات أن أميراً في بلاد فارس كان يعاني من سوء التغذية والكآبة ويهلوس أنه بقرة يجب أن تُذبح. وعندما اقتنع ابن سينا بالقضية، أرسل رسالة إلى المريض يطلب منه أن يكون سعيداً لأن الجزار قادم ليذبحه، فابتهج الرجل المريض، ولما اقترب ابن سينا من الأمير وبيده سكين، سأل: "أين البقرة فأقتلها"؟ فصرخ المريض مثل بقرة للإشارة إلى مكانه، فلما اقترب ابن سينا من المريض المتظاهر، قال: "إن هذه البقرة هزيلة جداً وغير مستعدة للذبح، وينبغي إطعامها جيداً وسأقتلها عندما تسمن". وهكذا؛ عرض على المريض طعاماً يأكله، فاكتسب القوة تدريجياً وتخلص من أوهامه وشفي تماماً.

اقرأ أيضاً: شوشين: فلسفة يابانية تدعوك إلى التعلم مدى الحياة

العلاقة بين الجسد والنفس حسب ابن سينا

في علم النفس الخاص به، حلل ابن سينا جوهر الروح البشرية والنفس والفكر والأحلام والنبوءة بالتفصيل، واعتقد أن العقل البشري يشبه المرآة، ولديه القدرة على عكس المعرفة لأنه يستخدم الذكاء الفعال (أي التفكير)، فكلما فكرنا أكثر كانت المرآة أوضح وأكثر لمعاناً؛ ما يجعل المرء يوجّه نفسه نحو اكتساب المعرفة الحقيقية.

علاوة على ذلك، اعتقد أن العقل يتحكم في الجسد، وأن ثمة علاقة هرمية مباشرة بين الاثنين، فعندما يريد العقل أن يحرك الجسد، يستجيب الأخير، في حين أن المستوى الثاني من سيطرة العقل على الجسد يكون من خلال التأثير في المشاعر والإرادة؛ إذ يمكن أن تسبب المشاعر القوية نبوءات تحقق ذاتها، فإذا ما اعتقد المرء أنه سيفشل في أمر ما، فإن احتمالية الفشل ستزداد.

وقد أسهم ابن سينا في فهم ما يُعرف بـ "المرض النفسي الجسدي"؛ وهو الحالة التي يمكن لبعض العوامل النفسية مثل التوتر والقلق والاكتئاب أن بسبب فيها أعراضاً جسدية مثل الصداع وآلام المعدة والإرهاق. ويمكن تشبيه ذلك بتأثير الإجهاد في جهاز المناعة؛ الذي يؤدي بدوره إلى زيادة احتمال الإصابة بالأمراض الجسدية.

واقترح ابن سينا فكرة مفادها أن البشر لديهم القدرة على التغلب على الأمراض الجسدية من خلال إقناع أنفسهم بقدرتهم على التحسن والشفاء، في حين أن الشخص السليم قد يمرض إذا ما اعتقد أنه مريض.

اقرأ أيضاً: تميل إلى التطرف وسهلة الانقياد: أهم أفكار غوستاف لوبون عن سيكولوجية الجماهير

وقد شكّل هذا الارتباط بين النفس والجسد أساس تحليلاته للاضطرابات النفسية، فوثق العديد من الحالات بدقة؛ أهمها الهذيان واضطرابات الذاكرة والهلوسة وشلل الخوف ومجموعة من الحالات الأخرى، بالإضافة إلى أنه أسهم في التخلص من المعتقدات السابقة القائلة إن الأمراض النفسية تنتج من الشياطين أو الأرواح الشريرة أو إنها حالات خارقة للطبيعة.

ختاماً، يمكن القول إن نظريات ابن سينا قد أسهمت في فهم العلاقة بين العوامل النفسية والصحة الجسدية، ومهدت الطريق إلى تغيير الطريقة التي ينظر فيها علماء النفس الذين تلوه إلى الأمراض النفسية والأساليب العلاجية التي يمكن اتباعها.

المحتوى محمي