تعاقبت على مرّ الزمن أجيال من الأطباء الذين حاولوا إيجاد تفسير للمشي في أثناء النوم، هذه الظاهرة التي بقدر ما أثارت فضول العقول بثَّت الذعر في القلوب؛ إذ يلفّ المصابين بهذه الحالة سوء فهم يصل أحياناً حَدَّ الوصم. وإذا كان العلم قد قدم إجابات جزئية حول طريقة تمظهره؛ إلا أن الغموض مازال يطوّقه حتى اليوم ويحتاج إلى من يَفُكّ شيفرته.
استيقظت مريم البالغة من العمر 27 سنة ذات صباح لتجد نفسها منكمشة على نفسها جوار ثلّاجتها، فيما حقيبة يدها معلقة على كتفها. تستدعي هذه الذكرى، متسائلة بنبرة مرحة تشوبها مُسحة قلق: "كيف استطعت الوصول إلى مطبخي والتقاط حقيبتي ثم الاستلقاء مجدداً على الأرض دون أن أعيَ ذلك؟" لم تكن تلك المرة الأولى التي يحصل فيها ما حصل لهذه الشابة، فهي حين لا تستيقظ لتجد نفسها في مطبخها، فإنها تنهض وتكلم زوجها فيما هي نائمة دون أن تُفلح في تذكر أي من ذلك في صباح اليوم الموالي. هل يقف التوتر والتعب والقلق خلف هذه الظاهرة؟ تردّ مريم في استسلام: "لا أبحث عن تفسير لذلك"، والتفسير أنها تعاني من المشي في أثناء النوم.
ما هو المشي في أثناء النوم؟
هو اضطراب نوم يتعلق بالأشخاص القادرين على الإتيان بأفعال حركية كالمشي والحديث والكتابة فيما هم نائمون. لا يمكن حصر أعراض المشي في أثناء النوم فهي كثيرة وتتباين من شخص إلى آخر؛ إذ ينهض البعض ويتمكن من المشي وتحريك الأغراض كما ولو كان مستيقظاً، فيما يتحدث البعض الآخر بل وقد يجيب عن الأسئلة التي يمكن أن تُطرح عليه وهو مُسرنَم. استعرض جون أونتيلم بريا-سافاران (Jean Anthelme Brillat-Savarin) في كتابه "فيزيولوجيا الذوق" (Physiologie du goût) الحادثة المأساوية في القرن 19 لرجل دين حاول أثناء مشيه في أثناء النوم؛ طعن أحد المُصلين. إذ نقرأ في الكتاب: "ها هنا، نقف على حافة حدود الإنسانية حيث الإنسان النائم لا يعود هو نفسه الإنسان الاجتماعي". فإذا لم نكن نسير وفقاً للمبادئ التي تسير المجتمع أثناء نومنا، فإلى ماذا نُحتكم إذاً؟ ومن يتولى دفة قيادة تحركاتنا عوضاً عن وعينا النائم؟
المشي في أثناء النوم وأسطورة المَسّ (الاستحواذ الروحي)
أثارت قدرة المشاة نياماً (المُسرنَمين) على الحركة الدهشة منذ قرون خلت؛ لكنها في المقابل استثارت عند البعض الشعور بالنفور والذعر لظنِّهم أن المسرنَمين هم أشخاص لحقهم مسّ من الجن. يفسر ذلك الطبيب النفسي المتخصص في التنويم الإيحائي والمشارك في تأليف كتاب "علاج الروح" (Soigner les âmes)، إدوار كولو (Édouard Collot) بقوله: "تعود أسطورة المس والاستحواذ الروحي المرتبطة بالمشي في أثناء النوم بجذورها إلى القرون الوسطى؛ إذ جعل هذا النوع من المعتقدات الراسخة في ثقافة المجتمع من الشخص الذي يمشي خلال نومه والممسوس سيان". فالشرّ تملّك جسده، وصار طوع يدي الجنّ والأرواح فهي من تتحكم في حركاته قبل سكناته، تماماً كما هو الشأن بالنسبة لليدي ماكبث في مسرحية شكسبير؛ المرأة المسكونة بأرواح ضحاياها والتي تعيد ارتكاب جرائم القتل التي حرَّضَتْ عليها في نوبات مشيها في أثناء النوم. وإذا كانت الأبحاث العلمية الحديثة أسهمت في تغيير هذه النظرة القدحية؛ إلا أن الحالة نفسها ما زالت محطّ غموض ساحر أحياناً. فمن جهةٍ لم يُقدّم العلم بعدُ أجوبة قاطعة حول الأسباب التي تقف وراء هذا الاضطراب؛ كما لم يفلح في تفسير العوامل التي تجعله يلمس أشخاصاً بعينهم دون غيرهم، ولا إن كان لهذا الاضطراب أي علاج .
ما هو تفسير المشي في أثناء النوم؟
إذا كانت الأبحاث قد أزالت لبساً كثيراً أحاط بالمشي في أثناء النوم، فالغموض ما يزال يلفّ الأسباب الكامنة خلفه؛ حيث يعزوه الطب إلى افتراضات بسيطة. توضح الطبيبة في مركز أوتيل ديو (’Hôtel-Dieu) للنوم في باريس ماري- فرونسواز فيتشييريني (Marie-Françoise Vecchierini): "يبدو أن عوامل كثيرة تعزز هذه النوبات، قد يكون التوتر عاملاً محفزاً، بالإضافة إلى كل ما من شأنه أن يجعل النوم متقطعأً كمتلازمة انقطاع التنفس". كما يدخل مستوى الصحة وسلامتها (التعزيز الصحي) وتكرّر الحرمان من النوم ضمن المحفزات. تلفت أنياس بريون (Agnès Brion) الانتباه إلى أن:" العامل الجيني قد يكون طرفاً إذ يصدف أن يعاني أكثر من فرد في العائلة من هذا الاضطراب". في المقابل لا يوجد نمط نفسي خاص بالمشاة نياماً يمكن القياس عليه؛ إذ يبقى جنوحهم الليلي لغزاً مُستعصياً على العلم.
ترى ماري- فرونسواز فيتشييريني: "ثمة يقظة متناهية الصّغر تحصل في لحظةٍ وجيزة محددة في أثناء النوم تُعدّ ضرورية للعبور من مرحلةٍ نوم إلى المرحلة الأخرى الموالية، ويبدو أن الدماغ يفوّت مرحلة العبور في حالة السرنمة". في أثناء أزمة المشي في أثناء النوم، يظلّ الدماغ في حالة النوم فيما تتيقّظ المهارات الحركية؛ إذ يطال عطبٌ ما المادة المثبطة في الدماغ المسؤولة عادةً عن الحيلولة دون صراخنا وحركتنا في أثناء النوم. يرى الطبيب المتخصص في أمراض النوم بمستشفى بيتيه-سالبيتريير (Pitié-Salpêtrière) أن:" هذا الاضطراب يثير الكثير من التساؤلات التي ما من جواب شافٍ لها؛ كما يتسبب في أزمة فقدان سيطرة حقيقية للمصابين به".
تحكي هدى البالغة من العمر 44 سنة والمصابة بهذا الاضطراب منذ طفولتها عن تجربتها قائلةً: "استيقظت ذات ليلة ونهضت من سريري ومشيت إلى أن وصلت حيثُ مهد طفلتي، ضبطني زوجي وأنا منهمكة في هدهدتها فأعادني إلى السرير دون أن يوقظني". في صبيحة اليوم الموالي لم تتذكر هدى سوى رؤيتها لحلمٍ حيث طفلتها مغطاة بالعناكب. تُسِرّ هدى: "تملكني خوف من نفسي ومما يمكن أن أقوم به منذ ذلك اليوم؛ كما لو أن من يُقدِم على كل تلك الأفعال شخص آخر سواي حيث لا سيطرة لي عليه ولا على أفعاله على الإطلاق".
يُصنف المشي في أثناء النوم تحت ما يُصطلح عليه في علم نفس ما وراء الشخصي بوضعيات الوعي غير الاعتيادية والتي يندرج ضمنها التنويم المغناطيسي، فيما يشير إليها إدوار كولو على اعتبارها حالات تفكك مرضي (تفارق) إذ يقول: "العامل المشترك بين هذه الحالات يتعلق باختفاء تيقظ الوعي وشعورنا بذاتنا كما هو الحال أثناء أدائنا أنشطتنا اليومية، وباختفائه، تتلاشى كذلك القدرة على تحليل ما نعيشه؛ ما يميطُ اللثام عن جوانب غير مكشوفة سابقاً عن شخصياتنا. حين يغيب الوعي المتيقظ مع استسلامنا للنوم، هل يأخذ اللاوعي بزمام الأمور؟ دافع في بدايات القرن العشرين الفيلسوف وعالم النفس والطبيب ومؤلف "الخواطر الداخلية واضطراباتها" (La Pensée Intérieure et ses troubles) بيير جاني (Pierre Janet) عن هذه النظرية، حيث يقارن الوعي بثريّا معلقة في السقف؛ حيث الدور الأول من الشموع المصطفة يضيء البقية. لكن حين ينطفئ أثناء نومنا، فإن الأدوار الأخيرة التي تبقى مُضاءة هي التي تتولى مهمة القيادة، وهي اللاوعي في حالة المشي في أثناء النوم. يوضح إدوار كولو:"حين يُعطّل وعينا النقدي، فإن الأبواب تفتح على مصراعيها لجوانب شخصيتنا غير المكشوفة لتظهر وتكشف عن نفسها". فالمُسرنمون في حالة انفصالٍ عن الوعي؛ حيثُ أجسادهم عربات تحركها خواطر مكانها خارج الوعي، وتمرّ أدمغتهم إلى وضع "التشغيل التلقائي" حيث اللاوعي هو المتحكم الوحيد. وذلك واحد من الأسباب النفسية للمشي في أثناء النوم. يستعيد مازن البالغ من العمر 24 سنة تمرده على والدته في سنوات مراهقته قائلاً: "كنا نتشاجر حول كل شيء، لا سيما حول الطريقة التي أرتب بها الطاولة. في إحدى الليالي ضبطتني وأنا منهمك في رمي الأواني في سلة القمامة، في صبيحة اليوم الموالي، لم أكن أتذكر أياً من ذلك".
لِمَ يجب تجنّب إيقاظ الشّخص المُسرنَم؟
خطر إيقاظ النائم خلال مشيه لا يكمن في احتمالية سقوطه جثة هامدة كما يتواتر في المعتقدات الشعبية؛ بل لأن من الممكن لهذه العودة المفاجئة إلى الواقع أن تضعه في حالة تشويش وانذهال قصوى وصدمة نفسية من شأنها أن تدفع به إلى أخذ ردات فعل عنيفة كحركاتٍ غير مدروسة أو الهروب أو حتى السقوط. لا يجب أبداً إيقاظ شخص يمشي خلال نومه حتى وإن كانت عيناه مفتوحتَين. جسَّد "إلبينور" أصغر جنود عوليس في إلياذة هوميروس هذه الظاهرة، حين نام فوق سقف قصير "كيركي" بعد أن ثمِلَ، وفورَ أن أيقظه رفقاؤه ألقى بنفسه من السطح عوض أن ينزل عبر الدرج، ومن هذه الأسطورة اشتُّقَ اسم "متلازمة ألبينور" والتي تتميز بحالة نصف يقظة يتسبب فيها القطع المباغت للنوم العميق.
اضطراب نوم أخرى
عدا المشي في أثناء النوم، ثمة مجموعة من اضطرابات النوم تنضوي تحت مسمّى الخطل النومي (Parasomnia) أو السلوكيات غير الطبيعية للشخص النائم، تجمع بينها سمة واحدة مشتركة، وهي حدوثها في أثناء النوم العميق كالتكلم في أثناء النوم (Somniloquy) وهلع النوم أو رهاب الليل الذي يصيب الأطفال أكثر، فهو ليس مجرد كوابيس تصب الهلع في قلب الطفل؛ بل حالة تشويش كبير تجعله يعجز حتى عن التعرف على والديه، ثمّ الجنس النومي (سيكسومنيا) وهو أحد اضطرابات النوم الأقل شيوعاً ويميّزه اتقاد الرغبة الجنسية، لدرجة تجعل المصابين به يقدمون على أفعال جنسية أو ممارسة الجنس فيما هُم نيام.