ثمة طريق طويل على الإنسان عبوره قبل أن يتخطى مرحلة المراهقة ويصبح شخصاً مسؤولاً يعرف كيف يتخذ القرارات الصحيحة ويحترم الآخرين ويفرق بين رغباته الحقيقية وما هو مجرد خيالات، ويترتب على الوالدين بدورهما الالتزام ببعض القواعد أيضاً ليتمكنا من مساعدة ابنهما على ذلك.
على الرغم من أن بعض الأشخاص الذين ما زالوا يعيشون في كنف أسَرِهم قد تجاوزوا سن المراهقة فإنه لا يمكن اعتبارهم راشدين في الوقت ذاته. في عام 2003، ابتكر مختص التحليل النفسي والمؤلف المشارك لكتاب "مرحلة جديدة من الحياة، مرحلة ما بعد المراهقة" (la vie, le temps de la postadolescence)، طوني أناتريلا (Tony Anatrella) مصطلحاً جديداً لوصف هؤلاء الأفراد وهو "الراشدون المراهقون"، ويفضل غالبية علماء النفس اليوم تسميتهم "الراشدين الشباب"، فهم يتأرجحون بين رغبتهم في الاستقلال من جهة وحاجتهم إلى الأمان في كنف آبائهم من جهة أخرى أما الآباء فهم في حيرة من أمرهم، فكيف يوجهون أبناءهم دون خنقهم، وكيف يساعدونهم على الاستقلال دون التخلي عنهم؟
قبل كل شيء يجب أن تعلم أن ابنك بحاجة إلى مساعدتك لتجاوز مرحلة المراهقة، ويقول الطبيب النفسي الإكلينيكي والمختص في مرحلة المراهقة فيليب هوفمان في هذا السياق: "يتطلب ذلك من الآباء التحلي بالإرادة". ويوضح المختص في كتابه الأخير "الانفصال المستحيل" (L’Impossible Séparation) صورة الأسرة المعاصرة والروابط العاطفية المعقدة والمتناقضة التي تمثل عوائق داخلها، ويقول: "على الرغم من أن هؤلاء الآباء قد استقلوا عن آبائهم فيما مضى، فهم يحاولون اليوم إبقاء أبنائهم بجانبهم ضمن علاقة تتسم بالخوف والاتكال، ففي هذا العالم المضطرب والمحفوف بعدم الأمان أصبحت العلاقة بالأبناء تمثل الملاذ الآمن والرابطة الوحيدة الدائمة بالنسبة للآباء". ويتابع: "لا عجب إذاً أن هؤلاء الآباء والأمهات مستعدون لفعل أي شيء للحفاظ على هذه الرابطة. ولذلك فهم يقدّمون الدعم العاطفي والمالي لأبنائهم دون النظر إلى كم بلغوا من العمر، وسواء كان الأبناء قادرين على مواجهة الحياة أو لا فإنه لا تعود لديهم رغبة في ترك هذا الملجأ الآمن وخوض غمارها".
علّم ابنك كيف يتأقلم مع الحياة
في حين أن مختصي مرحلة الطفولة والمراهقة يتفهمون الموقف المزدوج للآباء تجاه أبنائهم فإنهم لا يرون أنه موقف سليم. تقول مختصة العلاج النفسي للأطفال والمعالجة الأسرية ومؤلفة كتاب "اكتشف الوالد الذي بداخلك" (Découvrez le parent qui est en vous)، آن كاثرين بيرنو ماسون: "كلما وفر الوالدان الدعم العاطفي والمادي لابنهما الشاب ازداد عجزه عن خلق "مرشده الداخلي" الملائم له". وتوضح المختصة أكثر قائلةً: "إن عدم تعرض الابن إلى حد معقول من المخاطر والبقاء تحت حماية والديه ورعايتهما يجعله أكثر ضعفاً ومن ثم فهو يعجز عن الاعتماد على موارده الشخصية". ويرجع سلوك الوالدين هذا إلى شعورهما بتأنيب الضمير تجاه الابن وخوفهما من ألا تكون لديه الوسائل الكافية لمواجهة مشكلات الحياة وصعوباتها.
حدد المعالجون النفسيون الخطوط العريضة لمفهوم المسؤولية التي تتمثل في قدرة الفرد على التأقلم، واتخاذ القرارات الصحيحة لنفسه، وتطوير التفكير المستقل، واحترام الذات والآخرين، وهي كلها تصب في اتجاه واحد وهو أن يتعلم الفرد كيف يهتم بنفسه دون أن ينسى من حوله. تقول مختصة طب نفس الأطفال بياترس هوير:"يتمحور الأمر حول قدرتك على تقييم قدراتك وحدودك لاتخاذ القرارات التي ستكون بحد ذاتها تسويات بين مُثُلك العليا والواقع".
احتفل مع ابنك بالخطوات الرمزية في حياته
تتيح نقاط التحول التي تشهدها حياة المراهقين الفرصة لآبائهم لاتخاذ المسافة الصحيحة منهم، فحديث الوالدين مع ابنهما في هذه المرحلة؛ الذي يتسم بالتناقض أغلب الأحيان، يسبب له الضيق دون أن يدركا ذلك. يقول آلان براكوني: "يقول الوالدان لابنهما أنه إنسان راشد الآن، وعندما يعبّر عن طموحاته ورغباته يسألانه: هل أنت متأكد أنك مستعد لهذا الأمر؟ في الواقع هو لم يصبح راشداً بعد ولا يمكنه التأكد من أنه مستعد". وينصح مختص الطب والتحليل النفسي الآباء، حتى يتمكنوا من مساعدة أبنائهم على المضي قدماً بأنفسهم، بالاحتفال معهم بمراحل حياتهم ذات الرمزية الخاصة؛ كالحصول على الشهادة الثانوية ثم رخصة القيادة ودخول الجامعة والعثور على أول فرصة عمل أو تدريب مهني وغيرها من خلال تنظيم حفلة عائلية صغيرة مصحوبة بكلمة ملائمة للمناسبة؛ إذ يُمثل ذلك اعترافاً بمرور الابن بمرحلة أخرى نحو حياة الراشدين ما يؤدي إلى تحفيزه حتى لو لم يُظهر ذلك أو أبدى سخريته من الأمر، ومن جهة أخرى فإن هذا الأسلوب يجبر الأبوين أيضاً على اتخاذ موقف جديد من ابنهما الشاب.
ضع ابنك في مواجهة مع الواقع
لا شيء أفضل من الانغماس في الحياة الواقعية لتقييم الإحساس بالمسؤولية. تقول بياترس هوير: "لا يمكنك تقييم نفسك دون مواجهة صعوبة الفشل ومرارته والشعور بفخر النجاح أيضاً". ومن هنا تأتي أهمية وضع الأبناء في مواجهة مع الواقع دون محاولة حمايتهم بصورة مفرطة، وتتابع المختصة في طب نفس الأطفال قائلة: "اتركوا لأبنائكم الفرصة لإدارة معاملاتهم القانونية والإدارية وحتى شؤونهم الصحية؛ كما أنه لا مشكلة في الذهاب في إجازة وتركهم وحدهم في المنزل وتكليفهم ببعض الأعمال أو بالبحث عن برامج تدريب مناسبة للالتحاق بها، مع عدم إغفال النجاحات التي يحققونها أو المشاريع التي ينجزونها وتقديم النصح لهم عند الحاجة". من جهة أخرى فإن ميل الجيل الحالي من الأبناء إلى الاستهلاك يحتم على الوالدين فرض شروط للحفاظ على الميزانية، مع السماح بتجاوزات بسيطة فقط.
وعلى الرغم من ذلك لا بد للوالدين ألا ينسيا حق الأبناء المشروع، وتقول آن كاثرين بيرنو ماسون: "إن توفير احتياجات ابنك خلال دراسته هو التزام قانوني". بالطبع يمكن قبول تعرضه للفشل أو تغيير مساره أو حتى قضاء سنة دون أن يفعل شيئاً لكن على الوالدين عدم مجاراته في تنقلاته هذه دون أن يطلبا منه إظهار نتائج، بخلاف ذلك عليهما أن يكونا مستعدَّين ليقولا له بحزم أنهما لن ينفقا عليه بعد الآن والالتزام بالأمر. ولتعزيز حافز الآباء الذين قد يثير ذلك فيهم الشعور بالذنب أو القلق، يشير المعالجون النفسيون إلى أن الأمر الأهم لهؤلاء الشباب هو شعورهم بأن آباءهم يتصرفون من أجل مصلحتهم، وعندما يدركون هذه النية الخيرة والصادقة، سيكونون قادرين بعد ذلك على التساؤل عن أفضل الوسائل التي يمكنهم اتخاذها ليرسموا حياتهم بأنفسهم.