ينتحر الموظفون في فرنسا بمعدّل شخص واحد كل يوم، فخلال سنةٍ ونصف تم إحصاء 25 حالة انتحار في شركة "فرونس تيليكوم" (France Télécom) الفرنسية للاتصالات لوحدها. فما الذي تحاول هذه الأرقام الإفصاح عنه؟ هل نحن أمام مأساة مهنية تتمثل في حالات الانتحار في أماكن العمل قاد إليها نظام العمل الحديث؟
"لم ألحَظ أنّي آخذة في الانهيار، كنت أشعر أني مُهمّشة في عملي ومُنهكة وفاقدة تماماً لأي ثقة في نفسي، صرت خائفة من أيّ شيء وأواجه صعوبات كبيرة في النوم، وبالتدريج أصبحتُ انطوائية إلى أن وجدت نفسي ذات يوم أمام رئيسي في العمل أبلغه أني لم أعد أتحمّل الوضع. لم يُلقِ بالاً لما أمرّ به بل مضى في إلقاء اللوم علي. وأنا أضع قدمي خارج مكتبه كنت قد عقدت العزم على وضع حد لهذه المعاناة. كان تلك قصة شذا البالغة من العمر 52 سنةً والتي حاولت مؤخراً إنهاء حياتها، بعد أن تحوّلت مهنتُها كمديرة بدأت العمل في شركتها منذ 24 عاماً إلى معاناة لا تُطاق. هل نحن أمام معاناة كبيرة في بيئة العمل؟ الأمر أصعب من ذلك للأسف. وفقاً لدراسة أجراها المجلس الاقتصادي والاجتماعي فإن 400 حالة انتحار مرتبطة بالعمل تُسجل كل سنة. هذا دون إحصاء الحالات التي لا يتم التصريح بها.
الربح فوق الجميع
شهدت السنوات القليلة الماضية ارتفاعاً مهولاً في نسبة انتحار عمّال وموظفي شركات عالمية كبيرة، رغم أن أولى حالات هذا النوع من الانتحار داخل مقرّات العمل لم تبدأ بالظهور إلا مؤخراً قبل 20 سنة.
وفقاً لعالمة النفس آني ثيبو-موني فإن لهذه الظاهرة صلة وثيقة بضغوط العمل المتزايدة التي تشهدها أماكن العمل في السنوات الأخيرة؛ إذ صار كلّ من المردود والإنتاجية وفعالية الأداء والضّغط مُحركات سوق العمل. وتشرح قائلةً: "في غضون سنوات قليلة لم تعد الإلزامات في سوق العمل تقف عند حدّ إنجاز المهام المنوطة بالموظف؛ بل تَخطّتها إلى ضرورة تقديمه لنتائجَ ملموسة لهذه المهام ما يضع الموظفين تحت ضغط إكراهات كبيرة لتحقيق الأهداف المرسومة، ويصيرون بالتالي مطالبين بتكريس أنفسهم لفائدة مُشغّليهم، وفي النهاية يجدون أنفسهم يقفون فُرادَى في مواجهة شركة ضخمة غير قادرين على التفاوض معها بخصوص متطلبات العمل المتفاقمة". وكنتيجة لذلك؛ تتدهور ظروف عمل عدد كبير من الموظفين الذين تقدمهم الرأسمالية كبش فداء للوصول إلى الربح السريع بأقل التكاليف.
عزل الموظفين
تستعيدُ شذا بداياتها في الشركة قائلةً: "كنت أجد ما أقوم به ممتعاً وذا قيمة، كنتُ فخورة بانتمائي إلى شركتي وتفانيّ لأجل خدمتها". لكن الوضع تغيّر منذ سنتين حين ضربت موجة انتقالات وإحالات على التقاعد الفريق التي تعمل معه، وحينها وجدت شذا نفسها الموظفة القديمة الوحيدة المحاطة بزملاء عمل جُدد يصغرونها جميعاً في السن. تحكي عن هذه الفترة قائلةً: "فجأةً وجدت نفسي وحيدةً أمام جبل من المهام والأهداف التي يجب إنجازها والملفات التي ينبغي إنهاؤها، دون أدنى دعمٍ من زملائي الجدد أو رئيسي في العمل الذي لم يكن يفوت أي فرصة دون تقريعي. بدأ يسكنني هاجس أني تقدّمت كثيراً في السن ولم يعد لوجودي أي جدوى، وأن العمل الذي أزاوله بات يتطلب شباباً في سنّ زملائي الجدد". وكانت تلك بداية انطوائها على ذاتها وانهيارها النفسي الذي أدخلها في نفق مُظلم.
تصادف الطبيبة النفسي المتخصصة في أزمات بيئات العمل، بريجيت فون لو بري حالات انتحار أو محاولات انتحار مرتبطة بالعمل بشكل يومي. وتقول: "صارت بيئات العمل منذ سنوات تخلو شيئاً فشيئاً من أي مظهر من مظاهر الدّعم المتبادل؛ كما بدأت تُنحيّ قيم العمَل الجماعي جانباً في حين أن الأساس في العمل أنه جماعيّ لا فردي. وما هذه النهايات المأساوية التي نسمع عنها ونعايشها إلا نتيجة حتمية لهذه العزلة التي صار الموظفون يُدفعون إليها دفعاً".
التفاني
ما مصدر الفكرة الجمعية التي تكوّنت في الأذهان بأن الانتحار فعل يُقدِم عليه الشخص وحدَهُ، بسبب الهشاشة النفسية أو المشكلات العاطفية أو الزوجية أو الأسرية؟ تجيب بريجيت فون لو بري عن هذا السؤال: "كلّ إنسان يدبّ على هذه الأرض مُعرض لمشكلات من هذا النوع إلا أن الانتحار الذي يحصل في مكان العمل هو بمثابة ضوء يُسلَّط ليكشف عن تجاوزات تحصل داخل الشركة. تجد أغلب الموظفين الذين ينهون حياتهم تفانَوْا في خدمة شركتهم ولم يبخلوا لا بوقتهم ولا جهدهم ولا طموحهم على المكان الذي يعملون فيه، إلى أن وجدوا أنفسهم في النهاية أمام طريق مسدودة غير قادرين على مواجهة أوضاعٍ مهنية معقدة تفوق قدراتهم وتتخطّى صلاحياتهم". وهو بالضبط ما حصل في شركة فرونس تيليكوم؛ إذ عمدت إلى تنزيل رُتبة عدد كبير من موظّفيها الذين قَضَوْا أكثر من عشرين عاماً في بناء مسارهم المهني كمهندسين أو تقنيين ليجدوا أنفسهم في النهاية موزّعين بين مراكز الاتصال لخدمة العملاء، والمحلّات لبيع الهواتف النقّالة.
تضيف آني تيدو-موني: "بمجرد أن يقع الانتحار في مكان العمل يتحول إلى حادثة عمل؛ وبالتالي فإن الكشف عن ملابسات هذه الحادثة يقع على عاتق المؤسسة لا الموظّف". لكن توجيه أصابع الاتهام نحو شركة فرونس تيليكوم وطريقة إدارتها الداخلية تأخّر إلى سنة 2009 حين تمّ الكشفُ عن رسالةٍ تركها أحد موظّفيها قبل انتحاره يقول فيها:"لقد أقدَمتُ على الانتحار بسبب عملي في شركة فرونس تيليكوم، وليس لانتحاري أيّ سبب آخر غير ذلك".
بداية المأساة
مَثَّلتْ تلك الواقعة بداية سقوط أحجار الدومينو؛ إذ توالت بعدها حالات الانتحار في فرونس تيليكوم لتبلغ في سنة 2008 وحدها 25 حالة، وبدأت الألسن تتناقل عبارة "عدوى" وأيَّدها في ذلك الرأي العام، فالعدوى الانتحارية (أو ما يُعرف بـ "الانتحار بالتقليد" و"عدوى الانتحار") ظاهرة منتشرة بين المراهقين في الأساس، أما ما حصل في الشركة الفرنسية فهو لا يندرج قطعاً ضمنها حسب رأي آني تيبو-موني التي تؤكد: "لا يتعلق الأمر هنا بانتقال عدوى الانتحار من موظف إلى آخر؛ بل بظروف عملٍ مشتركة بين هؤلاء الموظفين أوصلتهم إلى مستوىً معين من اليأس دفع بهم إلى إنهاء حياتهم. الأمر واضح، فالأسباب نفسها ستقود حتماً إلى النتائج نفسها!".
منذ سنوات والباحثون والأطباء وعلماء النفس يدقون ناقوس الخطر للانتباه إلى ما قد يترتب عن ارتفاع ضغوط العمل التي يسببها كلّ من النزعة الإنتاجية والضغط المتزايد وعدم تقدير عمل الموظفين، وقد أجمعوا جميعهم على أن سيل الانتحارات هذا لن يتوقف إلا بإيجاد سياسة عملٍ جديدة، فمن شأن إعادة إرساء جوّ المودة والدعم داخل الشركة وفتح الباب للحوار أن يُشَكِّل نقطة انطلاق جيدة قد تحُدّ من معاناة العمل ومأساة الموظفين.