بسبب قلة ثقتها بنفسها؛ يسيطر على لبنى شعور دائم بالضعف يمنعها من التطور سواء على الصعيد المهني أو الشخصي، وفيما يلي نعرض لكم تجربتها مع العلاج بالتعرض السردي وكيف ساعدها على تجاوز مصاعبها.
آلية العلاج بالتعرض السردي
على حافة الكرسي، منحنية إلى الأمام قليلاً جلست لبنى التي كانت تحاول تجنب نظرات المعالج النفسي، وبدأت بالتحدث عن نفسها. تعمل لبنى مديرةً لقسم التسويق في إحدى الشركات وهي تعجز عن إيصال أفكارها في العمل؛ كما أن حالتها المادية أقل يسراً مقارنةً بزملائها وأصدقائها، أما حياتها العاطفية فلم تكن أحسن حالاً، وقد أدت كل هذه العوامل إلى إضعاف ثقتها بنفسها أكثر فأكثر بمرور الوقت.
يقول المدرب ومختص العلاج النفسي بيار بلان سانون: "عندما يبلغ الفرد منتصف العقد الرابع من العمر، فإنه يشعر بالإرهاق من الصعوبات التي تمثل حلقةً مفرغةً وينضج بما يكفي ليتمكن من تحديد السيناريوهات السلبية المتكررة في حياته". ويتابع: "لذا فقد كانت لدى لبنى رغبة قوية في التخلص من مشكلاتها، وعندما رأيتها مكتئبةً جداً سألتها: ما المشكلة التي تمثل العائق الأكبر في حياتك؟ فأجابت: "التردد الدائم". ولأتيح لها الفرصة للتفكير في نفسها فقد أوضحتُ لها بنبرة هادئة مدى جدية وضعها ثم نهضتُ لإعداد بعض القهوة وعرضتُ عليها احتساء فنجان فقالت: "نعم، يسرني ذلك"، فسألتها: "هل تعافيتِ فجأةً يا لبنى؟ بعد أن احتسينا القهوة عادت لبنى إلى كرسيها وعلى وجهها علامات الاستغراب من كلامي فقلتُ لها: "هل رأيتِ أنكِ قادرة على اتخاذ القرارات؟ تنطوي حياة الإنسان على اتخاذ القرارات بصورة مستمرة ولا يبدو لي أن لديكِ مشكلة كبيرة في ذلك".
ويتابع المعالج: "كنا في حالة لبنى أمام قصتين؛ الأولى هي عجزها عن اتخاذ القرارات والثانية هي القصة المعاكسة لها أي قدرتها على اتخاذ القرارات بسهولة". يتمحور مفهوم العلاج بالتعرض السردي حول اكتشاف القصص التي تشكل شخصية المريض وتحديد ما يسيطر عليه منها عليه ويجبره على اتباع أنماط سلوكية معينة، فهذه القصص التي يلقنها الفرد لنفسه هي الطريقة التي يدرك من خلالها تجاربه الحياتية. ويبني الفرد هذه القصص على معتقداته التي يستمدها من عائلته وثقافته وتربيته، ودورها الحاسم في طبيعة السلوكيات التي يتخذها عند مواجهة الصعوبات والمِحن واتخاذ القرارات، لذلك يمكننا القول إن مخزون قصصنا يخلق هويتنا. وهكذا، فإن دور المعالج هو مساعدة المريض لينفصل عن مشكلته وينشئ قصة أخرى جديدة بناءً على سلوكياته الإيجابية التي لا تقف مشكلاته عائقاً في وجهها.
ويوضح بيار بلان سانون: "نعتمد في ذلك فقط على التجربة الواقعية وليس على السيناريوهات الخيالية، لذلك سألتُ لبنى عن طريقتها في اتخاذ القرارات في حياتها اليومية، فلم تتمكن من الإجابة". من ناحية أخرى أوضحت لبنى أنها تشعر بالتردد عندما يتعلق اتخاذ القرار بأناس آخرين وليس بها وحدها؛ إذ إنها تخشى أن تسبب لهم الأذى أو الكدر. وبناءً على هذه المعلومة الجديدة سأل المعالج لبنى أن تصف له سلوكها هذا، فأجابت: " إنه الاحترام". يقول المعالج: "وهكذا ظهرت قصة ثالثة، فأجرينا محادثةً حول مكانة الاحترام في حياتها وأخبرتني لبنى أن جدتها نقلت لها هذه القيمة كمبدأ من مبادئ الحياة. لذلك فإن ما كانت تعتبره مشكلةً كان في الحقيقة حالةً من المثالية، وقيمةً إيجابيةً يمكن أن نبني عليها قصةً جديدةً ونربطها بمهاراتها الشخصية وهذا هو أساس العلاج بالتعرض السردي، فنحن جميعاً نتمتع بالمهارات لكن الاستسلام للقصص السلبية التي ننشئها يمنعنا من رؤيتها".
من خلال أسئلة محددة؛ يساعد المعالج الشخص على بناء قصة جديدة وربطها بماضيه ومستقبله ونفسه ورغباته وأهدافه وآماله وعلاقاته بالآخرين. وبعد أن أدركت لبنى أنها ليست هي مصدر المشكلات التي تعانيها تمكنت من بناء قصة جديدة غيرت نظرتها إلى نفسها بصورة جذرية. ويختتم بيار بلان سانون بالقول: "وهكذا يصبح الإنسان وكأنه يكتب حياته من جديد. يُعد العلاج بالتعرض السردي أسلوباً فعالاً في تعزيز المرونة النفسية أي القدرة على إعادة بناء الذات بعد التعرض للفشل أو مواجهة الصعوبات والمحن، فهو يتيح للفرد الاضطلاع بدور مهم في العلاج من خلال التواصل مع ذاته وإدراك سلوكياته الإيجابية وقيمه وقدرته على اتخاذ المبادرة وتمكين الروابط الاجتماعية، وبمعنى آخر بناء حياته".
نبذة تاريخية عن هذا النهج العلاجي
أسس المعالج والمختص الاجتماعي الأسترالي ميكايل وايت (1948-2008) مركز دولويتش (Dulwich Center) في مدينة أديلايد بأستراليا؛ حيث قدم العلاج الأسري وعمل على تطوير العلاج السردي حتى بدأ باعتماده كنهج علاجي رفقة المعالج النيوزيلندي داڤيد إبستون. يشبِه العلاج بالتعرض السردي إلى حد كبير العلاج الموجز الذي يركز على الحلول المباشرة والذي ابتكره الطبيب النفسي الأميركي ستيڤ دو شازي، وتندرج طريقته هذه في سياق النُهُج القائمة على الكفاءة.
بدأ العلاج بالتعرض السردي، الذي يرتكز على استعانة الشخص بموارده الشخصية، في تحقيق نجاح كبير في البلدان الناطقة باللغة الإنجليزية منذ نهاية الثمانينيات، وظهر في فرنسا مؤخراً، في يوليو/تموز 2004، بعد أن قدّم مايكل وايت أولى ندواته. ويستخدم هذا النهج اليوم المدربون والمعالجون وعلماء النفس والمستشارون والمختصون الاجتماعيون.