على مدار 10 سنوات، عانت سمر من مرض فقدان الشهية العصبي، وهي معنا اليوم لتشاركنا تفاصيل هذه الفترة المؤلمة من حياتها وتطلعنا على هذا المرض الذي ما زالت أسبابه مجهولةً إلى حد كبير بالنسبة إلى الأطباء.
بدأ كل شيء عندما بلغتُ الثامنة عشرة من عمري؛ إذ أُصبتُ بداء كثرة الوحيدات قبل بضعة أشهر من امتحان الشهادة الثانوية، وفقدتُ بسبب ذلك بضعة كيلوغرامات من وزني فأعجبني الأمر وقررت البدء بحمية غذائية دون وضع أسس محددة. توقفت عن تناول الحلوى، ثم حذفت أصنافاً كاملةً من طعامي كالنشويات واللحوم وغيرها حتى انتهى بي الأمر بتناول الخضار والفواكه والحليب فقط، كما صرت أشرب لترات من الماء كل يوم لأملأ معدتي.
وأصبح اختصار كمية الطعام التي أتناولها لخسارة مزيد من الوزن هوساً بالنسبة إليّ، تماماً كما كنت مهووسةً بالدراسة لأنجح في امتحان الشهادة الثانوية؛ إذ كانت حياتي كلها تتمحور حول هذين الهدفين ولذلك فقد حرمت نفسي من كل الملذات، وابتعدت عن الحياة الاجتماعية.
ظننت أنني أتحكم في عالمي كما أرغب
اكتسبتُ عادات يومية "هوسية" فكنت أزن نفسي وأقيس محيط خصري طوال الوقت. وإضافةً إلى خسارة الوزن بصورة واضحة فقد عانيتُ من تساقط الشعر وانقطاع الطمث لكن ذلك لم يقلقني لأن دورتي الشهرية لم تكن منتظمةً تماماً في الأساس.
كان الشعور بفقدان الشهية يمثل نجاحاً حقيقياً بالنسبة إليّ، فمع الصعوبات التي واجهتها في علاقتي بالعالم الخارجي وعجزي عن تأكيد ذاتي فيه كنت أظن أنني أتحكم في كل تفاصيل عالمي الخاص الذي كان يتمحور حول خسارة الوزن والدراسة بجد، ولم أدرك أنني كنت أرتكب خطأ كبيراً. وعلى الرغم من تحذيرات أقاربي لي فإن شيئاً لم يتغير فقد كنت مصممةً على السير بخطىً ثابتة في هذه الرحلة المدمرة وبأي ثمن كان.
في سن الثانية والعشرين وصل وزني إلى 32 كيلوغراماً فقط مع العلم أن طولي يبلغ 1.60 سنتيمتراً وكنت أشعر بأن جسدي ينهار. وفي شهر مايو/أيار ذهبت لزيارة والديّ؛ إذ كنت قد انتقلت للسكن وحدي لأنني لن لم أكن لأتمكن من ممارسة "عاداتي اليومية" إذا بقيت معهما. رفض والديّ أن أعود إلى المنزل وحدي وقررا مرافقتي وخلال طريق العودة أوضحتُ لهما كيف أريد لترتيبات جنازتي أن تكون بما في ذلك قائمة الحضور ونوع الزهور التي أفضل أن يضعاها لي وأدركتُ بعد فوات الأوان أنني ربما كنت أصف حفل الزفاف الذي أتمناه اليوم. لقد كنت أتجه بسرعة نحو مصيري المحتوم، وهو الموت.
وصلنا إلى منزلي، وكنت أتمنى أن يعود والديّ إلى منزلهما لكنهما رفضا تركي بعدما رأيا مدى الضعف الذي أعاني منه؛ إذ كنت أشعر بأن جسدي وعقلي ينهاران إلى أن انهرتُ بالفعل في النهاية ووافقتُ على الذهاب إلى المستشفى، وهناك قيل لي أنني لو تأخرت ساعتين إضافيتين لكنت فارقت الحياة فابتسمتُ غير مدركة لما يعنيه هذا الكلام، وكنت أظن أنني سأمكث في المستشفى لأسبوع على الأكثر. بالعودة إلى ذلك الوقت، فعلى ما يبدو أنني كنت قريبةً جداً من الموت إلى درجة أنني اتخذت قراراً غير واعٍ بالتشبث بالحياة، فقد كان عليّ الاختيار بين الموت والحياة، واخترت الأخيرة، ولا يمكنني تفسير هذا التحول سوى بأنني شعرت بأن الموت كان يقترب مني بالفعل.
فقدان شهية العصبي ليس مجرد تقلب عابر
لم يكن المستشفى الذي مكثت فيه لشهرين متخصصاً في حالات فقدان الشهية العصبي فقد طبق الأطباء النهج العلاجي المتعارف عليه في مثل هذه الحالات وهو نهج طبيب الأعصاب الفرنسي جان مارتن شاركو الذي يتمحور حول عزل مريض فقدان الشهية العصبي عن العالم الخارجي ليتمكن من التركيز على نفسه. لذلك فقد أُخذ مني هاتفي المحمول وكنت أرى والديّ بين وقت وآخر ولمدة ربع ساعة فقط ومُنعتُ من النهوض من السرير وكان ذلك يصيبني بالضيق لأنني مفرطة النشاط بطبيعتي، وكانت مهمتي الوحيدة هي تناول الطعام، وبسبب هذا الوضع صرت أشعر بأنني لم أعد إنساناً بل مجرد جسد يكتسب الوزن. لم يحاول أحد البحث في أسباب إصابتي بمرض فقدان الشهية العصبي وعلى الرغم من أنني اكتسبت 8 كيلوغرامات وبدأت بالتعافي جسدياً فلم يكن ثمة أي نوع من المتابعة النفسية لحالتي فخلال شهرين من إقامتي في المستشفى لم أرَ المعالج النفسي سوى 3 مرات، ولم تكن استعادة كل هذا الوزن الذي خسرته عمليةً سهلةً بالنسبة إلي.
إن فقدان الشهية العصبي ليس مجرد تقلب تمر به فتاة مراهقة بسبب شعورها بعدم الرضا عن صورة جسدها؛ بل أحد اضطرابات الأكل، وهو اضطراب نفسي في المقام الأول. وهذا ما أخافني، فالنحافة المفرطة هي العرض الظاهر فقط من مرض فقدان الشهية العصبي الذي يتطلب علاج الأعراض الجسدية والنفسية أيضاً ذلك أن جسد الإنسان ونفسه مرتبطان ارتباطاً وثيقاً ببعضهما. وبسبب عدم خضوعي للعلاج النفسي وجدت نفسي في المستشفى مرةً أخرى بعد سنة.
لاحقاً لذلك تمكنت من الخروج من هذه الدائرة الجهنمية بعد أن عثرت على طبيب متخصص في علاج العظام، يعتمد في نهجه العلاجي على ربط الأعراض الجسدية والنفسية معاً. لقد كان على استعداد لمنحي الاهتمام اللازم والاستماع إليّ وفهم المحنة التي أعاني منها والاهتمام بمستقبلي وليس ماضيّ فقط. خلال الجلسات، استحضرتُ حادثة تعرضي للاغتصاب عندما كنت في السادسة عشرة من عمري؛ التي كانت تعود إلى ذهني أيضاً كلما كان عليّ العمل على مقال يتناول موضوع الاغتصاب عندما كنت في كلية الصحافة. لقد كبتُ في داخلي الضرر النفسي الذي سببته لي هذه الحادثة آنذاك لكن كل ما نكبته سيظهر مجدداً بصورة أو بأخرى في مرحلة ما من حياتنا.
وافق طبيبي على مساعدتي، وإضافةً إلى العلاج الجسدي تضمنت الجلسات علاجاً نفسياً لمساعدتي على إدراك ما حدث في ذلك اليوم، لقد كانت حادثةً عنيفةً وبكيت كثيراً في أثناء الحديث عنها. عندما أدركت أن تعرضي للاغتصاب كان السبب في عدم قدرتي على حب نفسي شعرت بارتياح كبير، وعلى الرغم من ذلك فإن هذه الحادثة لم تكن السبب الوحيد لإصابتي بمرض فقدان الشهية العصبي، لذا فقد بحثنا في جوانب أخرى من مراحل حياتي المختلفة.
لقد تعافيت اليوم تماماً من المرض؛ لكن رحلة التعافي هذه استغرقت مني 10 سنوات عصيبة يذكّرني بها جسدي أحياناً عندما أنظر إليه. ألهمتني هذه المحنة لتأليف كتاب عنها وكان هنالك معالج نفسي برفقتي في أثناء الكتابة لأن الانكباب على كتابة تفاصيل حادثة الاغتصاب كان تجربةً نفسية عنيفةً جداً بالنسبة إليّ.
وعلى الرغم من ذلك فقد كان لهذا الكتاب جانب علاجي لأنه سمح لي بفهم نفسي بوضوح؛ إذ عرفت أنني لطالما أردت أن أكون كاتبةً لكن هذا الاضطراب منعني من تحقيق رغبتي لأنني كنت عاجزةً عن التفكير فيها أساساً. ومن جهة أخرى فقد كان ذو جانب توعوي أيضاً لأنني سعيت من خلاله إلى تغيير الطريقة التي يُنظر بها إلى مرض فقدان الشهية العصبي، وإخبار الناس الذي يعانون منه أنه بمقدورهم تحطيم هذه الأغلال.