تتعدد أنماط العمل في بيئة العمل الحديثة ما بين العمل بدوام كامل أو جزئي أو العمل الحر، وكذلك تختلف ساعات العمل. وظهر "نظام المناوبات" في العمل. فلم يعد العمل لثماني ساعات متواصلة من الصباح وحتى المساء هو الشكل الشائع للعمل.
في حين قد يبدو الأمر مجرد اختلاف في ساعات العمل وطبيعته؛ إلا أن الأمر يمتد لأبعد من ذلك. حيث يأتي تغيير إيقاع الساعة البيولوجية للعاملين بنظام المناوبات -خاصة الليلية- بحفنة من الآثار السلبية على الصحة البدنية نتيجة خروج ساعة الجسم البيولوجية عن مسار دورة الضوء والظلام العادية؛ ما يؤدي إلى اضطرابات النوم، أمراض القلب والأوعية الدموية، السمنة والسكري.
بالإضافة إلى ما سبق؛ أشار بحث حديث من قسم علم النفس بجامعة سيغموند فرويد الخاصة بالنمسا، لآثار سلبية لذلك النظام في العمل على الصحة النفسية ووظائف الدماغ العليا؛ مثل سرعة المعالجة العقلية للمعلومات والذاكرة العاملة.
ضعف الذاكرة العاملة والقدرة على التركيز
كشف البحث الذي تضمّن 18 دراسة نُشرت حتى أبريل/نيسان 2021، وشملت 18,802 من المشاركين الذين يبلغ متوسط أعمارهم 35 عاماً؛ والتي بحثت في تأثير العمل بنظام المناوبات على الأداء السلوكي والمعرفي لدى البالغين، أن أداء العاملين كان أسوأ في المهام المرتبطة بالانتباه والذاكرة العاملة وسرعة معالجة المعلومات، مقارنةً بالعاملين الذين لا يعملون بذلك النظام.
كما اقترح الباحثون ارتباط ذلك النظام بمستويات منخفضة من اليقظة، القدرة على التركيز البصري وتصفية الإشارات المرئية غير المهمة، والقدرة على التحكُّم في الانفعالات؛ ما يزيد من مخاطر ارتكاب الأخطاء وإصابات العمل.
يعزي الباحثون تلك النتائج إلى حدوث تعارض بين طبيعة العمل وإيقاع الساعة البيولوجية؛ ما يؤثِّر على الهرمونات التي تحكمها - الكورتيزول والميلاتونين- والتي بدورها تعرقل دورة النوم والاستيقاظ الطبيعية.
عواقب مناوبات العمل على النوم والصحة العقلية
أشار الباحثون في دراسة أخرى من كلية الطب بجامعة ماريلاند الأميركية هدفت لتحديد مدى تأثير العمل بنظام المناوبات على النوم والصحة العقلية، إلى انتشار الاضطرابات النفسية؛ بما في ذلك الاكتئاب والقلق، بشكل كبير بين الأفراد الذين ينخرطون في العمل بنظام الورديات.
بالنسبة إلى هؤلاء الموظفين، فإن تعويض ما فقدوه من نوم منتظم خلال فترة الليل يمكن أن يكون مهمة صعبة للغاية.
لفهم تأثير ذلك النظام بشكل أفضل؛ راجع الباحثون 23 مقالة بحثية من عام 2016 إلى منتصف عام 2019 في هذا السياق؛ شمل نصفها المتخصصين في الرعاية الصحية، بينما ركَّز النصف الآخر على مهن مختلفة؛ مثل ضباط الشرطة وموظفي تكنولوجيا المعلومات، وغير ذلك.
لاحظ الباحثون أن العمل بنظام الورديات يتسبب في قلة النوم والأرق، فضلاً عن ضعف القدرة على التركيز في وقت الاستيقاظ وكذلك خلال ممارسة الأنشطة المختلفة؛ الاجتماعية والترفيهية.
يشير مؤلفو الدراسة أيضاً إلى صعوبة الحفاظ على عادات نوم صحية بالنسبة للعاملين بالمهن الطبية، فغالباً ما يتناقض ذلك مع متطلبات عملهم. نتيجة لذلك؛ أظهر ما يقرب من نصف العاملين بنظام النوبات عدم رضاهم عن صحتهم، و58.2% كانوا غير راضين عن نومهم، وكان 28.3% غير راضين عن صحتهم الجسدية والعقلية.
محبو السهر أكثر مرونة
يشير الدكتور "إيمرسون ويكواير" (Emerson Wickwire)؛ أستاذ مساعد في الطب النفسي بجامعة ميريلاند وأحد مؤلفي الدراسة ذاتها، في مقالة منشورة بموقع "سايكايتري أدفيزور" (Psychiatry Advisor) إلى أن العاملين بنظام المناوبات يواجهون ظروفاً غير عادلة للحصول على قسط من النوم والراحة المطلوبة أو قضاء الوقت مع العائلة والأصدقاء.
يضيف ويكواير أن لكل منا نزعة بيولوجية فطرية تسمى النمط الزمني؛ والتي تشير إلى الإيقاع الداخلي الطبيعي للجسم ويتحدد بناءً عليها ميل الفرد ليكون شخصاً محباً للسهر أو صباحياً. وإن ذلك النمط الزمني يتحدد جزئياً بالجينات، بالإضافة إلى عوامل قابلة للتعديل مثل البيئة والسلوك.
ومقارنةً بالأشخاص الصباحيين؛ يتمتع محبو السهر بمرونة أكبر في التكيف مع العمل بنظام المناوبات.
أما على جانب الصحة البدنية، فيمكن أن تكون عواقب العمل بنظام المناوبات شديدة الخطورة. فالأشخاص الذين يعملون في نوبات هم أكثر عرضة للإصابة بالسكتة الدماغية، السمنة، أمراض القلب والأوعية الدموية، والسرطان. علاوة على ذلك؛ يمكن أن يكونوا أكثر عرضة للاضطرابات النفسية بما في ذلك الاكتئاب والقلق. حيث يعتمد العديد من الأفراد على الكحول أو المواد المسببة للإدمان الأخرى للتعامل مع مشاكل النوم والتوتر، وفقاً لويكواير.
كما أن النوم غير الكافي والمضطرب يمكن أن يؤدي إلى تفاقم أو إطالة الاضطرابات الصحية العقلية والنفسية، وتدهور جودة الحياة بشكل عام.
النوم الصحي لمواجهة الإرهاق
ينصح ويكواير بضرورة استهداف جدولة أوقات عمل الموظفين وتشجيع النوم الصحي كطريقة حاسمة لمواجهة الاتجاه المتزايد للإرهاق بين العاملين في مجال الرعاية الصحية، وضرورة تعزيز التدابير الوقائية المضادة مثل القيلولة والمراقبة المنتظمة للعاملين، لتقليل المخاطر والحفاظ على سلامتهم.
وختاماً؛ قد تقتضي طبيعة العمل في كثير من الأحيان إحداث تغيرات في حياة الفرد؛ لكنها يجب ألا تأتي على حساب الصحة وجودة الحياة، ذلك لأن ما قد يخسره الفرد بعدم اتخاذ التدابير اللازمة للحفاظ على صحته قد لا يكون له بديل.