قد يبدو من الصعب تخيّل عيش حياة بلا أحداث أو تجارب صادمة؛ الفكرة نفسها غير منطقية ولا تمت للواقع بصلة، فالحياة التي نعيشها كل يوم دائماً ما تكون محفوفة ببعض المتغيرات السلبية والإيجابية المتسارعة التي لا نستطع التحكم دائما فيما تؤول إليه.
لكن ما سبق لا يعني الاستسلام ورفع الراية البيضاء، فقد طوّر المختصون النفسيون والباحثون الأكاديميون أساليبَ عملية وتقنيات علاجية يمكن من خلالها تخفيف وطأة أي أحداث أو تجارب صادمة قد يمر بها الإنسان خلال أي مرحلة من حياته.
دعونا نتعرف معاً أكثر على أحد هذه الأساليب الناجحة في التعامل مع بعض أنواع الصدمات النفسية التي قد تواجه الصغار والكبار دون استثناء؛ حيث يبرز دور علاج التعرّض السردي في إنشاء قصة حياة متماسكة يمكن من خلالها تأطير التجارب المؤلمة.
ماهية علاج التعرّض السردي
في البداية من المهم جداً التطرّق لمعنى "تأطير التجارب المؤلمة"؛ والذي يُقصَد به مساعدة المُصابين باضطرابات الصدمات في خلق إطار معيّن علاجي في بيئة آمنة وداعمة لأحداث أو تجارب صادمة قد حدثت لهم.
والجدير بالانتباه أن القصة التي يرويها الشخص لنفسه عن حياته من شأنها التأثير على كيفية إدراكه لتجاربه المختلفة ومستوى رفاهيته؛ ما يعني أن تأطير قصة حياة الإنسان حول التجارب السلبية والمؤلمة والصادمة فقط، قد يؤدي إلى الشعور المستمر بالصدمة والضيق.
ويصف مصطلح "علاج التعرّض السردي" (Narrative Exposure Therapy) ومختصره (NET)، أسلوباً علاجياً يُستَخدم لعلاج اضطرابات الصدمات، وخاصة في الأفراد الذين يعانون من الصدمات المعقدة أو المتعددة، بحسب الجمعية الأميركية لعلم النفس (APA).
متى يستخدم المختصون علاج التعرّض السردي؟
برز استخدامه بشكل متكرر في بعض البيئات المجتمعية، ومع الأفراد الذين سبق وعانوا من صدمات حدثت نتيجة لصراعات سياسية أو ثقافية أو اجتماعية كتلك التي تحدث مع اللاجئين، كما تصف الجمعية الأميركية لعلم النفس (APA).
وفي كثير من الأحيان قد تتلقى مجموعات صغيرة من الأشخاص من 4 إلى 10 جلسات من علاج التعرّض السردي بشكل جماعي، مع توفّر إمكانية تقديمها بشكل فردي أيضاً.
استخدامه مع اضطراب ما بعد الصدمة
يُستخدم هذا الأسلوب العلاجي بإشراف وتوجيه من معالج نفسي مختص مع الأشخاص الذين عانوا أو لا زالوا يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)؛ بحيث يُطلَب من المسؤول عن تطبيق هذا النهج العلاجي الفريد من نوعه عدد من العناصر الأساسية المُعزِّزة لسلوكه مثل:
- الفهم الرحيم (Compassionate Understanding): يصف ممارسة التراحم خلال الاستماع والحديث مع المُصاب باضطراب نفسي، ويشمل فهم تعاطفي معه ومع مشاعره وتجاربه مُحفزاً الرغبة الصادقة في تخفيف معاناته.
- الاستماع الفعال (Active Listening): يصف أسلوب الاستماع والاستجابة والحضور الكامل لحظة الحديث مع المُصاب باضطراب نفسي، ما يعزز من مستوى التفاهم المتبادل.
- الاحترام الإيجابي غير المشروط (Unconditional Positive Regard): يعني قيام المعالج النفسي بإظهار قبول عام للمُصاب باضطراب نفسي وذلك بوضع آرائه الشخصية وتحيزاته جانباً وبعيداً عن الجلسات العلاجية.
- التحالف العلاجي (Therapeutic Alliance): يصف العلاقة بين المختص النفسي والمُصاب باضطراب نفسي والتي تهيئ الطريق لخلق أهداف مشتركة يستطيعان من خلالها تحقيقها.
وبعد توفّر العناصر السابقة يُطلَب من المريض تأسيس سرد زمني لحياته، مع التركيز على تضمين بعض الأحداث الإيجابية بشكل أساسي إلى جانب تجاربه المؤلمة والصادمة.
فمن خلال تحويل اتجاه تركيز المريض وتحسينه؛ يضع المريض سياقاً جديداً يحوي في إطاره شبكة من الذكريات المعرفية والعاطفية والحسية التي ترافق تلك الأحداث أو التجارب الصادمة.
وبفعل ما سبق؛ ينتج لدى المُصاب باضطراب ما بعد الصدمة القدرة والإدراك المعرفي الذي يعينه على صقل تلك الذكريات الصادمة وبالتالي فهمها على الوجه الأمثل؛ ما يساعده في التعبير بشكل سردي عن تفاصيل الذكريات المتشظية -المتناثرة- وتطوير قصة شخصية متماسكة.
افتراضات علاج التعرّض السردي
تُبنى الخطة العلاجية المعتمدة على علاج التعرّض السردي على عدد من الافتراضات التي يجب توافرها في المعالج النفسي المختص وبيئة العلاج النفسي ومسار الأسلوب العلاجي حتى تتم الاستفادة منه بالشكل الأمثل.
فحسب الطبيب دان برينان؛ المراجع الطبي لمنصة "ويب إم دي" (WebMD) يفترض علاج التعرّض السردي ما يلي:
- يجب أن يكون جو العلاج مهنياً ومُرحِّباً ويسوده الاحترام المتبادل دون إطلاق الأحكام الاستباقية.
- المريض ليس المشكلة أبداً؛ إنما تكمن المشكلة في مجموعة من العوامل التي عايشها.
- لا توجد مشكلة لها تأثير كامل على حياة الإنسان، فهناك لحظات وعلاقات وأحداث تظل نقية وغير متأثرة بالصدمة التي مر بها.
- لا توجد نسخة واحدة للحقيقة التي يحملها المريض في ذاكرته، فقد تكون لديه وجهة النظر الخاصة به للواقع الذي عشاه ويعيشه، ولدى شخص آخر وجهة نظر خاصة به أيضاً، وهكذا تتعدد النسخ التي تُجسِّد الحقيقة.
- عندما نربط المعنى بشيء ما، حتماً سوف يكون له أساس في السياقات الاجتماعية والثقافية والسياسية.
- المريض يعرف مساره في حياته أكثر من أي شخص آخر مهما كانت صلة القرابة أو درجة القرب، لذا يمكن للمريض أن يصبح مؤلفاً أو راوياً لقصته الخاصة.
- عندما ينشئ قصته، يكون قد حدد بالفعل معنى الأحداث في حياته، فروايته تؤثر في كيفية رؤيته لنفسه وعيش حياته.
- قد لا يرى قدراته وإمكانياته الكاملة، وربما يبحث عن علاج لأنه ينتقص من نفسه.
- تعظيم مهاراته وقدراته يعني إمكانية تعزيز تحكمه في حياته ومساعدته على تجاوز الصدمات التي حدثت في الماضي.
- طلب المساعدة المختصة يعني بالضرورة محاولة المريض بالفعل تقليل تأثير الصدمات السابقة في حياته.
البقاء في الحاضر وعدم فقد الاتصال به
من المهم جداً ألا يفقد المريض الاتصال بالحاضر خلال سرد التجربة الصادمة واستعادة مشاعره التي مر بها، وعواطفه وأفكاره والمعلومات الحسية والاستجابات الفيزيولوجية بالتفصيل.
لذلك يتم تحقيق البقاء في الحاضر وعدم فقد الاتصال به من خلال استخدام التذكيرات المستمرة والدائمة بأن المشاعر والعواطف والاستجابات الجسدية التي تحدث نتيجة تلك الذكريات مرتبطة بحقائق عرضية زمنية ومكانية، حتى يتم إعادة معالجتها وتوحيدها مع الهدف المراد تحقيقه من العلاج،وذلك الهدف هو ما يوثقه المعالج النفسي المختص في سيرة شخصية للمريض عند انتهاء العلاج.
مرونة علاج التعرّض السردي
لا يحتاج المريض إلى اختيار حدث مؤلم واحد من بين العديد من الأحداث التي مر بها طوال حياته عندما ينخرط في سرد قصة حياته بأكملها؛ بل يُمنَح في هذا الأسلوب العلاجي حرية التفكير في حياته بأكملها مع تعزيز شعوره بذاته.
ويساعد استعراض السيرة الشخصية وسردها بشكل مختلف ذي إدراك معرفي شمولي على فهم التجارب ووضع سياق للاستجابات العاطفية المترابطة؛ ما يُسهِّل التكامل وفهم الأنماط والمخططات السلوكية التي ظهرت أثناء مرحلة تطور الاستجابة لها.
ويختلف علاج التعرّض السردي عن العلاجات الأخرى في تركيزه الواضح على جعل المريض يتبنّى إدراكاً مختلفاً وينشئ وعياً جديداً أو ذاكرة مختلفة لما حدث، بطريقة تعمل على استعادة احترامه لذاته والاستبصار بحقوقه كإنسان.
وبالنسبة للكثير من الذين اختاروا ويختارون علاج التعرّض السردي، فإن معرفة إمكانية تلقي سيرة شخصية مكتوبة بصيغة مختلفة في نهاية الخطة العلاجية يُعد حافزاً لاستكماله.
في النهاية؛ يبدو هذا النهج العلاجي ناجحاً في تحويل مسار اللوم وفصل المشكلة عن المصاب باضطرابات الصدمة وإعطائه بعض المساحة للتراحم والتعاطف مع نفسه.
كما يتميز علاج التعرّض السردي بعدم تسليطه الضوء على تغيير المريض لنفسه؛ وإنما تأطير الأحداث والتجارب الصادمة بشكل مختلف. ذلك يمكن المريض من أن يرى نفسه من منظور إيجابي ويساعد في تحسن صحته النفسية والعقلية.
ختاماً، يجب أن ننتبه لحقيقة تنوّع الأساليب العلاجية التي يمكن استخدامها ضمن الخطط العلاجية للتغلّب على الاضطرابات النفسية والعقلية، كما أن نجاحها يختلف باختلاف نوع الاضطراب وحدته وعوامل أخرى متعلقة بالمُصاب وحياته وتجاربه.