عادةً ما يكون تناول المشروبات الكحولية وإدمانها سبباً أو عاملاً في تزامن أكثر من حالة ومرض مزمن للإنسان، فيما يُسمَّى علمياً بـ "الأمراض المتزامنة" (Comorbidity).
ويؤثر تناول المشروبات الكحولية على المواد الكيميائية والمسارات العصبية الموجودة في الدماغ؛ والتي تُعتبر مهمة جداً لصحة الإنسان النفسية والعقلية، كما يرتبط تناولها بمجموعة من مشكلات الصحة النفسية والعقلية مثل القلق والاكتئاب وفقدان الذاكرة وحتى الانتحار، حسب تقرير منظمة الصحة العالمية (WHO) الذي نُشِرَ عام 2018.
ويؤكد التقرير وجود علاقة سببية بين شرب المشروبات الكحولية ومجموعة من الاضطرابات النفسية والسلوكية والأمراض غير المعدية والإصابات، إلى جانب أن المشروبات الكحولية عامل مسبب لنحو أكثر من 200 حالة مرضية.
دعونا نتعرف معاً إلى المشروبات الكحولية وإدمانها وبعض من آثارها على الصحة النفسية والطريقة الأنسب للتعامل معها.
ما هي المشروبات الكحولية؟
تُعرَف المشروبات الكحولية أو الخمور على أنها مواد ذات تأثير نفسي سلبي (Psychoactive Substances) ولها خصائص تؤدي إلى الاعتماد عليها؛ ما لا يترك مجالاً للشك في أنها مادة إدمانية.
ويتسبب تناول المشروبات الكحولية بأي كمية كانت في إحداث عدد من المشاكل الصحية والإصابات التي تخلق عبئاً صحياً اجتماعياً واقتصادياً ضخماً على الأفراد والمجتمعات.
بالإضافة إلى ما سبق؛ يمكن أن يؤدي التناول المستمر للمشروبات الكحولية أيضاً في إلحاق الأذى النفسي والجسدي بالأشخاص الآخرين مثل أفراد الأسرة والأصدقاء وزملاء العمل وحتى الغرباء.
ما الحد المسموح؟ وما الإسراف أو الإفراط في تناول المشروبات الكحولية؟
يختلف الحد المسموح لتناول المشروبات الكحولية حسب نوعها ونسبة الكحول فيها من بلد لآخر، فعلى سبيل المثال، في الولايات المتحدة، يُقدَّر الحد المسموح بنحو 0.6 أوقية، أي ما يعادل 14 غراماً أو 1.2 ملعقة كبيرة من الكحول النقي، حسب بيانات المراكز الأميركية للسيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC).
وبالنظر لنفس الحد المسموح من المشروبات الكحولية في أميركا، فالإسراف في الشرب يُقدَّر بنحو 4 مرات أو أكثر خلال مناسبة واحدة بالنسبة للنساء، أما بالنسبة للرجال، فيُقدَّر بنحو 5 مرات أو أكثر خلال مناسبة واحدة.
وبالمثل، يُقدَّر الإفراط في الشرب بنحو 8 مرات أو أكثر في الأسبوع، أما بالنسبة للرجال، فيبلغ ذلك نحو 15 مشروباً أو أكثر في الأسبوع.
ماذا تخبرنا البيانات العالمية عن استهلاك المشروبات الكحولية؟
تُقدِّر البيانات، بالاعتماد على التقرير ذاته، أن ما يزيد عن نحو 25% من الاستهلاك العالمي للمشروبات الكحولية لا يتم تسجيله؛ حيث يتم إنتاجها وتوزيعها وبيعها عادةً خارج القنوات الرسمية التي تراقبها الحكومات المحلية.
وعالمياً؛ تشير الإحصاءات إلى انتشار استهلاك المشروبات الكحولية بشكل ملحوظ بين المراهقين؛ حيث تُقدَّر النسبة بين الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 15 عاماً و19 عاماً بنحو أكثر من 26% - أي نحو 155 مليون مراهق.
وبالإضافة إلى ما سبق، فهناك اختلافات بين الجنسين في معدلات الوفيات والأمراض المرتبطة بالمشروبات الكحولية، فضلاً عن مستويات وأنماط استهلاكها المعلنة.
فعلى سبيل المثال؛ تبلغ النسبة المئوية للوفيات التي يمكن نسبها إلى استهلاك المشروبات الكحولية بين الرجال نحو 7.7% من جميع الوفيات العالمية مقارنةً مع نحو 2.6% من جميع الوفيات بين النساء.
بعض من آثار المشروبات الكحولية على الصحة النفسية
حسب الطبيب دان برينان المراجع الطبي لمنصة "ويب إم دي" (WebMD)، يؤدي الاعتماد على المشروبات الكحولية إلى ظهور أعراض انسحابية حينما يتوقف المدمن عن الشرب فجأة، وذلك بسبب الانقطاع عن الشرب وبالتالي انخفاض مستوى المشروبات الكحولية في الدم عمواماً وفي الدماغ خصوصاً.
وهذا بدوره يُسهِّل ظهور الشعور بالمرض الجسدي وتدهور الصحة النفسية والعقلية، ومن أعراض الانسحاب ما يلي:
- التعرق.
- الاكتئاب.
- اضطرابات القلق.
- مشاكل في النوم.
- الأيدي المرتعشة.
- الهلوسة (رؤية أو سماع أشياء غير موجودة).
الاكتئاب
كما ذكرنا سابقاً؛ يُسبّب الاعتماد على المشروبات الكحولية مجموعة من الاضطرابات النفسية والسلوكية؛ وهناك علاقة وطيدة بين الاعتماد عليها واضطراب الاكتئاب الشديد؛ حيث يعد واحداً من الاضطرابات النفسية الأكثر انتشاراً في العالم، بحسب تقرير فريق بحثي إيطالي نُشِرَ عام 2018 بالتعاون بين جامعة كالياري وصندوق كالياري للصحة العامة وصندوق سردينيا لحماية الصحة.
ومن التقرير الإيطالي ذاته؛ يرتفع معدل انتشار الاكتئاب لدى الأشخاص الذين يعانون من إدمان المشروبات الكحولية بشكل ملحوظ مقارنةً مع الآخرين. بالإضافة إلى ذلك؛ ينتشر إدمان المشروبات الكحولية لدى الأشخاص المصابين بالاكتئاب مقارنةً مع الآخرين.
بالتالي؛ يعاني هؤلاء من أعراض الاكتئاب التي تتضمن انخفاض الحالة المزاجية أو فقدان الاهتمام بالأنشطة العادية، وفقدان الوزن أو اكتسابه بشكل كبير، والأرق أو فرط النوم، والانفعالات الحركية، والتعب، والشعور بالذنب أو انعدام القيمة الشخصية، وصعوبة التركيز والتفكير الانتحاري.
اضطرابات القلق
وحسب دراسة حديثة لصالح جامعة مينيسوتا الأميركية نُشرَت عام 2019؛ أظهرت الأبحاث أن ما يصل إلى نحو نصف الأفراد الذين يتلقون علاجاً لمشكلة إدمان المشروبات الكحولية قد استوفوا أيضاً معايير التشخيص لواحد أو أكثر من اضطرابات القلق.
الآثار الأخرى لإدمان المشروبات الكحولية التي تؤثر على الصحة النفسية
بالإضافة إلى ما سبق؛ وبحسب دكتور برينان فإن تناول المشروبات الكحولية والاعتماد عليها على المدى الطويل، يمكن أن يتسبب في حدوث مشكلات صحية خطيرة أخرى؛ ومنها:
- تليّف الكبد.
- سرطان الفم.
- أمراض القلب.
- سرطان الثدي.
- سرطان الأمعاء.
- السكتة الدماغية.
- التهاب البنكرياس.
كما يمكن أن يتسبب تناول المشروبات الكحولية على المدى الطويل أيضاً في تغييرات دائمة في المواد الكيميائية والمسارات العصبية الموجودة في الدماغ؛ ما يؤثر بشكل مباشر وغير مباشر في ظهور مشاكل في الفهم والتذكُّر والتفكير المنطقي.
ويتسبب إدمان المشروبات الكحولية في مشاكل اجتماعية مثل التشرد والبطالة والطلاق والعنف المنزلي؛ ما يعني تأثيره بشكل مباشر وغير مباشر على تدهور حالة الصحة النفسية والعقلية للفرد.
التعامل الأنسب مع الإدمان على تناول المشروبات الكحولية
بناءً على ما سبق ذكره؛ يجب على من يعاني من إدمان المشروبات الكحولية أو الاعتماد عليها، أن يقوم ببعض التغييرات التي يمكن أن تساعده في رحلة التعافي؛ لذا، نذكر منها ما يلي:
امتنع عن تناول المشروبات الكحوليات: يمكن للإنسان التوقف عن تناول المشروبات الكحولية حالاً إذا لم يكن لديه إدمان أو اعتماد عليها، ما يعني شعوره بالتَحسُّن في غضون أسبوعين، وبذلك سوف تتحسن تجربته مع الاكتئاب -إن وُجِد.
احرص على مراجعة مختص في الإدمان: إذا كان الإنسان قلقاً من عدم قدرته على التوقف عن تناول المشروبات الكحولية أو أن اكتئابه سوف يزداد سوءاً، فعليه التحدث إلى طبيب مختص؛ ما يضمن مساعدته ببعض الأدوية أو مساعدته في العثور على مختص نفسي مناسب.
احرص على مراقبة نمط تناولك للمشروبات الكحولية: ربما لا يدرك الشخص مقدار المشروبات الكحولية الذي يشربه بالفعل في الأسبوع؛ ما يرفع من احتمالية تناولها بشكل متكرر، ويزيد احتمالية اعتماده عليها، وما يصاحب ذلك من ممارسات سلبية.
احرص على متابعة نفسك في وجود الأشخاص الذين تناول المشروبات الكحولية معهم: ربما تلاحظ أن التواجد حول أشخاص معينين سيجعلك تشعر بمزيد من القلق أو الاكتئاب، وترغب في شرب المزيد من المشروبات الكحولية، أو أن أوقاتاً معينة من اليوم تجعلك أكثر عرضة لذلك.
وبالنظر لما سبق من بيانات ودراسات؛ يؤثر تناول المشروبات الكحولية وإدمانه على الصحة النفسية والعقلية لملايين الأشخاص من حولنا. كما يؤثر ذلك على جودة حياتهم وحياتنا؛ ما يجعل من الواجب علينا جميعاً أن نبادر للمساعدة بتقديم الدعم اللازم متى ما أمكننا ذلك!