إن كنت قد تمكنت أخيراً من التحرر من علاقة مع شخص نرجسي، أو كنت في طور الانفصال عنه، فاسمح لنفسك بالتقاط أنفاسك أولاً. لقد أنجزت خطوة صعبة، وتحررت من علاقة مثقلة بالتلاعب والإيذاء العاطفي. غير أن المسافة التي صنعتها بينك وبينه لا تعني انتهاء المعركة؛ فأنت على الأرجح تواجه الآن، أو ستواجه قريباً، ظاهرة معروفة في علم النفس باسم "الشفط العاطفي".
إنها ليست محاولة صادقة للمصالحة، بل مناورة مدروسة، وأحياناً يائسة، لإعادتك إلى دائرة سيطرته. وكما يوحي الاسم المأخوذ من آلة الشفط "المكنسة الكهربائية"، فهدفها سحبك مجدداً إلى حياته في اللحظة التي تبدأ فيها بإعادة تنظيم عالمك الداخلي.
فإذا أردت الحفاظ على سلامتك النفسية، تابع قراءة هذا المقال للتعرف إلى أساليب "الشفط العاطفي" التي قد يتبعها النرجسي، وطرق النجاة منها.
محتويات المقال
ما هو الشفط العاطفي؟ ولماذا يحدث؟
يعد الشفط العاطفي من أدوات التلاعب النفسي التي يستخدمها الأشخاص أصحاب اضطراب الشخصية النرجسية أو من يمتلكون سمات نرجسية قوية بعد الانفصال عن شركاء حياتهم بهدف العودة إليهم، ولا يحدث ذلك بدافع الحب أو إصلاح العلاقة ولا صحوة الضمير، بل لأنك في الحقيقة وقود هذا النرجسي.
إذ يصف مصطلح "وقود النرجسي" الاهتمام الذي يحتاج إليه النرجسي من الآخرين ليشعر بأهميته وقيمته، ويساعده على تصديق الصورة الذاتية التي يكونها عن نفسه. وعندما يفقد هذا الاهتمام، يشعر بالفراغ، فيحاول جذبك من جديد ليحصل على ما يحتاج إليه. بالنسبة له، أنت لست شخصاً يحبه، بل مصدراً يغذي شعوره بالأهمية.
تظهر هذه السلوكيات غالباً عندما تلتزم بقطع التواصل، أو تضع حدوداً صارمة، أو عندما يلمحون أنك بدأت تتقدم في حياتك، فيلعبون على وتر التعاطف أو الذنب أو الخوف أو الأمل، ليجعلوك تشكك في قرارك بإنهاء العلاقة.
اقرأ أيضاً: اضطراب الشخصية النرجسية: 9 علامات تحذرك من الوقوع ضحية للمصابين به
كيف يستخدم النرجسي أسلوب الشفط العاطفي لإعادتك إليه؟
يتخذ الشفط العاطفي أشكالاً متعددة، يختار النرجسي منها الأساليب التي يجدها الأكثر قدرة على استعادة اهتمامك ومشاعرك من جديد، ومنها:
- وعود التغير المفاجئ: يبدأ النرجسي غالباً بادعاء أنه أدرك أخطاءه وقرر تغيير سلوكه جذرياً. على سبيل المثال، قد يخبرك أنه سيبدأ بالخضوع لعلاج نفسي، أو سيتخلص من عاداته المؤذية، أو ربما أنه مستعد أخيراً لأن يعاملك بالاحترام الذي تستحقه.
- الإيماءات الضخمة والمبالغات العاطفية: قد يعود النرجسي محملاً بالهدايا أو اعتذارات درامية، أو بإعلانات حب تبدو من شدتها خارجة عن المألوف، في محاولة منه لإعادة خلق نشوة بداية العلاقة وجعلك تشك فيما حدث لاحقاً وتسبب في انفصالكما.
- لعب دور الضحية: يحاول النرجسي أن يبدو ضعيفاً ومتألماً بسبب غيابك، وقد يبالغ في إظهار حزنه ومعاناته أو في استجداء شفقتك، فقط ليجعلك تشعر بالذنب حيال قرارك بالابتعاد. كما يشير استشاري الطب النفسي، محمد اليوسف، إلى أنه في بعض الحالات، قد يتنصل النرجسي من كل ما قاله ويرفض الاعتراف بخطئه، ويتهمك بالغرور والغطرسة، ليجعلك تشعر بأن قرارك بالابتعاد كان قاسياً أو ظالماً، ويضعف بذلك ثقتك بنفسك وقرارك.
- وعود بمستقبل مثالي: قد يسمعك الشريك النرجسي وعوداً براقة لطالما حلمت بها، مثل "سنكون سعيدين إن منحتني فرصة ثانية".
- اصطناع حالة الطوارئ: عندما تفشل طرق التلاعب السابقة، قد يستغل النرجسي حسك العالي بالمسؤولية وتعاطفك، ويتظاهر بأنه يمر بأزمة طارئة، مالية أو نفسية أو حتى صحية، وأنه لا يستطيع تجاوزها من دونك.
- رسم الصدف: قد يصادفك في الأماكن التي يعرف أنك تقصدها، أو تصلك منه رسالة "خاطئة" موجهة لشخص آخر. الهدف هو كسر الصمت وإثارة فضولك فقط، وليس التواصل الحقيقي.
- استخدام الآخرين وسطاء: يستعين الشريك النرجسي السابق أحياناً بأصدقاء مشتركين أو أفراد من أسرتك أو حتى بأطفالكما، كي ينقلوا مشاعره أو رسائله. هؤلاء الوسطاء هم ما يعرف في علم النفس بـ "القرود الطائرة"، وهم أشخاص يستخدمهم النرجسيون من أجل المشاركة في التلاعب اللفظي والمعنوي وتنفيذ استراتيجيات التلاعب النرجسية وتكتيكاته التلاعبية، سواء بعلم هؤلاء الأشخاص أم من دون علمهم.
- استحضار الماضي وصناعة نوستالجيا مضللة: من الطرق التي يستخدمها النرجسي أحياناً هي استعادة لحظات جميلة، ويعيد تصوير العلاقة بلمعة مثالية، ليجعلك تشك في قسوة التجربة التي عشتها فعلاً، وهو هنا يستحضر الذكريات لا بهدف التقدير، بل ليغرقك في حنين يطمس وقائع الألم الذي تسبب به لك.
اقرأ أيضاً: ما هي نقاط ضعف الرجل النرجسي؟
6 استراتيجيات فعالة لمقاومة محاولات الشفط العاطفي
ليس من السهل التصدي لمحاولات الاستدراج التي يمارسها النرجسي خلال الشفط العاطفي، ولا سيما أنها غالباً ما تأتي متقنة ومشحونة بالعاطفة. ومع ذلك، لن يضع النرجسي مصلحتك ضمن أولوياته، ولذلك عليك أنت أن تفعل ذلك. إليك بعض الأدوات والاستراتيجيات التي تتيح لك حماية ذاتك، واستعادة زمام حياتك بعيداً عن دوامة الاستغلال:
1. التعرف إلى النمط
ذكر نفسك بأن العلاقات النرجسية تقوم على دورة ثابتة تتكون من:
- مثالية مفرطة.
- التقليل من الشأن.
- الرفض أو الهجر.
عندما يعود النرجسي ليكرر الدورة نفسها، فإنه قد يتبع أساليب الشفط العاطفي السابقة، في محاولة لإعادتك إلى الحلقة ذاتها. ومع الإغراء العاطفي الذي قد يرافق ذلك، فإنك قد تقع ضحيته مرة أخرى، لكن إدراك هذا النمط يساعدك على التنبؤ بمحاولات العودة وعدم الوقوع في الفخ مجدداً.
2. فك الارتباط العاطفي
يعتمد النرجسي على التحكم الانفعالي لإدخالك في حالته النفسية. لذا، فإن تخفيف الارتباط العاطفي يمثل نوعاً من التحصين. حاول النظر إلى أقواله وأفعاله على أنها أدوات للسيطرة، لا حقائق تعبر عنك أو تحد من قيمتك. على سبيل المثال، اسأل نفسك: "هل اعتذر عن الفعل أم عن النتيجة؟" فإذا قال لك "أنا آسف لأنني صرخت عليك وأحرجتك أمام الآخرين. كان ذلك تصرفاً غير مقبول مني" فهو اعتذار حقيقي يعني تحمل المسؤولية، أما إذا قال "أنا آسف إذا شعرت بالإهانة، لكنك تعرف أنني كنت غاضباً بسبب تصرفك"، فهو اعتذار فارغ ومجرد محاولة للعودة.
3. تحديد مسافة آمنة ووضع حدود واضحة
إتاحة مساحة بينك وبين الشخص النرجسي تمنحك فرصة للتعافي، وتقلل قدرته على التأثير فيك. فكلما اتسعت المسافة، خفت شدة محاولات الاستدراج، وانخفض احتمال انجذابك من جديد إلى فلكه. مثل عدم الرد على محاولات إثارة الذنب أو الحنين، وتقليل التواصل المباشر أو قطعه، من مكالمات ورسائل ولقاءات.
4. توثيق السلوكيات المؤذية
يمكنك الاحتفاظ بسجل مكتوب أو رقمي للحظات المؤذية والسلوكيات التي دفعتك إلى الانفصال جميعها، والعودة إليها في كل مرة يحاول فيها تشويش إدراكك وتزييف الماضي.
تعد هذه خطوة مهمة خاصة إذا احتجت لاحقاً إلى إجراءات قانونية أو حماية رسمية. لكن ضع في اعتبارك أن التوثيق هنا أداة لضمان حقك وليس وسيلة للغرق مجدداً في التفاصيل التي حاول النرجسي إغراقك بها.
5. اتباع أسلوب الصخرة الرمادية
حين لا يكون القطع الكامل ممكناً، مثل أن يكون زميلك في العمل أو في حال وجود أطفال، يمكن اتباع أسلوب "الصخرة الرمادية". وهي تكنيك فعال يستخدم للتواري عن أنظار النرجسي، تماماً مثل صخرة رمادية غير ملحوظة؛ وذلك بهدف أن يصبح غير مثير للاهتمام وغير متفاعل بغض النظر عن مقدار الاستفزاز الذي يوجه له؛ كما الصخور الرمادية التي لا تتفاعل ولا تتغير. لذا، التزم بردود مقتضبة ومحايدة وخالية من الانفعال. فاللافت للنرجسي ليس الكلمات، بل العاطفة خلف الكلمات.
اقرأ أيضاً: الصخرة الرمادية: تكتيك فعال للحماية من تلاعب النرجسيين
6. تذكير نفسك بأنك لست السبب
تشير الطبيبة النفسية إيمي داراموس، إلى أن الضحية غالباً ما تلوم نفسها وتظن أنها تجتذب المؤذين. والحقيقة أن النرجسي يتقرب من الجميع، باحثاً عن أي ثغرة عاطفية يمكنه النفاذ منها. المشكلة ليست فيك، بل في نمطه المرضي. فكن عادلاً مع ذاتك، ولا تحملها ما لا علاقة لك به.