الطفل الذي عانى الصدمات قد يكون أكثر إبداعاً!

3 دقيقة
صدمات شديدة القسوة في الطفولة
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: عبد الله بليد)

أتابع منذ فترة أحد المؤثرين على منصة "تيك توك" جذبتني إليه رسوماته شديدة الإتقان والإبداع التي يستعرضها في مقاطع الفيديو وحديثه عن حبه للفن ونجاحاته المتتالية، لكن بمرور الوقت أخذ ينشر مقاطع أخرى تعرض جانباً شديد الإظلام من حياته يتمثل في تعرضه لصدمات شديدة القسوة في الطفولة ما زال يعاني أثرها حتى اليوم، ودائماً ما كانت الفيديوهات الأخيرة تفتح في ذهني نافذة للتفكير: هل ثمة روابط خفية بين الطفولة القاسية والإبداع؟ حتى تصفحت اليوم دراسة علمية حديثة اكتشفت هذا الجانب، فما الذي يمكن أن تخبرنا به؟ الإجابة في السطور القادمة.

كيف يمكن أن تُزهر جروح الطفولة إبداعاً أحياناً؟

قد يظن البعض أن المبدع لا بد أن يكون قد نشأ في بيئة أسرية دافئة وداعمة فسحت المجال لطاقاته الإبداعية ونمّتها، لكن في واقع الأمر هذا لا يحدث دائماً، إذ توصلت دراسة علمية حديثة نشرتها مجلة الدراسات النفسية (Psychological Studies) في فبراير/شباط 2025 إلى أن الإبداع قد يكون أحياناً وسيلة للتكيف مع الطفولة الصعبة.

حتى نتغلغل في الأعماق قليلاً، فالدراسة تشير إلى أنه على سبيل المثال في حال غياب الوالدين أو عدم توافرهما عاطفياً يلجأ الأطفال إلى أشياء أو سلوكيات تساعدهم على تهدئة أنفسهم وإشباعها عاطفياً، وفي حال استمر الغياب فإن هذه السلوكيات التكيفية تتحول بالممارسة المتكررة إلى قدرات إبداعية.

لكن الدراسة تلفت الانتباه إلى جانب شديد الأهمية، وهو أن هؤلاء الأطفال يواجهون أيضاً اضطرابات سلوكية وصعوبات في التفاعلات الاجتماعية، وعندما يزداد مستوى إهمال الوالدين أو انفصالهما عنهم قد تتراجع قدراتهم الإبداعية وتزداد حدة معاناتهم في الجوانب الاجتماعية.

نظرة إلى الجانب المظلم: كيف تؤثر الطفولة الصعبة في الصحة النفسية؟

مبدئياً، يشير استشاري طب الأسرة والعلاج النفسي خالد بن حمد الجابر إلى نقطة مهمة، وهي أن صدمات الطفولة تؤثر في الذين تعرضوا لها بمستويات مختلفة، ما يعني أنها لا تؤثر في جميع الأشخاص، وأيضاً تتفاوت درجة تأثيرها من شخص إلى آخر، والوعي بذلك مهم لفهم اختلاف الاضطرابات النفسية التي قد تظهر بين الذين عانوا الصدمات في طفولتهم.

ويتشارك مع الجابر طبيب نفسي آخر، هو سيث جيه جيليهان (Seth Gillihan) الذي يؤكد أن الدراسات العلمية التي تحدثت عن التأثير النفسي لصدمات الطفولة لم تكن قاطعة، أي أن الارتباط بين صدمات الطفولة والاضطرابات النفسية لا يعني حتمية الإصابة بها، وهو ما يجعله يشير إلى احتمالية إسهام الجينات الوراثية في كيفية الاستجابة لصدمات الطفولة.

لكن عموماً، يمكن القول إن التجارب السلبية في مرحلة الطفولة قد تؤثر في الصحة النفسية عند الكبر، وترتبط حدة التأثر بكثافة تكرار الصدمات، إلى جانب دور البيئة التي يعيش فيها الطفل، فتأثير الصدمات يزداد عند النشأة في أحياء تتسم بالفقر أو التوتر.

ومن أهم التبعات النفسية لصدمات الطفولة أنها تغير نمط الاستجابة للتوتر، إذ يعاني الشخص استجابة مفرطة له تجعل من السهل استثارته، وهو ما يؤدي تباعاً إلى عدم قدرته على تنظيم عواطفه وسلوكياته، بالإضافة إلى أنها ترفع احتمالية الإصابة بالاكتئاب والوحدة والميل إلى العزلة وعدم الثقة في الآخرين.

إلى جانب أن الرغبة القوية في إرضاء الآخرين قد يكون سببها تعرض الشخص لصدمات في مرحلة الطفولة، جعلته يطور سلوكيات إرضائية لتجنب الصدمات وتهدئة الشخص المهدد، وقد تهدف تلك السلوكيات أحياناً إلى الشعور بالأمان، وذلك حسب المختص النفسي عبد الله الجطيلي.

اقرأ أيضاً: دراسة جديدة تفسر العلاقة بين مكان منزل الطفولة واحتمالية الإصابة بالقلق والاكتئاب

4 إرشادات عملية للتعامل مع آثار صدمات الطفولة

يرى استشاري طب الأسرة والعلاج النفسي خالد بن حمد الجابر أن الطريقة الصحيحة للتعامل مع صدمات الطفولة تبدأ بتوجيه الشخص إلى اللحظة الحالية انطلاقاً من كيفية تغيير نظرته لنفسه وللماضي، موضحاً أن المشكلة تحدث عندما يجري إدخال الشخص الذي مر بصدمة طفولة في دائرة من العجز تجعله في موقع الضحية غير القادرة على فعل شيء، لذا نستعرض سوياً عدة إرشادات فعالة للتعامل مع صدمات الطفولة، أهمها:

  1. تقبَّل ما حدث؛ وهنا من المهم إيضاح أن التقبل يختلف عن الموافقة، فعندما تتقبل ما حدث في طفولتك فهذا يعني أنك اتخذت قراراً واضحاً بالمضي قدماً نحو الأفضل في حياتك، ومحاولة الحد من أن يستهلكك الماضي أو يسيطر على مستقبلك، نعم لن تختفي آثار الصدمة، لكن يمكنك تقليل قدرتها على منعك من عيش حياة ناجحة مرضية.
  2. تجنَّب اللجوء إلى أساليب التكيف غير الصحية، مثل تعاطي المخدرات أو الإفراط في تناول الطعام، فعادةً قد تبرز تلك الأساليب لتخفيف المشاعر المؤلمة الناتجة عن الصدمة، لكن الحل الأمثل يكمن في مواجهة تلك المشاعر باستخدام استراتيجيات صحية، وقد يساعدك في هذا الاتجاه استشارة معالج نفسي أو الانضمام لمجموعة دعم نفسي.
  3. ضع حدوداً واضحة للأشخاص الذين يعرقلون رحلة تعافيك ويسهمون في أذيتك، وهذا يعني أن تكون صريحاً بما يكفي وتقول "لا" للمواقف أو العلاقات التي تشعرك بالإرهاق أو عدم الأمان.
  4. لا تتعجل الشفاء، فالوقت الذي استغرقته الصدمات وما تلاها من تأثيرات نفسية يجعل من المنطقي التحلي بالصبر في انتظار النتائج الإيجابية، مع بذل الجهد الكافي والاحتفال في الطريق بالانتصارات الصغيرة.

اقرأ أيضاً: كيف تتصالح مع طفلك الداخلي وتمنعه من التأثير سلباً في حاضرك ومستقبلك؟

المحتوى محمي