ملخص: شاع التشخيص الذاتي للاضطرابات النفسية كثيراً مؤخراً، بسبب سهولة الوصول إلى المعلومات عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. ومع ذلك، فإن هذه الممارسة محفوفة بالمخاطر؛ إذ تؤدي إلى تفاقم مشكلات الصحة النفسية وتعوق الحصول على العلاج المناسب. كيف؟ أولاً، ونتيجة أن العديد من اضطرابات الصحة النفسية تشترك في أعراض متشابهة، فإن الشخص غير المختص قد يسيئ تفسير أعراضه تماماً، أي قد يفترض أنه مصاب باضطراب ما، في حين أنه مصاب باضطراب آخر، أو ربما لا يعاني أي اضطراب على الإطلاق، أو يعاني اضطرابين في الوقت نفسه. علاوة على أن التشخيص الذاتي قد يسبب إهمال الحالات الطبية الأساسية الخطرة، أو اللجوء إلى العلاج الذاتي الذي قد يكون غير فعال أو ضاراً. لتجنب هذه المخاطر، من الضروري طلب المساعدة المتخصصة عند الشعور بالضيق النفسي الذي لا يمكنك إدارته بنفسك، أو عندما يؤثِّر في أدائك اليومي أو في الآخرين من حولك. وسيجري المختص النفسي المؤهل تقييمات شاملة، مثل الفحوصات الجسدية لاستبعاد المشكلات الطبية، ما يجعلك تضمن معرفة التشخيص الدقيق ومن ثم تحصل على العلاج المناسب.
خلال الأيام السبعة السابقة فقط، أخبرتني شقيقتي أنها تعاني الاكتئاب، وأكدت لي صديقتي المقرّبة أنها تعاني اضطراب فرط النشاط ونقص الانتباه؛ فكل الأعراض التي قرأتها عبر الإنترنت تنطبق عليها، في حين اعترف صديقي الذي شُخِّص بالاكتئاب منذ مدة طويلة، أنه عزف عن تناول الدواء واتباع العلاج النفسي، وبات يلجأ إلى عزل نفسه عن العائلة والأحبة كلما عانى نوبة اكتئاب شديدة، فهو الأفضل في فهم حالته وكيفية إدارتها، على حد أقواله.
لكن مهلاً يا سادة، متى أصبح تشخيص الحالات النفسية وعلاجها بهذه السهولة؟ فهل يمتلك الشخص غير المختص الذي قرأ الخطوات اللازمة لإجراء فحص الدم أن يجريه بنفسه بأمان وأن يفسِّر النتائج بدقة؟ والتشخيص الذاتي للاضطرابات النفسية دون توجيه متخصص أمر مشابه إلى حدٍّ كبير، فقد يتوصل الشخص إلى استنتاجات مضللة تسبِّب تدهور صحته النفسية ونوعية حياته بدلاً من تحسينها. لذا، سنوضح في هذا المقال خطورة التشخيص الذاتي للاضطرابات النفسية، ومتى ينبغي عليك اللجوء إلى المختصين.
اقرأ أيضاً: ما الآثار السلبية لزيادة الوعي بالصحة النفسية؟
6 أسباب تفسر خطورة التشخيص الذاتي
وفقاً لدراسة منشورة في دورية الطب النفسي الدوائي (Pharmacopsychiatry) في مارس/آذار عام 2024، فإن التشخيص الذاتي للاضطرابات النفسية قد ازداد كثيراً في الآونة الأخيرة، وقد يُعزى ذلك إلى سهولة الوصول إلى الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، الأمر الذي سهّل الوصول إلى المعلومات المتعلقة بالصحة النفسية على الرغم من افتقارها في كثير من الأحيان إلى الدقة المهنية.
بالإضافة إلى انتشار العديد من الأدوات الإلكترونية المستخدمة في التقييم الذاتي عبر الإنترنت، والتطورات الكبيرة في مجال الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته الخاصة بالصحة النفسية.
تسهّل هذه العوامل مجتمعة على الناس تشخيص مشكلاتهم النفسية بأنفسهم دون توجيه متخصص، على الرغم من أن ذلك محفوف بالمخاطر في كثير من الأحيان. لماذا؟ يقول الباحثون إن التشخيص الذاتي للحالات النفسية قد يفضي إلى تشخيصات غير دقيقة ويفاقم القلق ويسهم في لجوء الشخص إلى العلاج الذاتي. وإليك معنى هذا الكلام ومدى خطورته.
1. الوقوع في فخّ التشخيص غير الدقيق
أولاً، أكبر مشكلة قد يقع فيها الإنسان عندما يشخِّص حالته النفسية هي توصّله إلى استنتاجات غير صحيحة، فمن المعلوم أن العديد من اضطرابات الصحة النفسية، وحتى بعض الحالات الصحية الجسدية، تتقاسم أعراضاً مشتركة. لذا، من السهل، دون الخبرة المهنية الكافية، أن يحدث الخلط بين حالة وأخرى؛ أي قد يفترض الشخص أنه مصاب باضطراب ما في حين أنه مصاب باضطراب آخر، أو ربما لا يعاني أي اضطراب على الإطلاق، أو يعاني اضطرابين في الوقت نفسه.
بالإضافة إلى ذلك، غالباً ما يقع الإنسان الذي يشخِّص حالته في فخّ التحيّز التأكيدي، أي يبدأ بالمبالغة في تفسير أيّ عرَض يظهر عليه بما يتناسب مع التشخيص الذي افترضه. ليس هذا فحسب؛ بل قد يقتنع أنه يعاني أعراضاً ما فقط لأنه يتوقع ظهورها، أي تصبح الأعراض التي يتوقعها مثل نبوءة تحقق ذاتها، وهو ما قد يدفعه أيضاً إلى التصرف بطرائق تؤكد إصابته.
على سبيل المثال، قد يعتقد شخص يشاهد دائماً منشورات تخص أعراض الاكتئاب، مثل الشعور بالتعب أو فقدان الاهتمام بالهوايات أو الشعور بالحزن، أنه مصاب بالاكتئاب فقط لأنه يمر بمشاعر مشابهة. لكن ما يحدث هو أن توقُّع الأعراض يجعله أكثر تركيزاً على مشاعر الحزن والتعب، ما يعزز اعتقاده بالتشخيص، ثم يتصرف بطرائق تبدو وكأنها تؤكّد تشخيصه، مثل عزل نفسه أو تقليل الأنشطة التي يستمتع بها. ثم وإن لم يتّفق المعالِج المتخصص، في حال لجأ إلى العلاج، مع تشخيصه الذاتي للاكتئاب وأشار إلى أنه يعاني ضغوطاً مؤقتة أو شيء آخر، فقد يمتنع ببساطة عن متابعة العلاج.
خلاصة ما سبق: قد يؤخِّر التشخيص الذاتي التشخيص الصحيح أو يحول دونه، وهو ما يؤدي بدوره إلى تأخر الحصول على الرعاية والعلاج اللازمين. والنتيجة هي دورة من الأعراض المتفاقمة، والعلاج الذاتي الخاطئ، والمساعدة المهنية المتأخرة، وتعميق صراعات الفرد. وإذا ما تُرِكَت القضايا الأساسية الحقيقية دون معالجة، فقد تتفاقم، ما يؤدي إلى تعقيد العلاج في المستقبل وإطالة الطريق إلى تحسن حقيقي في الصحة النفسية.
اقرأ أيضاً: تعرّف إلى أهم المعوقات التي قد تمنعك من الذهاب إلى الطبيب النفسي
2. إغفال المشكلات الخطرة
من أكبر مخاطر التشخيص الذاتي هو تجاهل حالة صحية جسدية خطرة قد تتجلى على هيئة مشكلة نفسية أو سلوكية؛ إذ يمكن للعديد من الحالات الطبية، مثل تلك التي تنطوي على الغدد الصماء أو الجهاز العصبي أو القلب والأوعية الدموية، أن تسبب أعراضاً تحاكي حالات الصحة النفسية، مثل الاكتئاب أو القلق.
على سبيل المثال، يمكن لقصور الغدة الدرقية أن يسبب أعراض التعب وانخفاض الحالة المزاجية وضعف التركيز، وهي أعراض شائعة في الاكتئاب. وبالمثل، يمكن أن يؤدي نقص الفيتامينات مثل ب 12 إلى تغيرات في المزاج والارتباك والذهان، وغالباً ما يتم الخلط بينها وبين مشكلات الصحة النفسية. لذا ودون تقييم طبي احترافي، قد تبقى هذه الحالات الجسدية الكامنة دون اكتشاف، ما يؤخّٓر العلاج الأساسي وربما تتطور إلى حالة لا تحمد عقباها.
اقرأ أيضاً: كيف يؤثر نقص الحديد في الصحة النفسية؟
3. معاناة ضغوط نفسية غير ضرورية
من المحتمل أن يؤدي التشخيص الخاطئ أو تفسير الأعراض بصورة خاطئة إلى مفاقمة مشاعر القلق أو الخوف. على سبيل المثال، إذا اعتقد شخص ما أنه يعاني اضطراباً خطيراً دون التأكُّد من ذلك على وجه اليقين، فقد يعاني القلق والتوتر الناجمين عن تشخيصه، أو يعزف عن طلب المساعدة معتقداً أن الحالة ميؤوس منها أو يصعب معالجتها.
4. اللجوء إلى العلاج الذاتي
قد لا يتوقّف الشخص عند حدّ تشخيص حالته النفسية فقط؛ بل قد يفترض أنه قادر على إدارة حالته بمفرده؛ أي يحاول علاج نفسه إما بالمكملات الغذائية وإما بالأدوية المتاحة دون وصفة طبية وإما بتغييرات في نمط الحياة، وهو ما لا يكون آمناً أو فعالاً.
فقد يؤدي تناول بعض المكملات الغذائية أو استخدام علاجات غير معتمدة، منتشرة عبر الإنترنت ربما، إلى تفاقم الأعراض أو التسبب في آثار جانبية تتداخل مع خيارات العلاج الفعلية.
بالإضافة إلى ذلك، قد يلجأ الشخص إلى استشارة غير المختصين، سواء المحيطين به أو على الإنترنت، للحصول على نصائح وتوصيات، ما قد يؤدي إلى اتباع نصائح غير فعالة أو غير آمنة. وبالطبع، يحرمه كل ذلك في المحصلة من طرائق العلاج المفيدة القادرة على تحسين حالته ونوعية حياته.
اقرأ أيضاً: هل تعاني سلوكيات تدمّر ذاتك؟ إليك الأسباب والعلاج
5. إلحاق الضرر بالآخرين
قد يستخدم الشخص تشخيصه الذاتي لتبرير سلوكياته المؤذية أو لتجنب تحمُّل المسؤولية، ما يؤثّر سلباً في نموه الشخصي وفي علاقاته مع الآخرين. على سبيل المثال، قد يفترض شخص ما أنه مصاب باضطراب الشخصية الحدية، ثم وكلما أساء إلى شريكه لفظياً أو عاطفياً، فإنه يقول: "لا أستطيع منع نفسي؛ إنه اضطراب الشخصية الحدية لدي". إذاً ومن خلال استخدام تشخيصه عذراً، فهو يتجنب تحمل المسؤولية عن ردود أفعاله.
6. نشر المعلومات المضللة
قد يسهم التشخيص الذاتي في انتشار المعلومات المضللة على نحو غير مقصود، وخاصة عندما يشارك الفرد تشخصيه الذاتي و"علاجاته" الشخصية مع شبكته الاجتماعية أو عبر الإنترنت دون تشخيص مؤكد.
وقد يؤدي انتشار هذه المعلومات غير المؤكدة إلى حدوث ارتباك؛ إذ قد يتبنى آخرون، ممن يعانون هذا التشخيص مثلاً، هذه الاستراتيجيات دون أن يفهموا أنها لم تُبنى على تشخيص حقيقي، أو دون مراعاة لمدى دقتها أساساً. ما قد يسهم مع مرور الوقت في طمس الخط الفاصل بين الإرشادات الطبية الحقيقية والتجارب الشخصية.
اقرأ أيضاً: 7 قواعد يجب اتباعها عند اتخاذ قرار باستشارة معالج نفسي
متى تلجأ إلى المختص النفسي؟
عليك أن تعلم أن الاضطرابات النفسية معظمها لا تتحسن من تلقاء نفسها، وفي حال لم تعالَج، فقد تزداد سوءاً بمرور الوقت وتسبب مشكلات خطرة؛ لذلك لا تشخّص حالتك النفسية بنفسك؛ بل الجأ إلى المختصين. متى؟
يقول استشاري الطب النفسي، عبدالله بن سلطان السبيعي، إن استشارة الطبيب النفسي تصبح ضرورة في 3 حالات: أولها؛ هو عندما تشعر بالتعب أو الضيق النفسي بينك وبين نفسك حتى لو كانت جميع تفاصيل الحياة والعمل على ما يرام، وثانياً؛ عندما يعاني مَن حولك بسببك، سواء الشريك أو الأبناء أو الوالدين، والحالة الثالثة؛ هي عندما تشعر أن أداءك بدأ بالانخفاض، سواء على مستوى العمل أو العائلة أو الدراسة أو المستوى الاجتماعي.
إذاً، استشر متخصصاً حين تعاني مشاعراً ساحقة من العجز أو اليأس أو الحزن العميق لمدة تزيد على أسبوعين، أو تؤثِّر هذه المشاعر في أداء مهامك اليومية، أو سلباً في علاقاتك الشخصية أو العمل، أو في حال لاحظت تغيّرات في أنماط نومك، أو أعراض جسدية غير مبررة مثل ألم في المعدة أو الظهر أو الصداع أو آلام أخرى لا سبب لها، أو كوابيس متكررة.
اقرأ أيضاً: ما الفرق بين الطبيب والمختص والمحلل النفسي؟ ومتى تلجأ إلى كل واحد منهم؟
في الواقع، قد تتباين العلامات والأعراض المتعلقة بالاضطرابات النفسية من حالة إلى أخرى؛ لكنها عموماً تؤثر في المشاعر والأفكار والسلوكيات، فقد تسبب الشعور بالحزن والكآبة، أو التفكير المشوش، أو ضعف القدرة على التركيز، أو الانعزال عن الواقع ومعاناة الهلاوس، أو تغييرات كبيرة في عادات الأكل، أو الغضب الشديد والعدوانية، أو الأفكار الانتحارية.
لتحديد التشخيص الدقيق والتحقق من المضاعفات سيطلب المختص فحصوات بدنية لاستبعاد المشكلات الجسدية التي قد تسبب الأعراض الظاهرة، بالإضافة إلى فحوصات مخبرية تشمل مثلاً وظيفة الغدة الدرقية وغيرها من الفحوصات، ثم تأتي خطوة التقييم النفسي لتوضيح الأعراض والأفكار والمشاعر والأنماط السلوكية، وقد يطلب الطبيب أن تملأ استبياناً ليساعدك على إجابة هذه الأسئلة.