التحدث أمام الناس أو سؤال شخص غريب عن أمر ما، أو خوض مقابلة عمل، هي كلها مواقف من حياتنا اليومية قد نشعر خلالها بالارتباك والتوتر.
ولا تعد مشاعر القلق هذه التي ترتبط بالخوف من التحدث أمام الجمهور أو الخجل، حالةً مرضيةً؛ لكن عندما يتحول هذا القلق إلى خوف وهلع يشلّان علاقتنا بالآخرين تماماً، فإننا نكون أمام حالة تسمى بـ "الرهاب الاجتماعي"؛ وهو أحد أنواع اضطرابات القلق الذي يؤثر في 4 إلى 5% من السكان.
التعرف إلى الرهاب الاجتماعي
الرهاب الاجتماعي هو حالة من الخوف الشديد والمفرط والمستمر من بناء علاقات مع الآخرين.
يوضح الطبيب النفسي أنطوان بيليسولو في كتابه "الرهاب، هل يجب أن نخاف؟" (Les phobies, faut-il en avoir peur): "يتميز الشخص الذي يعاني من الرهاب الاجتماعي بخوفه الشديد والمستمر من حكم الآخرين عليه في أي موقف يمكنهم سماعه أو رؤيته فيه، سواء كان ذلك من قبل فرد واحد، أو قلة، أو مجموعة كبيرة، أو في أقصى الحدود؛ جمهور بأكمله".
ويتجاوز الأمر مجرد التخوف من مواجهة موقف عادي؛ إذ يؤدي الرهاب الاجتماعي إلى حالة قلق حقيقة تعطل حياة الشخص الذي يعاني منها، ونتيجةً لهذا القلق والضغط النفسي والتوتر؛ يجد نفسه عاجزاً عن وضع الأمور في منظورها الصحيح، كما أن خوفه من الموقف المتوقع يبدأ قبل وقت طويل من وقوعه، وعند مواجهته بالفعل، قد تسيطر عليه نوبات هلع قد تشل حركته، وتترافق بأعراض مثل تعرق راحة اليد، وتسرع القلب، واحمرار الوجه والارتعاش وفقدان الذاكرة ...
اقرأ أيضا:
لكن السؤال هنا: ما الذي يخيف الشخص المصاب بالرهاب الاجتماعي بالفعل؟
تقول لوري هوكس؛ مختصة علم النفس والمعالجة النفسية: "من واقع خبرتي، هناك ثلاثة أنواع من الرهاب الاجتماعي:
النوع الأول
يمثل المصابون به النسبة الأكبر وهو خوف الشخص من نظرة الآخرين إليه، ومن التعرض للنقد والحكم عليه، ومن ثم الرفض.
النوع الثاني
يشمل بعض الأشخاص الذين يعانون من رهاب المجتمع، والذين يكون خوفهم قبل كل شيء من سلوكيات العداء والعدوانية. وتكمن المشكلة الرئيسية بالنسبة لهذه الفئة في نظرتهم للعالم من حولهم والآخرين، أكثر من حكمهم على أنفسهم.
النوع الثالث
وهم الأشخاص الذين يخشون العلاقة الحميمة والاتصال الجسدي والقرب من الآخرين. ومن غير المرجح أن تؤدي هذه الحالة إلى رهاب شديد، حتى أن الأشخاص في هذه الفئة قد يتفاعلون مع الآخرين بصورة طبيعية؛ لكن دون أن يسمحوا لأي شخص بالدخول إلى دائرتهم الحميمة.
ما هو منشأ الرهاب الاجتماعي؟
كما هو الحال في معظم الاضطرابات النفسية، فلا ينتج الرهاب الاجتماعي عن سبب واحد؛ إنما عن مجموعة من العوامل، يرتبط بعضها بالشخصية والحالة المزاجية، ويتعلق بعضها الآخر بالتجارب والأحداث الحياتية.
توضح لوري هوكس: "لا توجد حالة مزاجية محددة تهيئ بوضوح للإصابة بالرهاب الاجتماعي؛ لكن الأشخاص الذين يولدون بنزعة انطوائية أو شديدة الحساسية هم أكثر عرضةً لذلك.
كما يتميز المصابون بالرهاب الاجتماعي بسمات شخصية مشتركة؛ مثل التثبيط أو السعي نحو الكمال، فهم يقسون على أنفسهم بشدة في سبيل ذلك، وتصيبهم حقيقة الفشل في علاقاتهم مع الآخرين بحالة من الاستياء، وغالباً ما يقعون في دائرة التقليل من قيمة الذات ("أنا عديم الفائدة"، "لن أنجح أبداً" ...)؛ إذ لديهم إحساس لاذع بالنقد الذاتي".
وعندما تتقاطع هذه السمات الشخصية مع سلوك تربوي لا ينطوي على تشجيع الطفل، أو مع تعرضه لحدث مؤلم، فإن خطر الوقوع في حالة الرهاب الاجتماعي يصبح مرتفعاً للغاية.
فالطفل الذي يفْرِط والداه في حمايته سيقنع نفسه في النهاية بأنه أضعف من أن يواجه العالم، لذا من الضروري تعزيز تجاربه الاجتماعية وتشجيعه على خوضها ليبني ثقته بنفسه.
ويمثل سلوك الوالدين، والمعلومات التي يستمدها الطفل منه، عوامل صغيرة يمكن أن تساعد في تطور الرهاب الاجتماعي لديه؛ وهذا هو الحال بصورة خاصة بالنسبة للعائلات التي تعيش منعزلة على نفسها، ولا تدعو أي شخص لزيارتها أبداً، ولا ترسل أطفالها إلى المعسكرات الصيفية.
من ناحية أخرى؛ يؤدي التعرض لتجربة مؤلمة خلال مرحلة الطفولة أو المراهقة، دوراً في تطوير حالة الرهاب الاجتماعي. توضح لوري هوكس: "في حالة الأشخاص الذين يعانون من رهاب المجتمع، فليس بالضرورة أن يكون الحدث المؤلم الذي تعرضوا له كبيراً. يمكن أن يكون الطفل قد تعرض للسخرية أمام زملائه في الصف، أو تعثر وسقط على الأرض أمام الناس، أو كان عرضةً لحالة من الظلم ..." وهي في جميع الأحوال حالات من الهوان تشير ذكراها إلى وضع خطير يجب تجنبه، ويوضح أنطوان بيليسولو إلى أن هذا التفسير ينطبق على 20% من حالات الرهاب.
العيش في خوف من الآخرين
وفقاً للمعالجين؛ تصبح عواقب الرهاب الاجتماعي أكثر وضوحاً في بداية مرحلة البلوغ؛ أي العمر الذي يبدأ فيه المرء ببناء حياته، وتكوين صداقات، وتنمية حياته العاطفية، ثم المهنية؛ حيث يميل الشخص إلى تجنب المواقف الاجتماعية، أو الحد منها قدر الإمكان؛ ما يؤدي إلى استمرار تآكل ثقته بنفسه، وعزله عن محيطه.
تقول لوري هوكس: "في بعض الأحيان؛ لا يؤثر الرهاب في جميع مجالات الحياة"، فبعض الأشخاص يتأثرون فقط ضمن بيئتهم المهنية من خلال خوفهم من حكم الآخرين على عملهم، أو على شخصهم في إطار العمل، وهو أمر غير مستدام بالنسبة لهم. وفي هذه الحالة لن يتمكنوا من التحدث في الاجتماعات أو طلب زيادة راتب، وعلى الرغم من أن ذلك لن يمنعهم من العمل، فإنه سيحول دون تمتعهم بحياة مهنية مُرضية.
ويوضح أنطوان بيليسولو: "تُظهر الإحصائيات أن الأشخاص الذين يعانون من الرهاب الاجتماعي لا يصلون إلى المستوى المهني الذي يأملونه، وهم غالباً ما يعيشون بمفردهم، وهذا ما يفسر سبب تقدير مستوى معاناة الأشخاص الذين يعانون من الرهاب الاجتماعي بمستوى معاناة الأشخاص المصابين بالاكتئاب".
التغلب على الرهاب الاجتماعي
توضح لوري هوكس: "غالباً ما يكون الصوت الداخلي للشخص الذي يعاني من الرهاب الاجتماعي شديد الاتهام للذات، ويراقب أدنى أخطائه. ومن الناحية الاجتماعية؛ يعاني الشخص من التمزق بين خوفه ونقده الذاتي؛ ما يحول دون استفادته من أي تجربة يتعرض لها، أو اتخاذها كحافز له لخوض التجربة التالية".
- الخطوة الأولى نحو التعافي من الرهاب الاجتماعي هي قبول الشخص لمعاناته، وتوضح لوري هوكس: "تأتي أهمية ذلك على وجه الخصوص من أن الشخص المصاب بالرهاب غالباً ما يقع في فخ التبرير؛ إذ يقول لنفسه: "الأمر ليس سيئاً لهذه الدرجة.. أنا بخير لوحدي، وليس هنالك ما يستحق أن أبني علاقةً مع الآخرين". تعلّم أن تحب نفسك، لترى صفاتك، وتعلّم أن تلقي نظرةً خيرةً على نفسك من أجل قبول التعرض لصفات الآخرين.
- أهمية تقنية التعرض للمواقف المخيفة: "كما هو الحال مع اضطرابات القلق الأخرى؛ يوضح أنطوان بيليسولو أن للعلاجات السلوكية والمعرفية (CBT) الدور الأهم، كما يوضح أن الخضوع للعلاجات الجماعية هي الطريقة الأنسب. ويتم ذلك عبر خضوع الشخص "لنظرة" المرضى الآخرين، ثم إعادة التعرض لهذه المواقف في الحياة الواقعية، وهو نهج يجب أن يكون تدريجياً؛ ولكنه يعطي نتائج ممتازة.
ماذا لو كانت حالة الرهاب الاجتماعي شديدةً جداً بالفعل؟
يشير الطبيب النفسي هنا إلى أن حل اللجوء إلى العلاج بالعقاقير قد يكون مهماً، ويوضح: "كما هو الحال مع الاكتئاب أو رهاب الخلاء، فإن تأثيرات مضادات الاكتئاب ليست فورية، وتحتاج ما لا يقل عن 4 إلى 6 أسابيع لتتحقق. ويتجلى هذا التأثير في الحد من خوف المصاب بالرهاب الاجتماعي من خلال تقليل أعراض القلق المصاحبة للتعرض للمواقف الاجتماعية، وبالتالي، فهي تحسن نوعية حياة الشخص بوجه عام تدريجياً.
جدير بالذكر أن اللجوء إلى العلاج بالعقاقير يتم فقط في حالة الرهاب الاجتماعي الشديد الذي يسبب لصاحبه إحراجاً كبيراً للغاية، وعندما لا تكون العلاجات النفسية كافية، أو يتعذر إجراؤها.
اقرأ أيضا: ما هو اضطراب الشراء القهري؟