في 5 ديسمبر/كانون الأول عام 2023، نشرت مجموعة من كبار المتخصصين البريطانيين في الطب النفسي والسياسيين بالإضافة إلى ممثلين عن مرضى الاكتئاب رسالة مفتوحة في المجلة الطبية البريطانية (British Medical Journal)، يطالبون فيها الحكومة البريطانية بتقليل كمية مضادات الاكتئاب الموصوفة للأشخاص الذين يعانون الاكتئاب الخفيف في جميع أنحاء المملكة المتحدة؛ حيث اقترحت المجموعة 5 توصيات من شأنها أن تساعد على معالجة هذه القضية.
محتويات المقال
ووفقاً لما جاء في الرسالة، كثيراً ما تُوصف الأدوية المضادة للاكتئاب من أجل علاج حالات لا تحتاج فعلاً إلى الدواء، وإنما قد تحتاج إلى تدخلات أُخرى غير دوائية، لكن بما أن الاكتئاب يُعالَج في كثير من الأحيان إما سلوكياً وإما دوائياً وإما بمزيج من الطريقتين، فمتى يكون العلاج السلوكي أفضل؟ ومتى يكون الدوائي أفضل؟ إليك في هذا المقال الاعتبارات التي ينبغي النظر إليها عند تحديد الخيار العلاجي الأفضل للاكتئاب.
اقرأ أيضاً: دراسة جديدة تكشف الأضرار المستقبلية للإصابة بالاكتئاب في سن الشباب
متى يكون العلاج السلوكي أفضل؟
العلاج السلوكي هو أنواع العلاج النفسي، وقد يُسمى أيضاً العلاج بالكلام، وهو مصطلح شامل يضم أنواعاً مختلفة من التقنيات التي تهدف إلى تغيير السلوكيات المدمرة للذات وأنماط التفكير غير التكيفية. من أشهر هذه التقنيات العلاج السلوكي المعرفي والعلاج السلوكي الجدلي.
ومن المهم في البداية معرفة أن العلاجين السلوكي والدوائي فعّالان في علاج الاكتئاب، وغالباً ما يكون الجمع بينهما هو النهج العلاجي الأكثر فعالية؛ ومع ذلك، يمكن القول إن مدى ملاءمة أي منها يعتمد في بعض الأحيان على عوامل مختلفة، مثل التفضيلات الشخصية وشدة الأعراض وبعض الظروف المحددة، ومن المهم استشارة مختص الصحة النفسية لتحديد نهج العلاج الأكثر ملاءمة. عموماً، يكون العلاج السلوكي أفضل في الحالات التالية:
- اكتئاب خفيف إلى متوسط.
- تفضيل بعض المرضى الأساليب غير الدوائية.
- المرضى الذين يقدرون على فهم مشاعرهم وتسميتها، كذلك المرضى الذين يمتلكون الاستعداد والدافع لتحليل مشاعرهم وتنفيذ الواجبات المنزلية المختلفة التي قد تكون جزءاً من العلاج؛ إذ يُظهِر هؤلاء استجابة أفضل للعلاج السلوكي على الرغم من أنه ليس شرطاً مسبقاً.
- وجود حالات خاصة مثل الأطفال والمراهقين والنساء الحوامل والمرضعات واللواتي يخططن للحمل.
- عدم القدرة على تحمل العلاج الدوائي.
- وجود عوامل نفسية أو اجتماعية مهمة قد تسهم في حدوث الاكتئاب، مثل صراعات داخلية أو مشكلات العلاقات أو المشكلات الاجتماعية.
من المهم معرفة أن العلاج السلوكي يتمتع في بعض الأحيان بفعالية تماثل فعالية الأدوية المضادة للاكتئاب نفسها؛ بل أفضل منها أحياناً، كما وُجد أن العلاج السلوكي المعرفي على وجه الخصوص يكون أكثر فعالية في تقليل خطر الانتكاس عند مرضى الاكتئاب المزمن مقارنة بالمرضى الذين يعتمدون على مضادات الاكتئاب بمفردها.
اقرأ أيضاً: هذه الأدوية الشائعة قد تُصيبك بالاكتئاب!
متى يُوصى بالعلاج الدوائي؟
لا توجد موانع مطلقة للعلاج السلوكي؛ إنما قد يصعب في بعض الحالات التعامل مع مرضى الاكتئاب عن طريق العلاج السلوكي بمفرده، فيُوصى بالعلاج الدوائي حينها قبل التفكير بالعلاجات النفسية، مثل الحالات التالية:
- الاكتئاب الشديد.
- وجود أعراض شديدة مرافقة للاكتئاب مثل الذهان أو الأفكار الانتحارية أو كليهما.
- المرضى غير الراغبين أو غير القادرين على المشاركة في العلاج النفسي نتيجة أسباب مختلفة؛ مثل وجود اضطرابات شخصية شديدة مصاحبة للاكتئاب كالشخصية المعادية للمجتمع أو التمتع بقدرات ذهنية منخفضة.
- الحالات التي لا يكون فيها العلاج النفسي متاحاً أو لا يمكن الوصول إليه بسهولة، مثل قلة توافر المختصين النفسيين المدربين أو ارتفاع تكلفة العلاج.
وهنا يشير الطبيب النفسي، ناصر الهندي، إلى أن العلاج الدوائي لا يكون كافياً بمفرده في الحالات معظمها؛ إذ على الرغم من أنه يخفف التوتر والقلق ويعزز المزاج، فإنه لا يغير طريقة التفكير أو التعامل مع الآخرين؛ لذا من المهم أن يترافق مع العلاج السلوكي، بالإضافة إلى أن تغييرات نمط الحياة والنظام الغذائي والرياضة والاختلاط مع الناس الإيجابيين هي جميعها جزء لا يتجزأ من العلاج.
اقرأ أيضاً: مضادات الاكتئاب ليست دائماً الحل الأمثل لعلاج الاكتئاب
كيف تختار العلاج الأفضل؟
يتضمن الاختيار بين العلاجين الدوائي والنفسي عدة اعتبارات كما ذُكر آنفاً؛ لكن العلاجين كليهما فعّالان، ويؤدي الجمع بينهما إلى نتائج أفضل من أي علاج بمفرده في كثير من الأحيان؛ إذ تخفِّف الأدوية الأعراض بسرعة في حين يوفّر العلاج السلوكي فوائد طويلة الأمد. لكن في حال ما زلت محتاراً ما بين الخيارين، فإليك بعض العوامل الرئيسية التي تجب مراعاتها عند اتخاذ قرارك:
- شدة الاكتئاب ونوعه: قد تتطلب الحالات الأكثر شدة من الاكتئاب تناول الأدوية لتخفيف الأعراض على نحو أسرع، في حين قد تستفيد الحالات الأكثر اعتدالاً من العلاج النفسي وحده.
- التفضيلات الشخصية: إن استعدادك وراحتك مع أي من العلاجين أمر بالغ الأهمية، فإذا كنت تفضّل تجنُّب الأدوية أو لديك مخاوف بشأن الآثار الجانبية، فقد يكون العلاج النفسي أفضل لك.
- درجة الاستجابة للعلاج: عليك أن تعلم أن الاستجابة للعلاج، سواء النفسي أم الدوائي، تختلف من شخص إلى آخر، فإذا جرّبت أحد العلاجات سابقاً ولم ينجح، فقد تستفيد عند تجربة العلاج الآخر أو إضافته إلى السابق.
- الاستعداد للالتزام بالعلاج: يتطلب كلا العلاجين الالتزام والاستمرارية؛ فالنتائج لا تظهر بين ليلة وضحاها، إضافة إلى أن التوقف المفاجئ عن العلاج قد يؤدي إلى اكتئاب حاد أو مشكلات أخرى؛ لذا تأكد من استعدادك للالتزام بخطة العلاج، أياً يكن نوعه، قبل الشروع به.
من الضروري مناقشة هذه الخيارات بالتفصيل مع طبيبك أو مختص الصحة النفسية؛ إذ يمكنه تقديم توصيات شخصية بناءً على حالتك المحددة، بالإضافة إلى إجابة تساؤلاتك كافة، سواء فيما يتعلق بعدد جلسات العلاج السلوكي أو مدتها أو التأثيرات الجانبية للأدوية وما إلى ذلك.
اقرأ أيضاً: ما هي العادات التي قد تساعدك على الوقاية من الاكتئاب؟
هل يمكن أن يكون اختيار العلاج الأنسب أسهل في المستقبل؟
نعم على ما يبدو؛ إذ استطاع باحثون في دراسة حديثة منشورة في دورية نيتشر ميدسين (Nature Medicine) في النصف الثاني من شهر يونيو/حزيران في 2024، تحديد 6 أنواع فرعية من الاكتئاب، يتميز كل منها بخلل وظيفي محدد في مناطق محددة من الدماغ، وتحديد الأعراض التي تميز كل نوع منها، كما استطاعوا التنبؤ بالاستجابة الأفضل للعلاجات المختلفة بناءً على نمط الاكتئاب.
على سبيل المثال، وجد الباحثون أن أنواع الاكتئاب التي تتميز بفرط الاتصال في مناطق محددة من الدماغ، خصوصاً في مناطق الدماغ التي تنشط عندما يكون الشخص في حالة راحة والمناطق المرتبطة بالانتباه والاهتمام، تكون ذات استجابة أفضل للعلاج السلوكي وليس الدوائي؛ وذلك لأن النشاط الدماغي العالي يدعم تبني استراتيجيات مواجهة جديدة ومهارات حل المشكلات.
في المقابل، بالنسبة لأنواع الاكتئاب التي تتميز بنشاط منخفض في بعض مناطق الدماغ، خصوصاً المناطق المرتبطة بالانتباه والمشاركة، فقد لا يكون العلاج السلوكي وحده فعالاً في البداية؛ إذ يكون من الأفضل اللجوء في البداية إلى العلاج الدوائي من أجل تعزيز النشاط في هذه المناطق؛ ما يجعل المريض أكثر تقبلاً لفوائد العلاج السلوكي فيما بعد. يمكنك قراءة المزيد عن الدراسة في هذا الرابط.
عموماً، تسلط هذه الدراسة الضوء على أهمية تصميم العلاجات بناءً على أنماط النشاط الدماغي عند الأفراد المكتئبين؛ أي قد يلجأ الأطباء في المستقبل القريب إلى استخدام التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، المُستخدم في الدراسة، من أجل تقييم أنماط نشاط الدماغ؛ ومن ثم تحديد النمط البيولوجي المحدد للاكتئاب الذي يعانيه المريض، وتحديد أفضل علاج مناسب له؛ الأمر الذي قد يقلل فرصة ارتكاب الخطأ ويسرّع عملية الشفاء.