قد يكون عدم البكاء بالنسبة للطفل نوعاً من المقاومة التي يلجأ إليها نتيجة قلّة حيلته في ظل تضاؤل خياراته المتاحة. والطبيعي أن يمثّل البكاء أنجح طريقة للتواصل بين الطفل ومقدمي الرعاية له؛ والتي يوصل من خلالها احتياجاته الشخصية (كالجوع والعطش) ومشاعره وعواطفه حتى بعد قدرته على التحدث. فلماذا يُصبح البكاء وسيلة للمقاومة من وجهة نظر الطفل؟ ولماذا يتوقف الطفل عن البكاء عند ضربه؟
عدم البكاء من وجهة علم السلوك الإنساني
تحدث بورهوس فريدريك سكينر (Burrhus Frederic Skinner)، أحد علماء "علم السلوك الإنساني" (Human Behavior Science) في كتابه "العلم والسلوك الإنساني" (Science and Human Behavior) باستفاضة عن مفهوم سلوك "التحكم المضاد" (Countercontrol)؛ والذي يُعبّر عن مجموعة من السلوكيات الفعالة التي يفعلها الشخص (الطفل في حالتنا هذه) كاستجابة للسيطرة الاجتماعية غير المحببة، وذلك لمعاقبة سلوك الشخص المتحكم (الوالِدين أو مقدمي الرعاية في حالة الطفل الذي لا يبكي). وتتمثّل هذه السلوكيات في صور واضحة؛ مثل العدوانية الصريحة، والهروب من المواجهة، أو المقاومة السلبية. فعلى سبيل المثال؛ قد يفسر لنا مفهوم التحكم المضاد -كما تخبرنا هذه الدراسة- اختيار الطفل لعدم البكاء كطريقة لعقاب الوالدين أو مقدمي الرعاية لاختيارهم سلوك الضرب، ويقلّل من هيبة سيطرتهم الاجتماعية عليه.
ما الذي تقوله الدراسات عن ضرب الأطفال وعدم البكاء؟
تخبرنا إحدى الدراسات أن حوالي أربعة من كل خمسة أطفال في الولايات المتحدة الأميركية، قد مروا بتجربة الضرب في صورة الصفع على المؤخرة (Spanking) بحلول وقت دخولهم إلى روضة الأطفال. وبالنظر إلى الأدلة؛ وُجِد أن الصفع على المؤخرة أو غيره من أشكال العقاب الجسدي، يرتبط بانخفاض التطبّع الأخلاقي (Moral Internalization)، وزيادة كل من احتمالية العدوانية، والسلوك المعادي للمجتمع، ومشاكل الاستيعاب، بالإضافة إلى ضعف الصحة العقلية والنفسية، وانتشار العلاقات السلبية مع الوالِدين.
وبحسب نتائج دراسة مطوّلة أُجريت في جامعة تكساس - أوستن بالولايات المتحدة الأميركية، وجدت الباحثة أن جميع الدراسات التي تناولت حوادث ضرب الأطفال بغرض التأديب توصلت إلى أن الضرب أنتج في حقيقة الأمر أطفالاً أكثر عدوانية، بالإضافة إلى أن هذه الدراسات أثبتت عدم فعالية هذا الأسلوب التربوي. وفي نفس سياق الدراسة، فضرب الأطفال بغرض التأديب قد خلق نوعاً من "عدم الامتثال قصير وطويل الأمد" (Short-term and Long-term noncompliance)، مصحوباً بتغييرات سلوكية سلبية؛ مثل: زيادة مشاكل الصحة العقلية والنفسية في مرحلتي الطفولة والبلوغ، والسلوك المنحرف في الطفولة، والسلوك الإجرامي في مرحلة البلوغ، والعلاقات السلبية بين الوالدين والطفل، وأخيراً؛ ازدياد خطر تعرض الأطفال للإيذاء الجسدي.
وأيضاً في دراسة بعنوان "العواقب الاجتماعية والنفسية لعدم البكاء: ارتباط محتمل بعلم النفس المرضي والأهمية العلاجية"، أظهر الأشخاص الذين لا يبكون ارتباطاً وعطفاً أقل بالآخرين، وحصلوا على دعم اجتماعي أقل من الآخرين. كما أفادوا بأنهم أقل تأثراً بالمحفزات العاطفية، وكان لديهم أسلوب ارتباط أكثر تجنباً وأقل قلقاً.
قلة الأبحاث الأكاديمية التي تتناول ضرب الأطفال
بحسب هذه الدراسة؛ تعود قلة الدراسات التي تتطلب محاكاة ضرب الأطفال في بيئات تتم مراقبتها لأغراض بحثية (في مختبر ما مهيأ لدراسة تلك السلوكيات) إلى سببين: حظر "مجالس المراجعة" (Review Boards) بالجامعات والجهات البحثية بشكل قطعي، إجراءَ دراسات يتعرض فيها المُجرى عليهم الاختبار إلى أذىً غير مبرر. واستحالة وضع الأهالي وأطفالهم تحت الملاحظة المستمرة داخل بيوتهم دون تضرر النتائج التي يتم جمعها. وهاهنا قد تتأثر النتائج أيضاً بما يسمى "تأثير هاوثورن" (Hawthorne Effect)؛ والذي يحدث حينما يتصرف الأشخاص بشكل مختلف نتيجة معرفتهم أنهم يخضعون للمراقبة.
ضرب الأطفال والسلوكيات الاجتماعية
في دراسة حديثة، وجد العلماء أن العقاب البدني القاسي وسوء معاملة الأطفال (Harsh Physical Punishment and Child Maltreatment) يرتبطان بشكل واضح مع السلوكيات المعادية للمجتمع المحيط بهم بين البالغين. وفي نفس الدراسة، أشار العلماء أن العقاب البدني القاسي وسوء معاملة الأطفال بحسب التقديرات تساهم في حوالي 45.5% من السلوكيات المعادية للمجتمع بين الرجال، و47.3% من السلوكيات المعادية للمجتمع بين النساء في الولايات المتحدة الأميركية.
في الختام؛ لنعلم أن سلوكياتنا تجاه الأطفال هي ما يحفز سلوكياتهم التي قد تتسم بالمقاومة ومحاولة التهرّب من السيطرة في صورة -على سبيل المثال- عدم البكاء. ولنتذكر أن إساءة التعامل مع الأطفال الصغار ما هي إلا "نقش على الحجر" قد لا يُمحى بمرور الأيام، ويظل هناك في أعماقهم محفزاً لعزلهم اجتماعياً، ومؤثراً على جودة حياتهم، ومهدداً لصحتهم العامة على وجه الخصوص النفسية والعقلية. أخيراً؛ لندرك أن التعامل مع الأطفال بإيجابية يتطلب منّا عدم استخدام العقاب البدني (كالضرب) أو سوء معاملتهم لفظياً أو عاطفياً.