على حد تعبير الطبيب هشام حموده في بداية الندوة: "تشير التقديرات إلى أن واحداً من كل خمسة أطفال يعاني من اضطراب في الصحة العقلية والنفسية قابل للتشخيص في مرحلة ما من مراحل حياته".
المتحدثون:
هشام حموده: يعمل أستاذاً مساعداً في الطب النفسي، بكلية الطب في جامعة هارفارد. يعمل أيضاً كطبيب نفساني للأطفال في مستشفى بوسطن للأطفال. حاصل على جائزة "40 قائداً تحت الـ 40 في الصحة" (40 Under 40 Leaders in Health) في العام 2019، ويعمل على العديد من البرامج المتعلقة بالصحة النفسية والعقلية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
ألكسندرا تشن: نائبة رئيس جمعية خريجي هارفارد العرب (HAAA)، ومرشحة لدرجة الدكتوراة بجامعة هارفارد. مختصة في مجال الصحة النفسية وفي الصدمات النفسية ومهتمة بمواضيع صحة الأطفال النفسية. لها العديد من التجارب الطويلة في عديد من البلاد العربية مثل سوريا، ولبنان، ومصر، ومع اللاجئين في مناطق النزاع.
نبذة بسيطة:
شارك متحدثون الندوة تجاربهم وخبراتهم حول الصحة العقلية والنفسية للوالدين والأبناء المتراكمة عبر السنين في كلّ من الولايات المتحدة الأميركية والدول العربية. وحرصوا على ربط محاور الندوة بالتطورات الأخيرة المتسارعة التي يشهدها العالم أجمع نظير الموجات المتتالية لفيروس "كوفيد-19" المستجد والتغييرات التي تطرأ باستمرار على نمط الحياة اليومي الذي يعيشه الوالِدان والأبناء.
مجريات الندوة
الصحة العقلية والنفسية للأطفال بوجهٍ عام
أشار حموده في بداية حديثه إلى حقيقة أن الكثير منّا في الشرق الأوسط يصعب عليه التفكير بجدية عند الحديث عن سطوة الاضطرابات النفسية على صحة الأطفال النفسية والعقلية. بل بالعكس، تتسم عادة التصورات المبدئية عن الأمراض النفسية بأنها مشاكل صحية خاصة بالكبار فقط. على الرغم من أن الإحصاءات تخبرنا أن العديد من الاضطرابات التي نعرفها ليست حكراً على البالغين. فعلى سبيل المثال: قدّم الدكتور رقمين مهمين لمساعدتنا في تصوّر حقيقة تأثير الاضطرابات النفسية على الأطفال وصغار السن بشكل عام؛ يتمثّل الرقم الأول في أن نسبة الأطفال وصغار السن الذين يتم تشخيصهم بمرض نفسي في مرحلة ما خلال حياتهم يصل إلى 20%، أما الرقم الثاني فهو أن نصف هؤلاء الأطفال يتم تشخيصهم بأحد الاضطرابات النفسية قبل سن الرابعة عشر. وأشهر هذه الاضطرابات لدى الأطفال وصغار السن على حد وصفه: "اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه" (Attention-Deficit Hyperactivity Disorder ADHD)، واضطرابات القلق، واضطرابات الاكتئاب، حيث لا تخلو الفصول الدراسية من الأطفال الذين يعانون مع أحد هذه الاضطرابات النفسية.
في نفس السياق، أشارت ألكسندرا إلى أن التصوّر العام يخطئ ويحجّم من ضرر الاضطرابات النفسية بحيث لا يتم التركيز في العادة إلاّ على الاضطرابات الحادة، مع تجاهل تام في تعاطي المجتمع مع الاضطرابات الأكثر انتشاراً مثل القلق والاكتئاب. بالإضافة إلى أهمية تطبيع الحديث عن الاضطرابات النفسية لدى الأطفال وصغار السن حتى يتم التعامل معها بشكل صحيح.
الصحة العقلية والنفسية للأطفال في العالم العربي
طرحت ألكسندرا بعض الفروقات الجوهرية في السياق الاجتماعي بين الأسر العربية والأميركية، تعلمتها من زملائها في مجال الصحة العقلية والنفسية، على غرار كثرة الصراعات في المنطقة العربية والمشاكل التي تنعكس سلباً على مقدمي الرعاية والاهتمام للأطفال (Caregivers) في الشرق الأوسط. والأمر الآخر هو أن الاضطرابات النفسية بشكل عام في الدول العربية والعالم من الأمور التي تحمل وصمة اجتماعية سلبية، بحيث يتأخر التدخل إلى أن يصبح غير مفيد بتاتاً. والأمر الأخير يتمثّل في صعوبة إيصال مقدمي الرعاية الصحية العقلية والنفسية مع الفئات التى تحتاج للعناية الطبية المتخصصة، خصوصاً بين الأطفال وصغار السن. وهذه الصعوبة ما هي إلا نتيجة عدد من الأسباب التي تتعلق بالوالِدين والبيئة المحيطة والعادات والتقاليد المجتمعية التي قد تنعت الأشخاص الذين يبدون حاجة للمساعدة بـ "الجنون"، ما يجعلهم يفضّلون التكتم على حالاتهم واخفاء معاناتهم.
ويرى حموده أن الدول العربية فتقد للدراسات الاستقصائية ذات المصداقية في مجال الصحة العقلية والنفسية، وكثير من الأرقام التي يتم التعامل معها تكون مستقاة من دراسات إما تتناول العالم أجمع أو الدول ذات الدخل المنخفض (Low-income Countries). ومع الأسف، فكثير من الاضطرابات العقلية والنفسية لا تميّز بين دين أو عرق أو طائفة أو عمر محدد. والحقيقة أن المنطقة تعاني من صراعات تنعكس على الشعوب بكثير من الاضطرابات والصدمات النفسية.
العوامل المؤثرة في تصنيف الاضطرابات العقلية والنفسية في البلدان العربية
تحدث حموده عن الاختلافات التي تتم مشاهدتها عند مقارنة العديد من الدول الغربية مع بعض الدول العربية من حيث تقييم بعض الاضطرابات العقلية والنفسية وتصنيفها حيث تعذّر وجود وصف لغوي أو حتى المقارنة بسبب اختلاف ثقافات الشعوب العربية. فعلى سبيل المثال: علق حموده على تزايد الدراسات التي تتناول اضطرابات الأكل في المملكة العربية السعودية بسبب التأثر بالثقافة الأميركية. وأضافت ألكسندرا أن غالبية الدراسات التي تعتمد عليها كمرجعية أو "خط الأساس" (Baseline)، هي مبنية على فئة معظمها من الشعوب الغربية التي لا تمثّل أبداً الشعوب العربية وتختلف بشكل جذري عنّا؛ على سبيل المثال: البيانات والدراسات التي تُبنى على طلاب المراحل الجامعية في أميركا.
الاضطرابات العقلية والنفسية في زمن "كوفيد-19"
تحدث حموده عن الأزمة الحالية المستمرة التي دفعت الجهات الرسمية في الولايات المتحدة الأميركية إلى إعلان حالة الطوارئ بهدف تعزيز الوعي بأضرار الجائحة وتزايد حالات الاضطرابات العقلية والنفسية. على سبيل المثال: يذكر أن الإحصاءات تشير إلى ارتفاع زيارات الأطفال بعمر 5 سنوات إلى 11 سنة للعيادات النفسية بنسبة 24%، وزيادة عدد زيارات صغار السن بعمر 12 سنوات إلى 17 سنة للعيادات النفسية بنسبة 31%، وتضاعف عدد محاولات الانتحار بنسبة 50% بين الفتيات خلال الفترة القليلة الماضية. وما يزيد الأمر سوءاً هو تقهقر خدمات الرعاية الصحية أمام هذا الارتفاع حتى في أفضل نظم الرعاية الصحية حول العالم بما فيها الولايات المتحدة الأميركية. كما تضيف الجائحة مشاكل جمّة مثل فقدان الرعاية والاهتمام بالأطفال أو تزايد عدد حالات إساءة التعامل مع الأطفال.
على الناحية الأخرى، تخبرنا ألكسندرا عن غياب محزن لهذه الأرقام في الدول العربية ما يفاقم من مشاكل اضطرابات الصحة النفسية والعقلية. وبعض الأخبار المحلية المتفرقة التي ذكرتها ألكسندرا لا تتعدى التركيز إمّا على حالات الانتحار الفردية أو تزايد محاولات الانتحار بين مقدمي الرعاية والاهتمام بلأطفال أو صغار السن أنفسهم.
كيف يمكننا التعامل مع الاضطرابات العقلية والنفسية؟
اتفق المتحدثون على أهمية الإنصات لما يقوله الأشخاص من حولنا خصوصاً الأطفال والصغار. بالإضافة إلى أهمية التمتع بالصبر والحلم والانفتاح التام والتفهّم عند الاستماع لما يقوله الآخرين لنا ما يعظّم من فائدة تلك الحوارات. فعلى سبيل المثال: تبني هذه المهارات أرضاُ مشتركة بين الوالِدين والأبناء ما يخلق بيئةً داعمةً تحفّز ترجمة المشاعر التي يعيشها الأطفال وصغار السن. الأمر الآخر، تحدث حموده عن أهمية بدء الوالِدين بإدارة صحتهم العقلية والنفسية وتعزيزها قبل السعي لدعم الأطفال وصغار السن. ومن ثم، يجب على الوالِدين تعليم أبنائهم كيفية التعامل مع مشاعرهم وكيفية الاستجابة لها. وأخيراً، تمحور الحديث حول أهمية عودة الروتين المدرسي لحياة الأطفال وصغار السن بحيث يتم شغل وقتهم وإبعادهم عن البيئة المحيطة التي لا تخلو من المنغصات والأخبار المقلقة، بالإضافة إلى عودة تواصلهم مع أقرانهم عن قرب ودور ذلك في تخفيف وطأة الجائحة على صحتهم العقلية والنفسية.
أما ألكسندرا فقد تحدثت عن أهمية وجود دوائر دعم اجتماعية لدى الوالِدين ووجود تلامس عاطفي حقيقي متمثّل في ممارسة بسيطة كالأحضان والتواصل عن قرب بلطف وتعاطف.كما أكدت على أهمية سعي الوالِدين لمساعدة أطفالهم في تسمية المشاعر والعواطف التي يمرون بها بحيث يتم التعرّف عليها وتشخيصها مبدئياً. فعلى سبيل المثال: قد يشعر بعض صغار السن بمشاعر الغضب أو الاكتئاب أو القلق نظير تأثرهم بتداعيات الجائحة على الحياة الاجتماعية الاجتماع بأقرانهم أو انعدام النشاطات خارج المنزل أو غير ذلك من النشاطات الاجتماعية. ومن المهم أيضاً خلق بيئة خالية من الضغوط والأخبار المقلقة قدر الإمكان. وأخيراً، يتحتم على الوالِدين خلق توازن في الروتين اليومي لأطفالهم من خلال إضافة نشاطات ذات مشاعر وعواطف إيجابية تساعد في التعامل مع الاضطرابات العقلية والنفسية.
ختاماً، تساعدنا هذه الندوة في إعادة النظر للفجوات العميقة في مجال الصحة العقلية والنفسية في عالمنا العربي، ولعل أهم الخطوات هي حرصنا بشكل فرد على الإلمام بمجال الصحة العقلية والنفسية. كما يجب أن نعمل على تقوية وتصحيح استجابتنا كمقدمين للرعاية والاهتمام للأطفال وصغار السن من حولنا. لذا ندعوكم للاطلاع على المقالات المتوفرة لدينا مثل: "الوقاية من عمليات انتحار الأطفال"، و"متى تأخذ طفلك إلى طبيب نفسي؟".