تقرير خاص

مشاركة الأطفال في البحوث العلمية طريقة فعالة للإصغاء إليهم

6 دقيقة
صنع القرار
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: إيناس غانم)

"ما الذي يحتاج إليه الأطفال؟"، مَن تُمكنه إجابة هذا السؤال؟ في الواقع، يُستبعد الأطفال، في أغلب الأحيان، من عملية صنع القرار حتى حينما لا يتعلق الأمر إلا بهم؛ ما يدفعنا إلى التساؤل حول الأسس التي يجب أن يستند إليها صُناع القرار في أثناء عملية صنع السياسات الخاصة بالأطفال، سواء كانت في مجال الرعاية الصحية أو التعليم أو التطور المعرفي، أو غير ذلك.

تظهر هنا أهمية السياسات المستندة إلى الأدلة (Evidence-Based Policymaking) ، وتُعرف بأنها عملية صنع القرار التي تستعين بالأساس بالأدلة البحثية ذات الصلة، في صياغة سياسات أفضل لتنمية الطفولة المبكرة وتصميم البرامج والممارسات التي تؤثر إيجاباً في حيوات الأطفال دون سن الثامنة، ومقدمي الرعاية لهم، والنظام البيئي للطفولة المبكرة.

تشكل هذه الطريقة في تصميم السياسات وسيلة فعالة للإصغاء إلى الأطفال، ومعرفة احتياجاتهم، في أثناء صنع القرار؛ إذ تعتمد البحوث التي تستند إليها عملية صنع القرار، على مشاركات أصحاب المصلحة؛ بمن فيهم الأطفال أنفسهم.

فعلى سبيل المثال؛ حينما أثبتت الأبحاث التي أجرتها هيئة أبوظبي للطفولة المبكرة (ECA) أن الأطفال ذوي الأوزان المنخفضة عن الوزن الطبيعي عند الولادة يواجهون تحديات في التطور اللغوي والعصبي لا تظهر حتى سن الخامسة أو سن دخول المدرسة بطبيعة الحال، عرضت الهيئة الأمر على مؤسسة زايد العليا لأصحاب الهمم التي لديها استمارات بحقول واضحة تملؤها دائرة الصحة، فإذا كان الطفل من أصحاب الهمم يسجَّل تلقائياً في قاعدة بيانات المؤسسة. وبناءً على النتيجة الجديدة؛ طلبت مؤسسة زايد من دائرة الصحة إضافة حقل الوزن، فإذا كان وزن الطفل منخفضاً عن الطبيعي يُسجل في قاعدة البيانات تلقائياً طفلاً من أصحاب الهمم ويتلقى الدعم المناسب.

إرساء ثقافة البحث العلمي عبر مشاركة أصحاب المصلحة

يحتاج نشر هذه الممارسة إلى تعاون مشترك بين الأطراف الثلاثة؛ وهي الجهات الحكومية للاستثمار في بيئة البحث العلمي واتخاذ قرارات مستندة إلى البيانات، والأوساط الأكاديمية لإجراء دراسات مستمرة لتنمية الطفل، وأولياء الأمور ومقدمو الرعاية الذين يسهمون في البيئة البحثية في مجال تنمية الطفولة المبكرة من خلال المشاركة النشطة في البحوث والدراسات.

ولهذا الغرض؛ أطلقت هيئة أبوظبي للطفولة المبكرة (ECA) حملة لزيادة الوعي حول خلق ثقافة البحوث العلمية، استهدفت الأطراف الثلاثة؛ إذ تفيد هذه البحوث في وضع سياسات تنمية الطفولة المبكرة وتصميم البرامج والممارسات التي تؤثر تأثيراً إيجابياً في حيوات الأطفال.

بدأت حملة إرساء ثقافة البحث العلمي باجتماع في أواخر شهر سبتمبر/أيلول الماضي ضمّ مجموعة العمل البحثية لهيئة أبوظبي للطفولة المبكرة، من الممثلين لقطاعات الهيئة المختلفة والباحثين العاملين في المشروعات البحثية، وتلته سلسلة من الأنشطة المجتمعية والأجنحة التفاعلية واللوحات التوعوية في المساحات العامة في مدن مختلفة بأبوظبي. إضافة إلى ذلك، نظمت هيئة أبوظبي للطفولة المبكرة مجموعة من الورش بالتعاون مع جامعتَي محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي وجامعة زايد لاستكشاف طرائق جديدة للتعاون بين الحكومة والأوساط الأكاديمية.

وفي أواخر أكتوبر/تشرين الأول، نظمت هيئة أبوظبي للطفولة المبكرة خلوة البحث العلمي في تنمية الطفولة المبكرة، وتلتها حلقة نقاشية بعنوان "تسخير أبحاث تنمية الطفولة المبكرة لتوجيه السياسات"، بمشاركة نخبة من الشخصيات الحكومية والأكاديمية؛ ومن بينهم رئيس دائرة تنمية المجتمع في أبوظبي، الدكتور مغير الخييلي، ووكيل دائرة الصحة - أبوظبي، الدكتورة نورة الغيثي، والمدير العام لهيئة أبوظبي للطفولة المبكرة، سناء سهيل، والمدير المشارك لمعهد أبحاث صحة مراحل الحياة (Institute for Life Course Health Research) في جامعة استيلينبوش بجنوب إفريقيا، الدكتور مارك توملينسون، وغيرهم.

ناقش المشاركون في هذه الفعاليات سبل تعزيز الشراكات عبر التخصصات الأكاديمية والقطاعات المتعلقة بتنمية الطفولة المبكرة، بالإضافة إلى بناء الجسور بين الأوساط الأكاديمية والقيادة الحكومية والمجتمع الأوسع للإسهام في أبحاث تنمية الطفولة المبكرة القوية والمبتكرة والمؤثرة في النظام البيئي في أبوظبي، وكيفية مشاركة البحوث في صياغة سياسات أفضل في القطاع الاجتماعي باعتباره ركيزة مشتركة استراتيجية للحكومة والأوساط الأكاديمية والمجتمع.

من خلال توحيد جهود أصحاب المصلحة الثلاثة، سيتمكن المجتمع من الاستفادة من قوة البحوث المستندة إلى الأدلة لتوجيه السياسات في القطاع الاجتماعي وتشكيلها، وفقاً للخييلي خلال كلمته في افتتاحية الحلقة النقاشية، مؤكداً إن هدفهم هو تعزيز نهج شامل للتنمية يضمن ألا ترتكز السياسات على الأبحاث فحسب؛ بل تستجيب أيضاً إلى الاحتياجات والتطلعات الفريدة للسكان المتنوعين.

تشجيع الأوساط الأكاديمية لتعزيز البحوث المحلية

على الرغم من أهمية البحوث والدراسات التي تجريها الجامعات والمعاهد والمنظمات الدولية، فإن لكل مجتمع خصائصه الفريدة التي تفرض معطيات مختلفة بطبيعة الحال. فتقول سناء سهيل: "إنه من خلال التركيز على الأبحاث ذات المصادر المحلية، فإننا نضمن أن الاستراتيجيات التي نعتمدها متجذرة في واقع مجتمعنا؛ ما يجعلها أكثر تأثيراً واستدامة"، مؤكدة إيمان القيادة منذ البدايات بأهمية تنمية الطفولة المبكرة من خلال ثقافتها التربوية التي توارثها الأجيال عبر قرون مضت.

وكانت إحدى الخطوات العملية التي اتخذتها هيئة أبوظبي لتشجيع الأوساط الأكاديمية على إعداد البحوث والدراسات المتخصصة في مجال تطوير الطفولة المبكرة، ولا سيّما المحلية، تصميمها برنامجاً لتمويل المنح البحثية لدعوة الباحثين إلى تقديم مقترحات بحثية حول موضوعات مختلفة، فمثلاً دعت الدورة الأولى لبرنامج المنح الباحثين إلى تقديم مقترحاتهم حول فجوتين معرفيتين رئيستين ضمن قطاع تنمية الطفولة المبكرة؛ وهما تأخر التدخل المبكر للأطفال ذوي الهمم والغياب المتكرر عن المدرسة.

وقدم البرنامج حينها تمويلاً قدره 1.2 مليون درهم لخمسة مشروعات أدت إلى توصيات سياسية؛ من ضمنها دراستان لمعرفة أسباب التغيب المتكرر عن المدرسة بين الأطفال الصغار في أبوظبي، ومشروعان بحثيان لتقييم معرفة المهنيين العاملين في القطاع الصحي وسلوكياتهم فيما يتعلق بدعم الأطفال الصغار ذوي الهمم وأسرهم في أبوظبي؛ في حين يسعى المشروع البحثي الخامس إلى تقييم مدى تطور اللغة لدى الأطفال الذين يعانون اضطرابات تطور اللغة والنطق.

وفي الدورة الثانية، قدمت الهيئة منحاً بإجمالي 6.65 ملايين درهم لدعم 14 مشروعاً بحثياً، تنوعت موضوعاتها بين استكشاف دور الآباء في السنوات الأولى، وتقييم احتياجات العمالة في مجال تنمية الطفولة المبكرة في أبوظبي، ودراسة العادات التي تؤثر في الصحة والتغذية لدى أطفال أبوظبي وعائلاتهم.

أهمية مشاركة الأطفال وكيفية التعامل معها

يمكن أن يساعد إجراء الأبحاث بمشاركة الأطفال في فهم ما يفكرون فيه بشأن القضايا التي تؤثر فيهم، للخروج بسياسات أكثر ارتباطاً بالأطفال، عكس السياسات المصممة بمعزل عن مشاركتهم، إلى جانب أن تفاعل الأطفال مع الأشخاص الكبار بطريقة آمنة من خلال المشاركة في الدراسات البحثية سيعزز ثقتهم ويطور مهاراتهم الشخصية والاجتماعية.

فإضافة إلى المنح البحثية المشار إليها مسبقاً، تدعم الهيئة مجموعة من البحوث التي تُجرى حول الموضوعات المهمة التي تؤثر في حيوات الأطفال الصغار؛ ومنها سلسلة دراسات تُعنى بالحصول على موافقة الأطفال وضمان الترحيب بوجهات نظرهم وأخذها في الاعتبار.

فتقول رئيسة قسم البحوث في هيئة أبوظبي للطفولة المبكرة، حمدة السويدي: "إن الهيئة تؤمن بأهمية وضع صوت الطفل في الاعتبار في أثناء تنفيذ البحوث وتطوير السياسات التي ستؤثر في رفاهه ومستقبله"، مؤكدة إن هذا المشروع سيمكّن الهيئة من تسليط الضوء على آراء الأطفال وتوفير الأمان والحماية لهم عند المشاركة في بحوث تنمية الطفولة المبكرة ودراساتها؛ بما يسهم في الوصول إلى بيانات عالية الجودة ونتائج أكثر فعالية.

وتتطلب مشاركة الأطفال تهيئة بيئة مناسبة وآمنة، وخلق بيئة تشريعية تراعي أخلاقيات التعامل مع الأطفال في أثناء عملية البحث، وفهم الباحثين أن إجراء البحث من أجل البحث ليس سليماً من الناحية الأخلاقية؛ بل يجب عليهم تقييم مبررات إجراء الأبحاث مع الأطفال، وتحديد فوائد واضحة، للتأكد من تحقيق التوازن بين احتياجات البحث والحاجة إلى كل من سماع أصوات الأطفال وتقليل مخاطر الضرر.

ثمة عدة طرائق لجمع المعلومات عن الأطفال وحيواتهم؛ مثل سؤال الأطفال عن مشاعرهم وآرائهم وتجاربهم من خلال المقابلات وجهاً لوجه، أو في مجموعات التركيز مع الأطفال أو استطلاعات الرأي، أو عن طريق مراقبة سلوكيات الأطفال باستخدام تجارب وأنشطة خاضعة إلى المراقبة أو في بيئة غير خاضعة للرقابة لمعرفة كيفية تفاعلهم في أثناء مواقف محددة، أو تحليل المعلومات الموجودة في الملفات المتعلقة بالأطفال. على سبيل المثال؛ مراجعة المعلومات الموجودة في سجلات حالات الرعاية الاجتماعية أو مراجعات الحالات أو ملفات المدرسة.

وهناك بعض الأمور التي يجب على الباحثين وضعها في اعتبارهم؛ مثل تكييف أدوات البحث لتلبية احتياجاتهم وقدراتهم، واختيار وقت ومكان يسهّلان على الأطفال الوصول، والتأكد من أخذ موافقة مسبّقة مستنيرة من الأطفال أو أولياء أمورهم، وذلك بعد التأكد من أنهم يفهمون تماماً ما هو البحث وهدفه، والمتوقع من المشاركين، وفوائد المشاركة في البحث ومخاطرها، وأن مشاركتهم تطوعية؛ ما يضمن خلق بيئة آمنة للمشاركة.

تحفيز المجتمع وأولياء الأمور

يعد دور أولياء الأمور محورياً مثل دور الحكومة والأكاديميين؛ إذ يُعد تشجيعهم على المشاركة في هذه العملية خطوة أساسية لتعزيز ثقافة البحوث، ومن أهم الركائز لتفعيل هذه الخطوة هي طمأنتهم بأن العملية ستجري في بيئة آمنة، وأن خصوصيتهم ستكون محمية، وأن الاعتبارات القانونية والأخلاقية والمعنوية كلها قد أخذها الباحثون والإداريون القائمون عليها بعين الاعتبار.

تشجع جهود الهيئة الأُسر على مشاركتها في هذه العملية، وتدعم أولياء الأمور الذين تُمكنهم المشاركة في البحوث العلمية وهم مطمئنون.

فتؤكد سناء سهيل أهمية مشاركة الأسر في هذه العملية، موضحة إن الهيئة تملك أنظمة قوية تضمن بيئة بحث أخلاقية وآمنة لمشاركة الآباء والأطفال، مع العلم بأن خصوصيتهم وبياناتهم ستكون محمية، ويُتعامل معها أخلاقياً على المستويات كافة.

يحتاج الأطفال إلى الإصغاء إليهم، ليس فقط في القرارات العائلية والشخصية؛ إنما أيضاً عند تصميم سياسات تتعلق بهم، وهنا تعد السياسات المستندة إلى أدلة متمثلة في البحوث العلمية خطوة فعالة للإصغاء إليهم والاهتمام بآرائهم في أثناء تقرير مصائرهم.

المحتوى محمي